تفسير قوله تعالى: أرني كيف تحي الموتى

 


 

تفسير قوله تعالى أرني كيف تحيي الموتى.

طلب إبراهيم عليه السلام من ربه أن يريه كيف يحيى الموتى

فلماذا أمره الله أن يأخذ أربعة من الطير ويوزعهم على بعض الجبال؟

وما علاقة هذا بشأن الموت والموتى؟

ولماذا لم يحي المولى جل جلاله أحد الأموات وانتهى الأمر؟

{ وَ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَ لَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }  [البقرة: 260].

لن نفهم هذه الحكاية جيداً إلا بفهم مفرداتها، ولكن قبل البحث في المفردات، يستحسن أن نعرج إلى كتب التراث فنبحث ما فيها لعلها تفيدنا في فهم النص الكريم.

لكن للأسف يزعمون أن إبراهيم شك وأن الرسول قال في ذلك: " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ‌ليطمئن ‌قلبي}. ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبث في السجن طول ما لبث يوسف، لأجبت الداعي " ([1]) وهذا تطاول على سيدنا إبراهيم ومعلمنا الأكبر، وحتى لو شك فعلاً فلن يقول الرسول نحن أحق بالشك، والشك سوء ظن بالله يؤدي إلى الكفر لاحقاً.

ولست أدري لماذا يوردون هذه الأكاذيب فما فائدتها لأجيال الشباب الذين يعانون من موجة الإلحاد، والعجيب أن هؤلاء القوم الذين يصرون على صحة هذا الحديث لو طرحت عليهم شبهة أو إشكالية لكفروك وكفروا سابع جد لك، ثم يزعمون أن الرسول يقول نحن أحق بالشك.

ونقول إن إبراهيم لم يشك في قدرة الله على الإحياء، بل تذكر السورة وقبل هذه الآية بآيتين أنه كان يجادل النمرود ويؤكد له أن الله يحي ويميت، فكيف يستطيع المجادلة وهو في داخله شك، { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَٰهِمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَىٰهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ وَ يُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِ وَ أُمِيتُ} [البقرة: 258].فالله المستعان.

أما كلامهم عن مفردات النص الكريم وهي الصر والجزء، فابن عباس يرى أن صرهن يعني قطعهن ([2]) وقد أجمع المفسرون على أن صرهن أي قطهن إلا شخص كناه الرازي بأبي مسلم، ولعله محمد بن بحر المعتزلي، فقد رأى أن صرهن أي أملهن ([3]) كذلك لأبي مسلم رأي حول جزء فهو يرى أن الجزء هنا يعني الواحد، فقد أمره الله أن يجعل على كل جبل واحد من تلك الطيور فهي جهات أربع تحتاج إلى أربعة من الطير، وهذا يعني أن الرجل لا يصدق حكاية تقطيع تلك الطيور وتمزيقها.

مفردات النص الكريم المبهمة:

 نجد في النص عدة مفردات قد تكون مبهمة، فمثلاً موتى تعني من هم في القبور كما شرحنا ذلك في قاموس القرآن الكريم، كذلك نجد صر في صرهن إليك، والصر كما تبين لي هو تكرار الصوت، وسوف نشرح ذلك بالتفصيل في القاموس، أما (جزء) فهو نصيب من الشيء، وقد ورد في القرآن بهذا المعنى {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَٰبٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ }  [الحجر: 44]. فلجهنم سبعة أبواب، ولكل باب جزء من البشر، ولا يعقل أن يكون هذا الجزء قدم أو يد أو رأس، بل هو إنسان كامل فلا يمكن تقسيمه. وهذا يعني أن إبراهيم لديه أربعة من الطير وزعها على تلك الجبال لكل جبل جزء. وأرجح أن الجبال عددها ثلاثة فجعل في أحدها طيرين، وقد تكون الطيور متنوعة فجعل في كل جبل طير يختلف عن الآخر.

ما الذي طلبه إبراهيم من الله بالضبط؟

إبراهيم عليه السلام طلب من الله أن يريه كيف يحيى الموتى دفعة واحدة ولو كان يبحث عن كيفية الإحياء لطلب إحياء شخص واحد لكنه يبحث عن كيفية إحياء كل هؤلاء الموتى دفعة واحدة.

فمتى يكون هذا الإحياء؟

سيكون هذا الإحياء يوم القيامة، عندما يناديهم الله فيقومون من موتهم ويتجهون إلى المحشر، فإبراهيم يتعجب من تلك القدرة الإلهية الهائلة، فطلب الكيفية أي كيف يا الله تفعل هذا العجاب. {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ }  [الروم: 25].

فأراد الله أن يقرب له الصورة، فأمره بأن يجلب الطيور وأرجح أنها دواجن متنوعة، لا تطير فهي تتحرك بالسعي، والسعي يعني التوجه نحو هدف معين بسرعة كما سوف ندرس في القاموس، مثل البط والوز والدجاج، وأمره أن يقوم بتربيتها وأن يدربها على صوته وذلك هو الصر فالصر هو تكرار الصوت، وكلنا يتذكر عندما كان يربي البهائم ويدربها على صوته عندما يريد اطعامها أو جلبها لشرب الماء، وأتذكر والدتي كانت تنادي دجاجاتها بـــ "طاطاطا" فتأتي بسرعة البرق سعياً نحو أمي. هذا ما فعله إبراهيم فقد دربها على صوته بالصرصرة، فصارت تألفه وتوده وتبحث عنه حتى يطعمها.

ثم بعد ذلك صعد الجبال وفي الغالب، فوضع في كل جبل جزء لأن تلك الدواجن مختلفة فلو كانت من صنف واحد لقال واحدة وليس جزء، وتنويع الطيور له غرض كما سنرى.

وضع تلك الطيور وهي في أتم الصحة والعافية، فلم يمزقها ويقطعها كما تصور أسلافنا غفر الله لهم، فلو كان سؤال إبراهيم عن بعث الحياة بعد الموت، لقلنا نعم هو كذلك ولاختار المشتقة أموات وليس موتى، ولو كان يبحث عن ذلك فما الداعي إلى توزيعها في الجبال؛ فيمكن أن يمزقها عند بابه ثم يناديها فتقوم من جديد، وقد يقولون لكي يظهر قدرة الله في جمعها، فنقول إنه يمكن توزيع الأشلاء في أرض واسعة دون الحاجة للصعود إلى الجبال.

ولو كان يبحث عن ذلك؛ فهو في شك في قدرة الله على الإحياء ومحال على إبراهيم ذلك وقد ذكرنا جداله مع النمرود قبلها بآيتين. وإنما هو يبحث عن يوم المحشر، كيف أن الله سيقيم الله الكائنات الحية في نفس اللحظة ويذهبون إلى المحشر بإرادتهم.

فكان جواب الله أن يا إبراهيم افعل ما أمرك به، وكما سترى بساطة الأمر عندك؛ فهو كذلك عندي غاية البساطة، فقم بتوزيع الطير بعد تربيتهم وتعليمهم صوتك المتكرر، ثم وزعهم على الجبال ثم ناديهم فيأتونك بكل بساطة ويسر. كذلك الحال مع الله جل جلاله فهو الذي خلقنا وبرمجنا ويعرف طرقنا ومداخلنا، فينادينا يوم القيامة فنستجيب ونحن نحمده { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا }  [الإسراء: 52].

فالله أراد أن يقرب الصورة إلى إبراهيم عن يوم القيامة واستئناف الخلق، فضرب الله المثل بأبسط صورة، وقد كان إبراهيم بريء من الشك وإنما هو فضول عالم كبير، وهذا ما لاحظناه في كثير من الآيات التي تتحدث عن فضول إبراهيم العلمي.

ومن المرجح أنه عدد في أنواع في تلك الطيور، حتى يكون المثل قريب الصورة من يوم القيامة فاختار طيور متنوعة، فكانت استجابتها مختلفة أحدها سريع وآخر بطيء وثالث يضل الطريق مؤقتاً، وهذا حال الناس يوم القيامة فمنهم السريع التقي ومنهم البطيء الشقي.  

وستجد روابط أسفل المقال لمعلومات عن الطير وقدرته على الابصار والرؤية تفوق قدرة الإنسان، وأنه يسمع من بعيد ويرى من بعيد، لهذا كان اختيار الله لهذا الحيوان عوضاً عن حيوانات أخرى أقل منها في قدرة السمع، فلو دعاها إبراهيم من بعيد ستسمعه وتستجيب

وفي هذا الفيديو تصوير لما فعله إبراهيم عليه السلام مع تلك الطيور، وهو يوضح حركة الناس يوم القيامة وأنهم سيسرون سراعاً

{ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ }  [المعارج: 43].

{ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ }  [ق: 44].



هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني

 روابط علمية مفيدة عن الطيور

 



([1])صحيح البخاري (3/ 1233 ت البغا):

([2])سنن سعيد بن منصور - بداية التفسير - ت الحميد (3/ 974):

([3])تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (7/ 38)‏

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -