تفسير (وأما بنعمة ربك فحدث)

 


    ظن أهل التراث أن المقصود بالآية {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}([1]) أن الرسول عليه السلام مأمور أن يذهب إلى الناس، يحدثهم عن أملاكه، وعقاراته ورؤوس أغنامه وأبله! وهذا محال على الرسول، بل مكروه في الإنسان العادي ناهيك عن النبي الكريم، فلا يصح التباهي حتى وإن كان المقصد شكر الله أمام الناس، فهناك فقراء يتألمون ويشعرون بالحسرة والحزن لفقرهم، وشكر الله يكون بكلام عام وذكر خيراته على كل البشر وليس على نفس الإنسان.

بينما النص حقيقة، يحث الرسول على نشر الدعوة فهي النعمة الحقيقية التي وهبت له، فالرسول في تردد بسبب ردة فعل الناس الذين ظلوا لقرون يعبدون الأصنام التي وهبتهم خيرات عظيمة، وملك ممتد من الشام إلى اليمن كما يظنون، فيأتي محمد ويفسد عليهم هذا الجو الديني الروحاني المريح

    لقد كانت هذه أول سورة نزلت تحث الرسول على فعل ذلك، ثم تلتها سور أخرى مثل:{قُمْ فَأَنذِرْ }([2]) و{يَٰأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ }([3])  والتي تزعم الروايات أن الرسول تزمل من شدة نقد قريش واتهامهم له بالسحر والجنون. ونصوص أخرى تؤكد دفع الله للرسول للقيام بالدعوة ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴾([4]) أو قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }([5])  وغيرها من النصوص الكريمة

    والدليل القرآني المؤكد أن النعمة مصطلح يقصد به الرسالة والكتاب الجديد، فهو نعمة عظيمة ما بعدها نعمة، ولهذا قال في الفاتحة: {صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ}([6])  وهم اليهود والنصارى الذين أنعم الله عليهم بكتب سماوية ثم بعد ذلك جاءت تلك النعمة لمحمد فلهذا أمره بالحديث عنها والدعوة إليها. وقد بين القرآن موقف اليهود السابقين من الرسالة { سَلْ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَٰهُم مِّنْ ءَايَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}([7])  فبعد أن جاءتهم الرسالات وحاربوها عاقبهم المولى أشد العقاب

    وفي نص آخر موجه إلى الرسول { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } ([8])  أي أنك يا محمد لست مجنونا بنعمة الوحي كما يزعم الكفار بل هي نعمة عظيمة.  وفي نص آخر {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَ لَا مَجْنُونٍ} ([9]) فهم يتهمونه بالكهانة والسحر والجنون. ولا يعقل أن يتهمونه بهذه التهم وهو يحدثهم عن ممتلكاته، لكنه كان يحدثهم عن الدين الجديد.

    وعندما بحثت في كتب التراث وجدت مجاهد بن جبر قد توصل إلى هذا المعنى الذي فهمته ببساطة من خلال السورة، فبين أن النعمة هي القرآن وفي رواية أخرى أنها الرسالة

    ويبدو أن مجاهد بن جبر كان مرفوض التفسير، لأنه بزعمهم كان يأخذ من أهل الكتاب، ومن صحيفة جابر([10]). وقد كانوا في تلك الفترة المبكرة يكرهون النقل من الكتب ويفضلون العلم الشفهي، لأن الكتابة يحدث فيها التصحيف، ويجب أخذ العلم من إنسان حي وليس من كتب ميتة. وأرجح أنهم لا يأخذون بتفسيراته لما فيها من الطرافة والحداثة والأصالة والاقتراب من المعنى الحقيقي للنص الذي يخالف منهجهم الروائي الذي سيطر على التفسير.

    وهذا الرأي- رأي مجاهد- لم ينتشر ويأخذ حقه وأخذوا برأي عمر بن عبدالعزيز وآخرين من كبار المشهورين، الذين يرون أن المقصد هو الشكر أي أن ذكر النعمة التي عندك، هي من الشكر لله؛ فالنص يقصد الحث على الشكر كما يتصورون، فتدعوك الآية أن تجلس بين الناس وتحدثهم عن ممتلكاتك وخيراتك لكي تقهر فقيرهم بلا أي ذوق

    وقد استحقت الرسالة والكتاب وصف النعمة، لأنها أعظم النعم التي أنعمها الله على البشر، ففيها رشادهم وخلاصهم ولولا الرسالات لكانوا يعيشون في الغابات مثل القرود، ولما استطاعوا بناء حضارات ودول. وقد استطاعت هذه النعمة التي نزلت على الرسول عليه السلام أن تكون أعظم امبراطورية عربية قرشية فأي نعمة بعد هذه النعمة

وخلاصة القول

    إن الرسول كان مستشرفاً لموقف قريش من الدين الجديد، وأنهم سيتهمونه حتماً بأبشع التهم وسيشوهون سمعته وسوف ينبذونه، لهذا جاءت عدة سور تأمره بالدعوة المباشرة

 علي موس الزهراني

أنظر

 موسوعة التفسير المأثور (22/ 331)

موسوعة التفسير المأثور (23/ 338):

 موسوعة التفسير المأثور (23/ 340):

الطبقات الكبرى ط دار صادر (5/ 467):

 

 



([1])[الضحى: 11]. 

([2])[المدثر: 2]

([3])[المزمل: 1].

([4])[الغاشية: 21] 

([5])[الحجر: 94].

([6])[الفاتحة: 7]

([7]) [البقرة: 211].

([8])  [القلم: 2]

([9])[الطور: 29].

([10])الطبقات الكبرى ط دار صادر (5/ 467):


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -