رحب كما تشاء



    عشرات المرات التي أقابل فيها ما يسمون بالملتزمين، فيسلمون علي، فأرد عليهم بأي تحية تبرق في ذهني، وأشبعها بكثير من الود والمحبة، الظاهرة في الصوت والصورة، فيغضبون أشد الغضب. بعضهم من شدة قسوته وصغار عقله يعاود السلام بنبرة قاسية، فانتبه لنفسي وأرد عليه السلام، ولكن بفتور شديد وبرود، بسبب ردة فعله القاسية.

    ذات مرة قابلني أحدهم وكان بيني وبينه ود واحترام، فسلم، فلما رددت السلام بالترحيب والتهليل.

قال: لماذا أنت دائماً لا ترد السلام!؟

    هذه المرة تمرست وصرت أجرأ على الرد عليهم؛ فقلت له: 

ألم يقل المولى في كتاب الكريم {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}  [النساء: 86].

     لقد أباح المولى أي تحية طيبة، ولم يجعلها ضيقة في نص واحد يصيب الناس بالممل والضجر، وتنتزع منها التلقائية والسخونة، فتصبح باردة، وبهذا تفقد غرضها وهو حسن التواصل مع الناس.

    لقد ظنوا أن بعض النصوص تحصر التحية بالسلام فقط، مثل هذا النص الكريم {وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَٰمٌ }  [يونس: 10]. وغيره من النصوص، وهذه النصوص، تشير إلى لحظة تاريخية فبعد الرعب العظيم الذي يحل بالأرض يوم القيامة تستقبلهم الملائكة بهذه التحية وليس المقصد منها نصها وحرفها، بل هو بث الطمأنينة لهؤلاء المفزوعين الهاربين من أهوالها، فالنص لا يقول أنهم هم من يسلم بل الملائكة هي التي تسلم عليهم ويؤكد كلامي نصوص أخرى مثل:

﴿وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ ‌عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾ [الأعراف: 46] 

﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ ‌عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23-24] 

﴿يَقُولُونَ سَلَامٌ ‌عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32] 

فالملائكة هي التي تلقي السلام عليهم أي تقول لهم لقد نجوتم من الشر وحل عليكم السلام الدائم وستدخلون الجنة عما قريب.

    واليوم وأنا أقلب الصفحات وجدت الألباني يصحح حديثاً ورد في كتب البخاري، ونصه: " حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي النضر أن أبا مرة مولى أم هانئ ابنة أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ تقول: ذهبت إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو يغتسل فسلمت عليه فقال من هذه قلت أم هانئ قال مرحبا "([1]) وهذا يعني سعة التشريعات وأنه لا محرمات ولا محظورات ولا مكروهات إلا ما فيه ضرر شديد على الناس وحياتهم، وما دونها فلكل نفس طريقتها في الورع وأن المبالغة في الورع هو انحراف عن النهج السليم وطريق يحث عليه الشيطان لكي يصنع إنساناً موغلاً في التطرف والكراهية والضيق.

هذا والله أعلم 

 علي موس الزهراني

 


([1])الأدب المفرد (ص: 359)

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -