النظر في القرآن المكرم
نظر
في المعاجم:
أصل صحيح ومعناه تأمل الشيء ومعاينته.
ونظرت إلى الشيء أي عاينته. ونظرته أي انتظرته. ونظرت الأرض أي أرت نباتها. ونظر
الدهر إلى بني فلان فأهلكهم. وبه نظرة أي شحوب.
ونظره أي تأمله بعينه. ونظرت إلى كذا أي
مددت طرفك إليه. وناظر العين هي النقطة السوداء الصافية التي في سواد العين. وداري
تنظر إلى داره أي هي مقابل داره. وفي هذه الجارية نظرة أي أنها قبيحة ([1])
النظر
في القرآن:
النظر في القرآن بمنتهى البساطة هو توجيه
البصر إلى شيء ما، وتوجيه البصر يعني طلب مشاهدة الشيء، لكن أيضاً يتضمن عنصر آخر وهو
التريث والانتظار والتركيز، فالصياد ينظر إلى فريسته، في ترقب، ويتريث عليها حتى تغفل
عنه فينقض عليها، لهذا اشتق القرآن الانتظار من النظر، لأن النظر هو الجزء الحسي الذي
يعني توجيه البصر ناحية معنية، مع طول التأمل والنظر، بينما الجزء المعنوي فهو توجه
العقل والفؤاد ناحية معنية تريثاً، لكي يفعل المنظور إليه فعلاً، يتوقعه الناظر أو
يضعه احتمالاً، فكان اشتقاق الانتظار من النظر منطقي ومتوافق، بل إن حقيقة
الانتظار هو النظر البصري، فنحن ننظر ببصرنا للشيء انتظاراً لتصرف منه. ولندرس الآيات:
النظر
الحسي:
{ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ } [البقرة: 50].
{ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَيۡفَ خُلِقَتۡ } [الغاشية: 17].
{بَقَرَةٞ صَفۡرَآءُ فَاقِعٞ لَّوۡنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّٰظِرِينَ} [البقرة: 69].
هذه الآيات وغيرها، تؤكد أن النظر هو توجيه
البصر مع أخذ الوقت في ذلك، فالبقرة لا يعقل أنها تسر الناظرين من خطفة أو لمحة بصر،
بل بتأمل وتريث، واليهود كانوا يرون فرعون يغرق وهذا يأخذ وقتاً ومدة، وفيها حركة يجب
متابعتها بالعين. والدعوة للنظر إلى شكل الإبل، يعني طول النظر والفحص والبحث في جسمها.
وقد ورد في النظر الحسي عشرات الآيات ونكتفي بهذا فقط، لعدم الحاجة وشدة الوضوح.
النظر
بمعنى الانتظار:
النظر الذي جاء بمعنى الانتظار جاء
كثيراً في القرآن، ولأهميته فقط نمر على كثير من النصوص.
أنظرنا:
{لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا} [البقرة: 104].
طلب اليهود الذين دخلوا في الإسلام أن يراعيهم
الرسول، ويلغي عنهم بعض التشريعات، مراعاة لهم، لأنها تخالف ما اعتادوا عليه من عادات
وسلوكيات، فوجههم القرآن إلى طلب الانتظار والتريث "انظرنا" وليس
"راعنا" التي تعني المجاملة والمحاباة والمداهنة.
ينظرون:
{ هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ
ٱللَّهُ} [البقرة: 210].
أي ماذا تنتظرون قبل دخولكم الدين، هل تنتظرون
أن تقوم القيامة ويأتي المولى لحسابكم.
النظرة:
{فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ}
[البقرة: 280].
أي انتظروا حتى يصبح المقترض منكم في حال
ميسورة، ولا تطالبوا وهو في حالة عسر.
أنظرني:
{ قَالَ أَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ
} [الأعراف: 14].
يطلب الشيطان من ربه أن يمهله إلى يوم البعث،
فقال: "انظرني" أي انتظر ولا تعاقبني إلى يوم البعث. وقد يسأل سائل
لماذا لم يقل الشيطان "أمهلني إلى يوم يبعثون" ذلك أن الإمهال مدة قصيرة
جداً "أمهلهم رويداً" كذلك فإن الانتظار مدة طويلة، وحتى ينجز الشخص عمله
كما فعلت بلقيس فقد انتظرت ما يفعله سليمان بعد الهدايا، فالانتظار هو التريث لكي
يتصرف الطرف الآخر، فتنتهي مدته بعدها.
أنظر
ماذا ترى:
{ فَلَمَّا
بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ
أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ}
[الصافات: 102].
النظر هنا بعين العقل لهذا قال "أنظر
ماذا ترى" أنظر فيما يراه عقلك بطول تأمل وتفكير، أي لا تتعجل في اتخاذ
قرارك، فالنظر هو الابصار بطول تأمل، ثم أضاف له الرؤية لأن النظر هنا بواسطة
العقل.
النظر
إلى الله:
{ إِلَىٰ
رَبِّهَا نَاظِرَةٞ } [القيامة: 23].
قلنا إن الانتظار هو النظر إلى الشيء حتى
يتصرف ويفعل ما يتوقعه الناظر، فهؤلاء المؤمنين الذين في جنان مؤقتة الذين وجوههم
ناعمة وناضرة، بينما الطرف الآخر فوجوههم باسرة وعليها غبرة، ثم هم على عكس المؤمنين
ينتظرون العذاب { تَظُنُّ أَن يُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَةٞ }([2]) وشرحنا معنى ظن وقلنا هو يعني جزم يقيناً، فهم يجزمون بأنهم سيدخلون
النار حتماً، لما لاقوه في الطريق من جوع وعذاب قبل الوصول للحساب ثم تبين لهم ما
فعلوه من فضائع.
على عكس المؤمنين الذين ينظرون إلى ربهم
أي ينتظرون منه الخير وإدخالهم الجنة، فأبصارهم ليست متجهة إلى السماء، بل قلوبهم
وأعينهم متجهة ناحية الجنة يريدون دخولها بعد رؤيتها كما تؤكد آيات أخرى شرحناها
في كتاب دار السلام.
ينظرون
تأويله:
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ} [الأعراف: 53].
أي هل ينتظر أهل الشك، أن يأتي تأويل القرآن
"الآيات التي ذكرت يوم القيامة" فإذا جاء تأويله أي جاء يوم القيامة، فلن
ينفعهم شيء ولن يستطيعوا الخلاص ولن ينقذهم الشفعاء. فينظرون تعني -ببساطة- ينتظرون
تأويله، وتأويله يعني حدوثه.
الفرق
بين الانتظار والنظر:
لم أجد في كتب اللغة والمعاجم ما يبين الفرق
بين الانتظار والنظر، ولكن بعد تفحص تبين لي أن الانتظار يتكلم عن الموت والقتل فقط،
فقد ورد في سبع آيات كلها وعيد بالقتل والدمار والفناء للمنتظر، كانتظار قوم هود.
{فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ } [الأعراف: 71].
أما بقية الآيات المبجلات، فهي تتكلم عن انتظار
الرسول لمقتل الكفار، وهو تهديد لهم ووعيد، سينفذ فعلاً، وقد حدث في معارك الرسول
معهم، خاصة معركة بدر.
{ فَهَلۡ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثۡلَ أَيَّامِ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن
قَبۡلِهِمۡۚ قُلۡ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ } [يونس: 102].
{ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَٱنتَظِرۡ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ } [السجدة: 30].
وقد يستغرب القارئ كيف ينتظر الكفار القتل؟
لكن هذا ما حدث فعلاً، فهم من باب السخرية وعدم التصديق، في تحدي للرسول أن ينفذ
وعيده بقتلهم، فيقولون له متى هذا الوعد.
ﵟوَيَقُولُونَ
مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ 71 قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ
رَدِفَ لَكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي تَسۡتَعۡجِلُونَﵞ [النمل: 71-72]
وهناك آية تحسم الأمر وتؤكد أن الانتظار
لا يكون إلا للموت، أما النظر فهو انتظار أشياء أخرى منها السار ومنها الضار.
ففي
هذا النص المبجل:
{ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ
فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا
} [الأحزاب: 23].
فهناك من المؤمنين من يريد الموت ويطلب
القتل في سبيل الله، والمرويات تؤكد ذلك، فكثير من الصحابة شارك في المعركة وكان
لا يريد العودة، بل يريد ما يسميه المسلمون بالخطأ "الشهادة" ولهذا
يتأكد لنا أن الانتظار في القرآن هو انتظار القتل والموت.
النظر
تفكر:
{ قَالُواْ
نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةٖ وَأُوْلُواْ بَأۡسٖ شَدِيدٖ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَيۡكِ فَٱنظُرِي
مَاذَا تَأۡمُرِينَ } [النمل: 33].
أي أنظري في قوة جيشنا واقتصادنا، وأنظري
إلى قوة سليمان "كما يرد من جهاز استخبارتها" والقصد هو النظر والتأمل
والمقارنة وعدم التسرع. وهذا من طبيعة النظر فهو التأمل في الشيء بلا تسرع، مع
إعمال العقل، وهو مثل قول إبراهيم " فأنظر ماذا ترى".
الخلاصة:
النظر هو تثبيت البصر ناحية معينة، وهو
يشير إلى تريث وإطالة مدة الإبصار ناحية الشيء، واشتق منه ما نسميه بالانتظار، لأن
المنتظر يركز بصره ناحية معينة، يترقب حدوث شيء لمن يرقبه، لكن القرآن لا يستخدم
لفظة منتظر وانتظار، بل يستخدم لفظة ناظر وناظرين وينظرون، لكي يقصد الانتظار الذي
نستخدمه مخالفة للقرآن، أما الانتظار في القرآن فهو يقصد ترقب الموت والقتل فقط لا
غير.
وتشابه اللفظ بين النظر بالعين والنظر أي
بمعنى انتظار الشيء، ذلك لأنه فعل واحد، فالذي ينظر فهو يركز ويتريث ويتأمل في
الشيء، وهو مثل فعل الذي ينتظر حدوث الشيء أو تغير سلوكه وتصرفه، فهو يركز ويتريث
ويتأمل، لشيء منظور حسي، يتوقع تغير تصرفه أو شكله، فإن بدا لنا الانتظار مفهوم
معنوي وليس حسي، فهو في الحقيقة مفهوم حسي، ينتظر فيه الناظر تغير سلوك الشيء شكله
أو تصرفه، فكره الذي سيغير من سلوكياته.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك