ماذا يقصد الجن بقولهم: تعالى جد ربنا




تفسير قوله جل جلاله: تعالى جد ربنا

سيتبين لنا من خلال هذا المقال، ضعف كتب التراث في قدرتها على التفسير، ونشكرهم على ما نقلوه لنا من معارف، ونسأل الله لهم الثواب، ونتجاوز عن زلاتهم وأوهامهم ونشكر لهم ما أصابوا فيه من تفسير.

 

الجد والجدد لغة:

الجدد المستوي من الأرض أو الأرض الصلبة، ومن سلك الجدد أمن العثار. والجادة معظم الطريق. والجدجد الأرض الغليظة، والجد وجه الأرض والجدة ساحل البحر. والجد أبو الأب والجد الحظ، وجمعها جدود، يقال جددت يا فلان أي صرت ذا جد أي حظ. وفسروا حديث: لا ينفع ذا الجد منك الجد. أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه. وأما قوله تعالى: تعالى جد ربنا. أي عظمته، ويقال، بل غناه. وعندما يقرأ أحد الصحابة البقرة وآل عمران يقولون: جد فينا. أي عظم. والجد نقيض الهزل. والجد الاجتهاد في الأمور. والجدد في الجبال الطريقة والخطة ومفردها جدة  ([1])

 

معنى جد ربنا عند أهل الرواية:

اختلط الأمر على أهل التراث، فقالوا: جد ربنا أي سلطانه وقدرته، وابن عباس يرى أنه يعني فعله وأمره وقدرته، ويرى عكرمة أن المقصود جلال ربنا، بينما يرى الحسن أنه يعني غنى ربنا، وهناك من يرى أن المقصود هو عظمته.

بينما يرى آخرون أن الجد يعني الجد وهو أبو الأب لهذا قالوا: هذا من كلام جهلة الجن. حتى أن ابن عباس قال مدافعاً عن الجن: "لو علمت الجن أن في الإنس جدا ما قالت: {تعالى جد ربنا}" ([2]) أي لو علمت أن جد تعني أبو الأب عند البشر لما استخدمت هذا اللفظ.

وتزعم المرويات أن خبر السماء قد انقطع عن الجن بعد أن ملئت السماء حرساً شديداً، فأمرهم الشيطان بتقصي الأخبار، فانطلق فريق منهم من اليمن ومن نصيبين، فوجدوا الرسول يقرأ القرآن الكريم فتيقنوا أن هذا الحدث له دور في زيادة حراسة السماء.

وقد ألتبس الأمر على الطبري فظن بأن نصيبين مدينة يمنية، بينما كتب البلدان تبين أنها مدينة كردية قريبة من القامشلي، وإن كان سابقاً يسكنها قوم من بني تغلب. ([3]ويبدو أن السبب هو تسرعه في قراءة الخبر حيث يشير الخبر أن جن من اليمن ثم ذكر معها أنهم من نصيبين ([4]) فيبدو من خلال الخبر أن هناك وفدان من الجن، من اليمن ومن نصيبين، وتلاقيا في مكة.

ولا ندري عن صحة هذه الأخبار، فالنص القرآني يبين أن الرسول لم يكن يعلم بوجودهم ولا شعر بهم، فقد جاءوا وذهبوا دون أن يشعر، فلهذا معرفة تفاصيل أصلهم وفصلهم تبدو مصطنعة.

 

الجد ما قبل الإسلام:

وردت كلمة جد في اللغة الفرعونية وتعني الثبات والاستقرار. وجد هو بتاح، وهو الرب الأول الذي خلق كل الكائنات من خلال الكلام. ([5])

والعلاقة بين البشر والآلهة عند الوثنيين هي علاقة أب بأولاده، ففي الحضارة اليونانية التي لها تأثير قوي على المسيحية، يعتبر زيوس هو أب للآلهة وللبشر.  كذلك المسيحية اعتبرت الرب هو الأب ومن ضمن أدعيتهم قولهم: " أَبَانَا الَّذِي فِي السماوات لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ "([6]) وهذا يجعلنا نفهم لماذا كانوا يسمون قود (GOD) والتي تعني جد فهو الأب الأكبر بينما المسيح هو الأب الأصغر لأنه ابن الله.

ومن زاوية أخرى فقد أشارت البحوث أن الجد يعني الحظ والمستقبل السعيد، وعكسه المعبود (منية أو منى) والذي يبحث في مستقبل الموت والمصائب. وقد حفظت النصوص الثمودية بعض أسماء الآلهة مثل: ود وجد وشمس عزيز. وعبدوها وتقربوا لها بالقرابين.

وقد عرف المعبود جد عند بني إرم وعند عرب الشمال، وفي المقاطعات السورية، وكذلك ظهر جد في الكتابات الصفوية في الأردن فورد باسم (ها جد عوذ). وجد معروف عند اليونانيين وله علاقة بالسعادة. كذلك عرف عند اليهود فهناك قبيلة إسرائيلية تنسب إلى جد أو جاد، كذلك في الحضارة النبطية كان اسمه جدا ([7])

وفي المدينة المنورة كان الجد يظهر في أسماء بعض الأشخاص مثل المنافق في زمن الرسول وهو الجد بن قيس الأنصاري([8]) كما ذكرت التراجم الجد في اسم صحابي آخر هو عبد الجد بن ربيعة الحكمي ([9]) وفي اسم سيدة هي سهلة بنت عاصم بن عبد الجد القضاعية ([10])  وخالد بن سليمان بن جليل بن عبد الجد ([11])    كذلك عبد الجد الأزدي([12]) وعبد الجد بطن في تهامة اليمنية ([13])

ومن كل هذا يتضح لنا أن جد هو اسم من أسماء الرب، وقد بينت الآثار أنه قد يعني المؤسس الأول وهذا يفسر لنا معنى كلمة جد فهو أبو الجميع. وقد فسرته بعض الآثار على أنه إله الحظ والسعادة.

والعلاقة بين الخالق والبشر في نظر الأقدمين هي علاقة أبوة، كما هو تصورهم، حتى في الموروث الإسلامي، ومن ذلك حديث «الخلق كلهم ‌عيال ‌الله، فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله» ([14])  وهناك آية تؤكد هذا الفهم عند أهل الكتاب { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم }  [المائدة: 18]. وقد قبل المسلمون هذا المعنى إذا كان يقصد بالعلاقة المعنى المجازي وليس الحقيقي فالخالق أب لنا برعايته وعنايته بنا.

ونلاحظ هنا أن النص الكريم لم يعترض على الأبوة، ولكن اعترض على الوالدية، فقال في سورة الإخلاص (لم يلد ولم يولد) ولكن في موضوع الأبوة لم يعترض، لأن لها معنى الرعاية والعناية وليس الولادة.

 

لماذا قالت الجن جد ربنا؟

من خلال السورة يتضح لنا أن هؤلاء الجن كانوا على الديانة المسيحية، وهي منتشرة في الجزيرة العربية وخارجها، فهؤلاء الجن كانوا اتباعاً للمسيحيين البشر، لهذا قالوا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً.

ولا زال نصارى الغرب يستخدمون هذا الاسم فيقولون بسم الله (in the name of god) ومن معاني هذا الاسم (god) العلة الأولى، وهذا يتفق مع ما وجد من آثار تؤكد أن جد تعني المؤسس الأول، وهذا يتفق مع اللغة العربية التي تبين أن الجد هو السابق والأول قبل الأب.

 

النصوص القرآنية تؤكد ذلك:

وقد وردت نصوص أخرى تؤكد أن جد هو اسم لله، وأنه وردت نصوص على نفس الأسلوب ففي عدة مرات قال النص الكريم الله ربنا

{ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }  [الأنعام: 23].

{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّىٰنَا اللَّهُ مِنْهَا وَ مَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }  [الأعراف: 89].

{ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ }  [يونس: 85].

{ وَ رَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَ الْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا }  [الكهف: 14].

{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ }  [الحج: 40].

{ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَ رَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَٰلُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ }  [الشورى: 15].

{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَٰمُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ }  [الأحقاف: 13].

وفي مرة ذكر ربنا الرحمن

{ قَٰلَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ }  [الأنبياء: 112].

ففي كل هذه النصوص يريدون أن يؤكدوا أن ربهم الذي يعتني بهم له صفات (أسماء) جليلة وهي أنه الله وأنه الرحمن وأنه جد. فهم يريدون في كل تلك النصوص وصفه بما له من صفات، ومنها أنه جد أو الجد.

 

الجد في الأحاديث النبوية:

ورد في الجد في حديث واحد صريح، وهو دعاء الرسول وغرضه التوحيد وعدم الشرك وهذا نصه:

 قَالَ الرسول: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ , وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ , وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ." ([15])

يسبح الحديث النبوي في عظمة الله ووحدانيته والتنزه عن الشرك، وأن المنع والعطاء يد الله. ثم يتحدث عن الجد، وهو إله يعبد يظن أنه هو الذي يعطي ويسعد، فيقول الرسول لا ينفع ذا الجد في شيء، وإنما منك أنت يا الله الجد، أي الحظ والمال والسعادة؛ فالنص أساساً جملتان الأولى: لا ينفع ذا الجد. أي لا ينفع الرب الذي تعبدونه واسمه ذا الجد أي الرب الذي هو مصدر السعادة والمال. والجملة الثانية: منك الجد. أي أنت مصدر الجد وهو الغنى والسعادة.

 

والخلاصة:

أن جد هو اسم من أسماء الله الحسنى وتعني المؤسس الأول أو المنشأ الأول، ومعطي الغنى والسعادة؛ فهو مجرد اسم من ضمن أسماء الله عند القدماء، ولم يذكره القرآن الكريم من ضمن أسماء الله لوجود البديل مثل الله أو البارئ أو المبدع أو المعطي، وغيرها من أسماء الله الدالة على أنه الأول ليس قبله شيء، ولأن في تركه واستبداله إزالة للبس الذي قد يحدث عند أهل الكتاب وأهل الوثن خاصة النصارى، فيما لو استمر القرآن الكريم في تداوله. فيظنون أن هنالك آلهة متعددة؛ فالجد اسم قديم لله جل جلاله لازال يستخدم عند النصارى خاصة الغرب منهم باسم (god).

هذا والله جل جلاله أعلم

علي موسى الزهراني

‌‌



([1]) جمهرة اللغة (2/ 1002): الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (2/ 452): الغريبين في القرآن والحديث (1/ 320): تاج العروس من جواهر القاموس (7/ 473): المعجم الاشتقاقي المؤصل (1/ 281):

([2])  تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث (23/ 648): تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3377): تفسير عبد الرزاق (3/ 351): تفسير مجاهد (ص677): غريب الحديث - أبو عبيد - ط الهندية (1/ 258):

([3]) البلدان لليعقوبي (ص204): تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث (23/ 648):

([4])  تفسير مقاتل بن سليمان (4/ 461):

([5])  أنظر: https://www.abou-alhool.com/arabic1/details.php?id=38417#.ZCZDOHbP02w

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%AA%D8%A7%D8%AD

([6])  لوقا اصحاح 11

([7])  المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام (11/ 250) المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام (11/ 284) المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام (11/ 309) المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام (11/ 321)

([8])  الإصابة في تمييز الصحابة (ط هجر) (2/ 177) الأدب المفرد (ص: 111)

([9])  معرفة الصحابة لأبي نعيم (4/ 1893):

([10])  الطبقات الكبير (6/ 521 ط الخانجي):

([11])  التعريف بالأنساب والتنويه بذوي الأحساب (ص51 بترقيم الشاملة آليا):

([12])  الإصابة في تمييز الصحابة (5/ 79):

([13])  معجم قبائل العرب القديمة والحديثة (2/ 723):

([14])  المعجم الكبير للطبراني (10/ 86):

([15])  جزء أبي العباس العصمي (ص: 184)

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -