أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 آخر الأخبار

رفع في القرآن المكرم


 

رفع في القرآن المكرم

رفع في المعاجم:

رفع أصل واتحد يدل على خلاف الوضع. وهو خلاف الخفض. ومرفوعة هي مقربة كما في قوله تعالى: "وفرش مرفوعة". ورفعته للسلطان أي قربته. والناقة الرافع هي التي رفعت اللبأ في ضرعها. والرفعُ هو إذاعة الشيء وإظهاره. وحديث الرسول: "كل رافعة رفعت علينا من البلاغ فقد حرمتها". أي على كل جماعة أن تبلغ أن المدينة صارت حرماً. ورفع فلان على العامل، أي أذاع خبره. ورفع الزرع أي حمل الحصاد إلى البيدر. والرفاعة خيط يرفع به قيده إليه. ورفيع الصوت أي جهيره ([1])

‌‌رفع في القرآن:

نلاحظ من خلال النصوص عدة نقاط:

-      أن المرفوع فاقد الإرادة والقدرة، على عكس الصاعد فهو يصعد بإرادته.

-      قد يذكر القرآن المرفوع دون مقارنة بغيره كرفع عيسى، وقد يقارن بغيره، فالنصارى رفعوا فوق اليهود إلى يوم القيامة. {ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ}([2])   

-      الرفع أساسه حسي مادي، ثم اشتق منه المعنوي

-      وإليك الآيات المبجلات:

الرفع الحسي:

 

من الواضح أن هناك رفع حسي

{ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}  [البقرة: 63].

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}  [يوسف: 100].

{ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ }  [الغاشية: 18].

وحتى رفع الصوت يمكن اعتباره رفعي حسي مادي

{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}  [الحجرات: 2].

ونلاحظ من خلال هذه الآيات أن الرفع كان لأشياء بدون إرادة وقدرة منها، وأن الرفع كان بمقارنة مثل صوت النبي مع صوت الصحابة، أو بدون مقارنة كرفع السماء والفرش. وأنها كلها مرفوعات حسية مادية.

الرفع المعنوي:

لو أن هناك رسم بياني للرفع المعنوي فإنه سيكون على درجات، كما في الرسم الديكارتي، ، لهذا قال القرآن أنه درجات، فهناك من هو بالأسفل عند نقطة الصفر، وهناك من هو أعلى وهناك من بلغ سدرة المنتهى في العلو.

الصحف مرفوعة:

ﵟفِي صُحُفٖ مُّكَرَّمَةٖ 13 مَّرۡفُوعَةٖ مُّطَهَّرَةِۭ 14 بِأَيۡدِي سَفَرَةٖﵞ [عبس: 13-15] 

 

يرى أهل التراث أن مرفوعة يعني أنها في اللوح المحفوظ، أو عالية القدر شريفة، وقيل، بل مرفوعة في السماء السابعة ([3])

والصحيح أن هذه الصحف والتي هي القرآن في مكان مرتفع لا يستطيع الشياطين الوصول إليه، فهي صحف مرفوعة عالياً بعيداً عن متناول يدهم، وهي مطهرة لا يستطيع مس هذه الصحف الشياطين، بل الملائكة فقط الذين قال عنهم "بأيدي سفرة" وقد شرح ذلك في سورة أخرى فقال:

ﵟإِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ 77 فِي كِتَٰبٖ مَّكۡنُونٖ 78 لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ 79 تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَﵞ [الواقعة: 77-80] 

وكل هذا لكي يرد على كفار قريش الذين زعموا أن هذا القرآن من وحي الشياطين، وأنهم يسترقون السمع وينزلونه على محمد، فرد عليهم القرآن أنهم لا يستطيعون لعلوه الشديد ولأنه لا يباح مسه إلا المطهرون الملائكة.

الفرش والأسرة المرفوعة:

{ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ }  [الواقعة: 34].

{ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ }  [الغاشية: 13].

يرى بعض أهل التراث أن رفعة الفرش والسرر هي رفعة مادية حسية، فكل فراش منها كما بين السماء والأرض، وقيل عن السرر أن مرفوعة تعني بعضها فوق بعض، وقيل، بل مزينة بالذهب والجواهر، وأنها مرتفعة فإذا جاء أهلها نزلت لهم، ثم ارتفعت لكي يشاهدوا مناظر بعيدة، وقيل، بل رفيعة المقدار ([4])

وقد تكون الفرش والسرر مرفوعة عن الأرض فلا أحد يدوسها بقدمه، وذلك لتكريمها، ولمكانتها، فهي رفعة حسية، سببها رفعة معنوية في قلب صاحبها، فهي مقدرة ومكرمة عند أهل الجنة فلا يدوسونها بأقدامهم.

رفعة الرسل:

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}  [البقرة: 253].

ذهب المفسرون والرواة إلى أن درجات يعني التفاوت في مميزات التي أعطيت للأنبياء، فالخليل إبراهيم والكليم موسى، وذهب آخرون إلى أن المقصود هو الرسول فقط، فهو من نال الفضائل، وأن فضيلة الرسول أنه أُرسل للناس جميعاً. وهم يخلطون بين الفضائل والرفعة، ويعتبرونها شيئاً واحداً ([5])

هناك فروقات بين الأنبياء في أمرين هما: الفضل، والرفعة، وقد شرحنا الفضل وهو الزيادات، في القدرات والإمكانيات والمعجزات، مثل الزيادة التي حصل عليها عيسى فصار يخلق الطير، فما هي الرفعة؟

{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَٰهَا إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }  [الأنعام: 83].

{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }  [يوسف: 76].

بما أن الفضائل هي الزيادات التي يزيد بها شخص أو قوم عن الآخرين، فهي تؤدي إلى الرفعة، ففي مجتمع ساحر مثل مجتمع الفراعنة، جاء موسى بما يفوق سحرهم وهو العصا واليد البيضاء، والآيات التسع الأخرى، فهو فضل عليهم، لهذا زاد رفعة عند جمهور وآل فرعون، أي زاد مكانة وتقديراً.

كذلك مجتمع إبراهيم الذي صار الجدال عندهم مطلباً وغاية، فجاء إبراهيم وفضل عليهم بالحجج، حتى أن الملك بنفسه جادله، لأنه يحسب نفسه أعظم مجادل في البلاد، فهبت مع إبراهيم، فلهذا زاد رفعة عن الناس من حوله واضطروا إلى حرقه، ليوقفوا تأثيره.

وفي هذه الآية:

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَٰتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ}  [الأنعام: 165].

شرحنا معنى الخلافة وقلنا هي الحكم لمنطقة كبيرة واسعة، وسميت خلافة لأن الحاكم الجديد خلف حاكم سابق. فيذكر النص بعد الخلافة أنه رفع بعضنا، وهذا منطقي، فإن الحكم والسلطان يرفع الحاكم مقابل المحكوم، فالرفعة جاءت نتيجة السلطة والحكم، فصار للحاكم قيمة ووجاهة وكرامة تعلو على الجمهور.

رفع إدريس وعيسى:

{ وَرَفَعْنَٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا }  [مريم: 57].

{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}  [آل عمران: 55].

{ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }  [النساء: 158].

في قصة إدريس وعيسى، لم يذكر النص الكريم أنه رفع درجتهما، بل يقول أنه رفعهما بذاتهما أي هو رفع حسي واضح، فإدريس رفعه الله مكاناً علياً، وعيسى رفعه الله إليه، فأين هذا الرفع وكيف كان؟

رجحنا في مقالات سابقة أن المولى رفع ثلاثة -وربما أكثر- هم إدريس وعيسى وإلياس، فأما عيسى وإدريس فقد ذُكرا في القرآن وأما إلياس " فقد ذكر في التراث الإسلامي، وقد شرحنا في مقال "الملأ والملائكة والملأ الأعلى" أن إلياس وإدريس ويحيى وعيسى قد تحولوا إلى ملائكة، فانظر الشرح على هذا الرابط

https://quranazim.blogspot.com/2024/07/blog-post_12.html

ولهذا نقول أن إدريس تحول إلى ملك من الملائكة، فلا يعقل أن يُرفع بجسمه إلى السماء فلن يقوى على الحياة بدون هواء وبجسم ضعيف. كذلك عيسى رُفع ملكاً إلى مكان أعلى عند الله، ولهذا انقطعت أخبار الأرض عنه، وسوف يأتي يوم القيامة يجهل ما حدث في الأرض من بعد مغادرته، لكن سيموت قبل ذلك مع فناء أهل الأرض والسماء.

فهذه الارتفاعات هي ارتفاعات حسية مكانية ظاهرة، أما الرفعة المعنوية، فلا نجدها عند هؤلاء كإدريس الذي لم يعد يُذكر عند الناس، ولم يبق ذا مكانة عظيمة إلا عيسى عليه السلام، فهناك أربعة مليار نسمة يقدرونه، بل بعضهم يقدسونه.

فلهذا نقول أن رفع هؤلاء الأنبياء كان رفعاً مكانياً حسياً، وهذا لا ينفي أن بعضهم رُفع مكانة وتقديراً كعيسى، لكن الآيات لا تتحدث عن ذلك، بل إن رفعة عيسى مخالفة للدين، فهو كفر وشرك عظيم، فتحول عيسى من عبد لله إلى ابن له تعالى الله عما يقولون.

رفعة الإيمان:

{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ}  [الأعراف: 176].

فهذا الشخص وصلته الرسالة، فانسلخ منها، وكانت فرصة له لكي يرتفع شأنه ومكانته، لكنه فضل أن يخلد في الأرض مثل حيوان الخُلد، ويظل في القاع المعنوي.

رفع القواعد من البيت:

{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }  [البقرة: 127].

هل رفع القواعد رفع معنوي أم مادي وحسي؟

بداية يبدو أن الكعبة قد اندثرت، فدل المولى إبراهيم على مكانها.

ﵟوَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ﵞ [الحج: 26] 

وعند فحص البيت يتبين أن ارتفاع باب البيت عن سطح الأرض هو تقريبًا 2.25 متر، وقيل أن قريش هي من رفعت البيت، لما كان عمر الرسول عليه السلام 35 سنة، وزعموا أن سبب الرفع للتحكم فيمن يدخل ويخرج ([6]) ولهذا قام ابن الزبير بإعادة بناء الكعبة وجعل لها بابين ملتصقين بالأرض، ثم لما قضي عليه أُعيد بناء الكعبة والباب مرتفعاً عن الأرض. ونرجح بطلان كلامهم وأن قريش جددت بناء الكعبة على ضوء ما قام به إبراهيم عليه السلام.

ورفع الباب ساهم في حماية ما بدخل الكعبة من السيول الخفيفة، ولم يحدث تسرب للمياه داخل الكعبة إلا مرتين في سنة 1629م حيث غمر السيل نصف الجدار وتهدم جدارها الشمالي والشرقي، ومرة قبل ذلك دخل سيل في عهد الرسول قبل البعثة سنة 605م كاد يهدم الكعبة.

أي أن بين الحادثتين حوالي الف سنة ميلادية، وهذا يبين فوائد رفع القواعد من البيت، ورفع بابها مع رفع القواعد، فقد حمى الكعبة من الداخل ولم يعرضها للهدم إلا مرتين طيلة ألف سنة. ورفع القواعد في ذلك الزمن الغابر، عمل مضني وصعب ويحتاج إلى علم ونفقات، لهذا كان حملاً كبيراً عليهما، ولهذا رجيا من الله أن يتقبل عملهما هذا.

لهذا نرجح أنه رفع مادي وحسي للكعبة حماية لها من السيول.

أما قوله تعالى:

{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْءَاصَالِ }  [النور: 36]

ونرجح أنه رفع مادي لجدران البيوت أي ما نسميه اليوم بالمساجد، كما حدث مع الكعبة إلا أن الكعبة رُفعت قواعدها عالياً لحماية الكعبة من السيول فهي على وادي.

رفعنا ذكرك:

{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }  [الشرح: 4].

يروي أهل التراث أن الرسول قال: "أتاني جبريل، فقال: إن ربك يقول: تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله أعلم. قال: إذا ذكرت ذكرت معي"

 وفي حديث آخر: "ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي"

وذهبوا إلى أن هذا الذكر ظهر في الأذان والإقامة التشهد والخطبة على المنابر، بل حتى خطبة الزواج ([7])

 الجواب الصحيح:

النص يقول رفعنا ذكرك، وليس رفعناك، فما هو الذكر؟

حسب تفسير أهل التراث الذكر هو أن يذكر اسم الرسول في كل زمان مثل الأذان والإقامة، والتشهد، وخطب المساجد، وغيرها. ونجزم أن هذا باطل، بل نؤكد أن السورة تتحدث عن الماضي وما فعله الله من أعطيات للرسول تقول السورة:

ﵟأَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ 1 وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَﵞ [الشرح: 1-2] 

ﵟٱلَّذِيٓ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ 3 وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ 4 فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا 5 إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا 6 فَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ 7 وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَبﵞ [الشرح: 3-8] 

والسورة مثل سورة الضحى التي تحكي أعطيات الله للرسول فتقول تلك السورة:

ﵟأَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمٗا فَـَٔاوَىٰ 6 وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ 7 وَوَجَدَكَ عَآئِلٗا فَأَغۡنَىٰﵞ [الضحى: 6-8] 

فالضلال قابله شرح الصدر، والعيلة قابلها وضع الوزر. والوزر هو الحمل، فقد كان عائلاً يعول كثيرا من قريباته.

فهل رفع ذكر الرسول هو الإيواء الذي حصل له من قبل جده عبد المطلب ثم أبو طالب؟

والجواب نعم، ونجزم بذلك، فقد تحول تيتم الرسول عليه السلام إلى ميزة، فقد صار مقرباً من سيد مكة كلها، فمجلسه هو مجلس أهل الحكم بمكة تلك الدولة العظيمة التي تدير وتحكم بلاداً شاسعة بأحلاف وائتلافات مع قبائل شتى.

فكان بجوار جده عبد المطلب يجلس معه في كل مجالسه، يستمع ويتعلم، بل صارت الوفود تعرفه منذ صغره وهو يعرفها، ويعرف كيف يتعامل معهم وكيف يتفنن في علوم السياسة وقيادة تلك القبائل.

هذه هي ذاكرة الطفولة المحمدية، فبقية الأطفال يلعبون ويجهلون كل شيء عن مجالس الكبار وما يدار فيها، بينما الرسول صار يملك ذاكرة طفل كلها سياسية، وكأنه قرأ كل كتب السياسة، التي تعلمه كيف يدير ويحكم.

ولو استمر محمد في التيتم، لكانت ذاكرته كلها أحزان وقهر، فإذا به ينقله المولى إلى ذاكرة رجولة وعلوم الرجال الكبار، لهذا ذكره المولى بهذا الفضل العظيم، فقد جعل ذاكرة الطفولة مرفوعة عالياً بهذه المجالس العظيمة.

هذا هو الرفع بالضبط!

فذاكرة بقية الأطفال دونية منخفضة لا يهمها سوى اللعب، بينما ذاكرة الطفل محمد فذاكرة رجال وأي رجال؟ إنهم رجالات السياسة وقادة الشعوب.

فالذكر ليس له علاقة بأذان وإقامة وتفاهات أهل التراث غفر الله لهم، فالله لم ينزل الدين لكي يتمجد الرسول ويصبح نداً لله، كما يفعل المسلمون اليوم، بل صار ترديد اسمه يفوق ترديد اسم الله نسأل الله السلامة من هذا الشرك العظيم، بل الذكر هنا هو ذكريات الرسول في طفولته التي كانت كلها رجولة وعلوم سياسة.

الرفع للعمل:

{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّءَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ }  [فاطر: 10].

شرحنا هذه الآية في جذر صعد، ونضيف هنا بعض الأمور:

نرجح أن الكلم الطيب هو الدعاء والنصيحة وكل كلام مقبول عند الله، ولكن يأخذ وقته، ولكن العمل الصالح يرفعه المولى بنفسه، فهو أسرع في الوصول، فإذا وصل الدعاء والعمل الصالح، بدل المولى من حال من قام بتلك الأعمال، فينال العزة.

رفيع الدرجات:

{ رَفِيعُ الدَّرَجَٰتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ }  [غافر: 15].

{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَٰتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }  [الزخرف: 32].

{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَٰتٍ}  [المجادلة: 11].

المولى وحده من يرفع الإنسان ويخفض مكانته، ولا يكون الرفع إلا مع وجود الفضل وقد شرحنا الفضل بالأعلى وأفردنا له مقالاً، وقلنا هو الزيادة على الآخرين، فالمولى يفضل أحدهم أي يزيده في شيء ما، هذا الفضل يدفع إلى رفعته في المكانة الاجتماعية والتقدير، هذه الرفعة هي التي تجعل الآخرين يطيعونه ويتبعونه.

الخلاصة:

الرفع خلاف الخفض، وهو بيد الله وحده، والرفع يكون مادياً حسياً، كرفع الغلاف الجوي عن الأرض أو رفع الطور على اليهود، أو رفع قواعد البيت، وقد يكون معنوياً كرفع مكانة الإنسان، والعمل الصالح هو الذي يمهد لهذا الرفع، فالله يرفع من يعمل الصالحات.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني

 



([1]) «مقاييس اللغة» (2/ 423) «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (2/ 831)

([2])  [آل عمران: 55].

([3]) «موسوعة التفسير المأثور» (22/ 704): «تفسير الطبري» (24/ 108): «التفسير الوسيط - مجمع البحوث» (10/ 1786):

([4]) «موسوعة التفسير المأثور» (21/ 230): «موسوعة التفسير المأثور» (23/ 170): «تفسير الطبري» (24/ 336): «التفسير الوسيط - مجمع البحوث» (10/ 1889):

([5]) «تفسير ابن كمال باشا» (2/ 160): «التفسير المنير - الزحيلي» (3/ 5): «موسوعة التفسير المأثور» (4/ 451):

([6]) «فتوح البلدان» (ص55):

([7]) «موسوعة التفسير المأثور» (23/ 347):

ali
ali
تعليقات