السخرية والاستهزاء والضحك في القرآن
لممنا هذه الجذور الثلاثة، لاكتشافنا
العلاقة بينهم، ولأننا سنجد أنها تلي بعضها البعض، فأحدها سبب الآخر، ولهذا سهل
علينا فهمها وهذا من إحسان الله بنا الكريم العظيم.
السخرية في القرآن المكرم
السخرية
في المعاجم:
تكلمنا عن جذر سخر في المعاجم في مقال
التسخير، وكيف أن كل الأشياء مسخرة أي مستخدمة لنفع الآخرين، وهنا لن نعيد الكلام
ويمكن الرجوع هناك لمن أراد البحث المعجمي في هذه اللفظة.
السخرية
في القرآن:
قبل أن ندرس الآيات المبجلات، يستحسن أن
نقول، إنه من الممكن أن يكون سخر هو جذر السخرية فعلاً، لأن السخرية هي الاستفادة
والاستعانة بالشيء أثناء حركته، مثل حركة الشمس والقمر وحركة البحار،{سُبْحَٰنَ الَّذِي
سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا}([1]) فكلها يستفيد الإنسان منها أثناء حركتها، كما شرحنا في ذلك المقال،
وعلى هذا فالسخرية – كما سوف يتبين لنا هنا – هي الاستفادة من سلوك الآخرين بحيث
نصل إلى الضحك، فلولا تصرف الآخرين لما استطعنا السخرية أي الاستفادة من حركة وفعل
الآخر لكي يظهر تعجبنا مما يؤدي في الأخير إلى الضحك{فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}([2])
فدعنا ندرس النصوص:
السخرية
من الفقراء:
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَٰتِ
وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ
مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ } [التوبة: 79].
كان العامل الفقير مادة لسخرية
المنافقين، أي يتعجب المنافق استخفافاً، كيف لهذا العامل الذي لا يجد قوت يومه
يساهم في الصدقات، وقد يرد عليه منافق آخر، سخرية، إنه سينفق الملايين لكنز عثر
عليه، ثم يتبادلان الضحك.
السخرية
من نوح وعمله:
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ
سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ
إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
} [هود: 38].
سخر قوم نوحٍ من بناء نوح للسفينة أو
الفلك، أي تعجبوا بشدة، إما لغرابة البناء أو لأنه بناه في قمة مرتفعة بعيداً عن
البحر، فأدى هذا إلى ضحكهم.
السخرية
من الأقوام:
{ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا يَسْخَرْ
قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ
عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا
بِالْأَلْقَٰبِ} [الحجرات: 11].
قد يُعرف قومٌ بتصرف معين وهو عجيب في
نظر الآخرين، فيكون مدعاة للسخرية، أي أن الآخرين يذكرون بتعجب عادات قومٍ آخرين
ثم يليها الضحك، وقد تتحول السخريات إلى ألقاباً ثابتة في قومٍ، فلا يعرفون إلا
بتلك النعوت، والتي تغضب من يلقب بها، مما تؤدي إلى عداوة وبغضاء بين الشعوب.
السخرية
تؤدي إلى الاستهزاء:
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن
قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [الأنعام: 10].
قلنا إن السخرية هي إبداء التعجب من سلوك
أو قول الآخر، ويتبع السخرية الضحك، فيضحك الساخر من غرائب الآخر، ثم يتبعها
الاستهزاء وهو الاستخفاف به واعتباره لا شيء.
اتخاذ
السخرية:
{ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ
أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ
} [المؤمنون: 110].
الاتخاذ هو ما نسميه بالعامية الاعتبار
والتقدير، والنظرة الدائمة، أو ما يسمى حالياً بالصورة النمطية، فالكفار يعتبرون
المؤمنين مادة للسخرية، أو هم يتعمدون ذلك، فإي فعل يقوم به المؤمنون أو قول يصدر
عنهم، يظهرون سخريتهم منه أي تعجبهم الذي يؤدي إلى الضحك، حتى لو كان فعلهم أو
قولهم عادياً، ولكنهم يتعمدون السخرية أي يتخذونهم كذلك دائماً، فبتعد عنهم
العامة.
العجب
والسخرية:
{ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ
} [الصافات: 12].
ذكرنا سابقاً أن السخرية هي التعجب، لكن
السخرية تختلف عن التعجب العادي، في أنها مقصودة، وغرضها الضحك ثم الاستهزاء، أما
التعجب النقي فيؤدي إلى التقدير والتعظيم للشيء، فأنت تتعجب من قوة الجمل على تحمل
الصحراء، فتبدي انبهاراً به وليس استخفافاً أو وسيلة للضحك.
الخلاصة:
أن السخرية هي التعجب السلبي، الذي
يتعامى عن رؤية الحق، ويحول الفعلة العجيبة إلى غريبة، لكي يضحك منها الجمهور.
الضحك في القرآن المكرم
الضحك
في المعاجم:
ضحك: دليل الانكشاف والبروز. والضاحكة كل
سن تبدو من مقدم الأسنان الأضراس عند الضحك. والضاحك من السحاب مثل العارض إذا
برق. والضحوك الطريق الواضح. وأضحكت حوضك إذا ملأته حتى يفيض. والضاحك حجر شديد
البريق. والأضحوكة ما يضحك منه. ورجل ضحكة أي يضحك منه. ورجل ضحكة أي يكثر الضحك ([3])
الضحك
في القرآن
الضحك واضح وظاهر، فهو فعلة حسية ظاهرة، وهو
ظهور السرور والفرح من شيء بعد التعجب، لغرابة الشيء أو لزوال الخيفة. فلو قلت شيئاً
عجيباً لأناس تجدهم بعد هنيهة يضحكون من كلامك، لما فيه من تناقض أو عجائب. وقد يضحك
الإنسان بعد زوال الخيفة مثل امرأة إبراهيم التي ضحكت بعد زوال خيفتها من الضيوف.
والضحك واضح فهو بروز الأسنان مع صدور القهقهة
الصوتية، التي تؤكد سرور وفرح وتعجب.
وإليك نصوص القرآن:
الفرح
والضحك:
{ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا
كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
[التوبة: 82].
تتكلم الآية عن المخلفين الذين لم
يشاركوا في المعارك، وتتكلم الآية التي سبقتها عن فرحهم، والضحك غالباً لا يأتي
إلا مع الفرح، فهذا يؤكد أن الضحك هو فعل القهقهة مع بروز الأسنان واتساع الشدق،
أما الفرح فهو الشعور الداخلي السعيد.
امرأة
إبراهيم تضحك:
{ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ
فَبَشَّرْنَٰهَا بِإِسْحَٰقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَٰقَ يَعْقُوبَ } [هود: 71].
إبراهيم وامرأته في خيفة من الضيوف الذين
يرفضون الأكل، لكن حالما سمعتهم وهم يقولون إنهم ملائكة ورسل الله، زالت خيفتها،
فأقبل الفرح والسرور الذي سبب الضحك.
ولن ندرس بقية الآيات لوضوح المعنى.
سليمان
يتبسم ضاحكاً:
{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا} [النمل: 19].
عندما سمع النبي الكريم سليمان النملة،
تبسم أولاً مع ضحك أي أصدر صوت الضحك وهو أقل من القهقهة، فسليمان شخصية واثقة
بنفسها وربها، ولا يغرها الثناء أو يؤذيها الذم.
الضحك
والبكاء:
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ
} [النجم: 43].
إذا سلمنا أن البكاء هو سقوط الدموع مع شعور
الحزن، فإن الضحك عكسه وهو بروز الأسنان مع شعور الفرح.
ضحك
الكفار:
{ فَلَمَّا جَاءَهُم بِءَايَٰتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } [الزخرف:
47].
سنجد دائماً أن الكفار يضحكون على
المؤمنين، ويتبين لنا أن الأمر يبدأ بالسخرية وهو إظهار عجائب المؤمنين وعجائب
عقائدهم وأعمالهم، ثم الضحك منها ومنهم، ثم يليها الاستهزاء كما سوف نرى.
الخلاصة:
إن الضحك هو بروز الأسنان مع القهقهة
واتساع الشدق، والذي يصاحبه شعور بالفرح، نتيجة مدهشات أو زوال الخيفة.
الاستهزاء في القرآن المكرم
هزأ
في المعاجم:
يقال هزئ واستهزأ إذا سخر. والهزء هو
السخرية. وأهزأت به ناقته أي أسرعت ([4]) .
هذا ما وجدناه من معلومات في بعض المعاجم
وهي لا تغني ولا تسمن من جوع. ولاحظنا أن جذر هزأ قريب من جذر هزل وهو نحول الجسم
نحولاً شديداً ([5]) فإذا كان الهزل هو نحول الجسم الذي يؤدي إلى الاستخفاف بصاحبه،
فكذلك هزأ هو استخفاف بالشخص لقلة مكانته وقدرته أو أقواله وأعماله.
الاستهزاء
في القرآن:
الاستهزاء هو النظر باحتقار واستخفاف
بالآخر، إما بسبب تصرفه، أو عاداته، أو أصله وعرقه، وهو النتيجة النهائية، فيبدأ
الأمر بالسخرية من الفعل أو الاعتقاد، ثم يليه الضحك، ثم يليه الاستهزاء من صاحب
الفكرة أي النظر له باستخفاف ودونية.
اتخاذ
الآخرين هزوا:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا
بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67].
الاتخاذ هو الاعتبار أو النظرة الدائمة،
أو ما يشبه الصورة النمطية، فهم يقولون لموسى هل أنت تنظر إلينا دائما باستخفاف؟
لأنك تأمرنا أن نذبح بقرة! فما علاقة قتل البقرة بأمر المقتول؟
الاستهزاء
واللعب:
{اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَٰبَ} [المائدة: 57].
بما أن الكفار من أهل الكتاب ينظرون
باستخفاف للدين، فهم يرونه لعبة لا أكثر، فالبشر يتعاملون مع الألعاب بنوع من
الاستخفاف، لأن هذا دور اللعبة فهي للتسلية فقط وتمضية الوقت. كذلك أهل الكتاب،
ينظرون للدين باستخفاف، فمن كان يهودياً أو نصرانياً دخل الجنة دون حاجة للعمل،
كذلك نجد هذا عند المسلمين فيكفي أن تحب الرسول لتدخل الجنة أو تتمتم ببعض الكلمات
لتكون في الفردوس.
استخفاف
الله بأهل الكتاب:
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا
إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ }
[البقرة: 14].{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ }
[البقرة: 15].
بعض أهل الكتاب بالمدينة ينافقون فيزعمون
أنهم دخلوا الإيمان، لكن عندما يتحولون إلى رؤسائهم يقولون نحن نستهزأ فقط. فيرد
الله أنه يستهزأ بهم أي يستخفهم ولا يعتبرهم شيئاً.
الاستهزاء
بآيات الله:
{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ
فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [النساء: 140].
الآيات هنا هي تشريعات الله، فإذا تم
الكفر بها أي محاولة منعها وصدها، ثم محاولة الاستهزاء بها، وذلك بعد السخرية منها
والضحك عليها ثم في الأخير الاستهزاء بها. وقد كانت التشريعات مرماً لاستهزائهم،
لأنها تخالف عاداتهم القبلية.
الاستهزاء
بالصلاة:
{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَٰلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ } [المائدة:
58].
بغض النظر عن معنى الصلاة سواء أكانت
مواعظ الدين أو الطقوس، فإن القوم يستهزؤون بها، ويعتبرنها بمستوى اللعبة التي
يمكن إهمالها.
الخلاصة:
إن الاستهزاء هو المرحلة الأخيرة التي
تلي السخرية والضحك، فهي تؤدي إلى الاستخفاف بالشخص كما أن المهزول خفيف الجسم،
كذلك الهُزء هو خفيف العقل والمقام عند الناس.
خلاصة
المقال كله:
هناك علاقة ثابتة بين السخرية والضحك
والاستهزاء، فتبدأ العملية بالسخرية وهي التعجب من تصرف أو كلام الآخر، ثم يليها
الضحك لأن هذا غرض الساخر، ثم يتبعها استهزاء بالآخر، أي استخفاف به وتحقيره، لما
يحمله من أفكار أو قام به من أعمال.
فالساخر الذي يتعجب، هو قاصد أن يُضحك
الآخرين على خصمه، لكي يسقط مكانته عند الآخرين، والتي ينعتها القرآن بالاستهزاء.
وقد يكون الاستهزاء من آيات الله، فعندما
توعد نوحٌ قومه بالغرق استهزأوا من هذه الآية، فكيف لهم أن يغرقوا وهم بعيدون عن
الساحل ومجرى السيل والأودية الضيقة. فاستخفوا آية الغرق، فلن يتجاوز الماء مهما
كانت قوته، كعب أقدامهم.
كل ألفاظ القرآن مثل الجواهر الكريمة في
العقد الكريم، فهي فريدة من نوعها لا تماثل أختها، وهكذا نجد في لفظة الهزء
والسخرية، فلا ترادف في القرآن كله، ومن هذا السخرية والهزء، لأن السخرية هي
التعجب السلبي، أما الاستهزاء فهي الحط من الناس والأفكار، ويتوسط بينهما الضحك،
فأنت تسخر أولاً ثم تضحك بخبث، ثم تستهزأ من صاحب الفكرة أو من الفكرة ذاتها، أي
تحط وتقلل من شأنهما.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك