الخبث والخبيث في القرآن المكرم
خبث في المعاجم:
خبث أصل واحد يدل على خلاف الطيب. وخبيث
أي ليس بطيب. وأخبث أي له أصحاب خبثاء. وأي طعام كريه الطعم والرائحة فهو خبيث
كالثوم والبصل والكراث. والخبائث ما كانت العرب تستقذره مثل الأفاعي والعقارب،
والبرصة، والخنافس، وغيرها. وأصل الخبث عند العرب هو المكروه، ثم الشتم. وخبث
الحديد والفضة هو ما نفاه الكير عند الإذابة، وهو ما لا فائدة منه. والأخبثان هم
الرجيع والبول أو القيء والفضلات ([1])
الخبث
في القرآن:
نلاحظ بداية أن الخبث لم يذكر إلا في المزروعات،
أو الأشجار، أو الكلمات، أو البلد، أو البشر، أو أعمال قرية لوط، لكن هذا لا يعني
أنه فقط في هذه الأشياء، فقد يكون في غيرها. كما نلاحظ أن الخبث ليس مخفياً، بل هو
ظاهر، فالخبث في الطعام ظاهر، لكن يبدو أن الإنسان الخبيث لا يظهر خبثه إلا مع الفتن
والاختبارات، ذلك أنه يتفنن في إخفاء خبثه.
فهل الخبث هو ما تنفر منه النفس، لأنه يخالف
الطبيعة الأصلية للأشياء؟
أم
أن الخبيث هو من يعطل ويضر، وعكسه الطيب الذي ينفع ويدفع الخير للأمام؟
خبث
المزروعات:
{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ
إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة : 267]
المنتوجات الزراعية وفيرة، بعضها طيب
وبعضها خبيث شوائبه أكثر من فوائده، أو لم يكتمل نموه، فيحذر المولى من تقديم هذا
الخبيث كصدقة، فبعضهم ينتقي الخبيث من بين الطيب ليقدمه كصدقة ويمن على الفقير. فهل
الخبيث هو الذي لا يؤكل؟ أو الذي لا تأكله إلا البهائم والجوعى، مثل الحشف الذي
صار يضرب به المثل (أحشفاً وسوء كيلة) فمن المؤكد أن الحشف خبيث، فهل خبيث تعني من
به عيوب ونواقص، أو هو ضار وخطير؟
تبديل
الخبيث:
{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا
الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ
إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء : 2]
تحكي هذه الآية عن الذي يكفل اليتيم،
خاصة من أقاربه لكن تتكلم السورة عن الأموال، ولم نصل إلى معنى الأموال وهل تختلف
عن المزارع والثمار أم هي تشمل كل شيء يملكه الإنسان؟
مهما يكن حقيقة هذا المال فإن فيه الطيب
وفيه الخبيث، ويقوم الكافل بالاستبدال والانتقاء، فيعطي الأيتام الخبيث منه ويحوز
الطيب، وهذا يؤكد أن الخبيث ظاهر وليس مخفي.
الخبث
والنكد:
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي
خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف :
58]
لم يرد جذر النكد إلا مرة واحدة، وزعموا
أن النكد هو القليل عديم النفع، وقيل، بل عسراً رقيقاً، فييبس مكانه فلم ينتفع به ([2]) . بيد أن المعنى واضح، فهناك بلدان، بلد طيب انتاجه غزير ومفيد،
وبلد في جزء منه خبث هذا الخبث يجعل الإنتاج عسراً، نعم يخرج إنتاج طيب، لكنه يخرج
بصعوبة لأن تلك الأرض عسيرة وفيها خبث، يعطل ويضر الإنتاج. فالخبث ليس في الإنتاج فهو
جيد وطيب، ولكنه نكد أي عسير في جنيه أو قليل، وذلك لأن تلك الأرض جزء منها خبيث،
كأن تكون الأرض الزراعية أجزاء منها صخرية لا تصلح للزراعة أو غيرها من الأسباب.
خبائث
قوم لوط:
{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا
قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء : 74]
قوم لوط يعملون السيئات، وقد نعتها
القرآن بأنها خبائث فهي ليست خبيثة واحدة ولا يمكن أن يكون الشذوذ هو الخبائث وإلا
لقال تعمل الخبيث بالمفرد. وقد ذكر القرآن أن قوم لوط يعملون السيئات
ولم يرد في القرآن عن أعمال قوم لوط إلا
قطع الطريق وفعل المنكر، والمنكر هنا ليس الشذوذ فقد خصه بكلام لوحده في كل الآيات،
لأنه ليس من الخبائث، بل من الفحشاء.
ﵟوَتَقۡطَعُونَ
ٱلسَّبِيلَ وَتَأۡتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلۡمُنكَرَۖ ﵞ [العنكبوت: 29]
فقطع السبيل هو من الخبائث وكذلك المنكر
الذي لم يحدده بالضبط، لكن المنكر ضد المعروف والمعروف هي الأعمال المعروفة التي
تعرفها النفس فتقبلها، بينما المنكرات فهي الأعمال التي تستهجنها النفس. وهذا يؤكد
جزماً أنهم يعملون الخبيث أي ما فيه ضرر وتعطيل للناس وطرق التجارة.
الكلمة
الخبيثة:
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم : 26]
قبل الحديث عن الكلمة الخبيثة يجب التحدث
عما شبهت به وهي الشجرة الخبيثة، ويقصد هنا كما هو معلوم للمزارعين الحشائش التي
تفتك بالمزروعات المفيدة، فهي تنافس المزروعات المفيدة على الماء لأن جذورها قوية
تمتص الكثير من الماء، كما تستهلك المعادن والفيتامينات كما أنها تحجب الضوء عن النبات
المفيد الأصغر منها فتمرض. كما أنها تأوي الآفات والأمراض، وذلك لأنها تأوي
الحشرات والقوارض والديدان والطفيليات، كما أنها تعيق عمليات الحصاد والجني. وبعض
الحشاش تفرز السموم لتقتل بقية النباتات المفيدة.
والآية تقول اجتثت من فوق الأرض، وهذا ما
يفعله المزارعون فعلاً فهم ينتظرون رطوبة التربة حتى يستطيعوا اقتلاع تلك الحشائش
من جذورها.
وبهذا نصل إلى درجة الجزم أن الخبيث هو
الذي يضر ويعطل الآخرين، ونلاحظ في الخبث أن هناك ثلاثة أطراف الخبيث والمتضرر والمتعطل،
فأما الخبيث فمثل تلك الحشائش الضارة، وأما المتضرر فهو بقية النبات المفيد، وأما
المتعطل فهو صاحب النبات المفيد.
وهنا نصل إلى الكلمة الخبيثة، فحالها مثل
حال تلك الحشائش، فهي ضارة ومعطلة والكلمة ليست مفردة واحدة، بل جملة أي فكرة
كاملة، وقد ذكرت النصوص السابقة لهذا النص كثير من الأفكار مثل فكرة أن ما جاءت به
الرسل مخالف لما كان عليه الآباء وغيرها من الأفكار وقد اجتثها الملى كلها وأبقى الكلمة
الطيبة.
الخبيثات
والخبيثون:
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ
لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور : 26]
وهذا النص الكريم يحتاج إلى إسهاب وشرح
مطول فسوف نفرد له مقال خاص به، ولكن نقول هنا اختصاراً، إن الإفك الذي وقع على
تلك المرأة الأنصارية الطاهرة، كان من فئتين، فئة خبيثة وفئة طيبة أي فئة أخذها
الحماس ووقعت في الخطأ عن حسن نية، بينما الفئة الخبيثة، فهي تريد من ذلك نشر
الفاحشة، وبهذا نجد أن هنا أيضاً ثلاثة أطراف، فهناك الخبيث الذي ينشر الشر
والضرر، وهناك السيدة المظلومة التي تضررت كثيراً، وهناك المجتمع الذي كاد أن
يتعطل، فبعضهم كاد أن يوقف النفقات عن فئة الفقراء التي شاركت في هذا الأفك عن حسن
نية، كما أنها لو نجحت خطة الخبثاء لانتشرت الفاحشة في المجتمع.
والآية تقول إن هؤلاء الطيبين، يجب
تبرأتهم، وعدم معاقبتهم، فعن حسن نية وسذاجة شاركوا في هذا الإفك، وقصدهم الإصلاح،
فلا تعاقبوهم بعدم الإنفاق إذا كانوا من الفقراء والمهاجرين.
الإنسان
خبيث وطيب:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران
: 179]
يريد المولى انفصال الخبثاء عن الطيبين،
فالفتن أدت إلى استقطاب حاد في المدينة، فمن كان في صف كفار اليهود، انضم لهم بشكل
سافر، ومن كان من الطيبين انضم إلى صف الرسول، هذا الاستقطاب الحاد هو الذي ساهم
في إخراج الخبث من المدينة فخرجت القبائل الغدارة، كبني النضير وقينقاع وقريظة.
كثرة
الخبيث:
{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ
وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة : 100]
الخبيث هنا هو الكافر، فالآية توجه
الرسول والمؤمنين، ألا يغتر بكثرة الخبثاء فلا فائدة منهم، بل هم ضرر وتعطيل، فحتى
لو كان عدد الخبثاء كبيراً فإنهم لا يساوون واحداً من الطيبين.
يحرم
الخبائث:
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف : 157]
هذه الآية موجهة إلى اليهود، تخبرهم أن
الرسول جاء بتشريعات لصالحهم، فلدى اليهود كثير من المحرمات التي ليس لها أصل في
دينهم إنما رجال الدين هم من حرم عليهم، كذلك يحرم عليهم الخبائث، فأما الطيبات
فهي التي تفيد وتصلح وتساهم، أما الخبائث فهي التي تعطل وتضر، بالإنسان أو المجتمع.
والآية عندما تنعت المحرمات بالخبائث،
فهي تقصد إلى توعية الناس، وأن الله لم يحرم دون سبب، بل لأن تلك المحرمات هي
خبائث تعطل وتضر.
ركم
الخبيث:
{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ
فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال : 37]
يقصد بالخبيث والطيب هنا الكافر والمؤمن،
فالمولى سيجعل الكفار بعضهم فوق بعض، أي يركمهم، ثم يدخلهم النار، وهذا في المحشر
وما بعد المحشر. ونعت الكافر بالخبيث، لأنه كان ضاراً في الدنياً ومعطلاً، على عكس
الطيب فهو الذي يسميه بالمصلح فهذا أحسن نعت له. فأنظر لمدى احتقار الخبثاء يوم
القيامة، وكيف أنه لا قيمة لهم وكأنهم ركام قمامة.
الخلاصة:
الخبث هو الذي يعطل ويضر الشيء، على عكس
الطيب الذي يساعد وينفع، والخبيث هو الذي يعطل ويضر الآخرين. وقد يصل من شدة ضرره وتعطيله
إلى درجة التحريم، فكل محرم هو خبيث، وليس كل خبيث هو محرم بالضرورة. وإذا نعت
القرآن المحرمات بأنها خبائث أي معطلات ومضرات، فذلك لكي يقنع الناس بخطورتها.
وكما أن هناك أشياء خبيثة تضر وتعطل،
فكذلك الإنسان قد يكون خبيثاً يعطل ويضر، فإذا كان يعطل الدين الحق فهو كافر حتماً،
وإذا عطل مصالح الناس فهو خبيث وظالم ومصيره إلى النار.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك