وسع في القرآن المكرم
وسع في المعاجم:
كلمة تدل على خلاف الضيق والعسر. والوسع
هو الغنى. واالله الواسع أي الغني. والوسع هو الجدة والطاقة. وأوسع الرجل أي كان
ذا سعة. والفرس الذريع الخطو هو الوساع ([1])
وسع
في القرآن
ورد هذا الجذر 32 مرة، فإذا ارتبطت هذه
الكلمة مع الإنسان فهي تقصد المال صراحة، وإذا ارتبطت هذه الكلمة بالذات العلية
فهي على حسب موضعها، وإذا ارتبط بالجغرافيا والفلك فهي تتكلم عن المساحة كالكرسي
والأرض.
وقبل أن نبحث في الآيات، سنفترض أن الوسع
مساحة، وهو بخلاف الإحاطة، فالإحاطة هي عمل سور للشيء المقصود، نعم الإحاطة أعلى
من الإحاقة، كما شرحنا فإن الإحاقة هو التطابق التام مع الشيء المراد الإحاطة به،
بينما الإحاطة فهي تسوير الشيء بسور أكبر من الشيء نفسه.
أما الوسع فهو إحاطة بالمكان كله، فلو
أراد أحدهم حرث الأرض فلا يصح أن نقول له أحط بها، فإن الإحاطة هي فقط مماسة طرف
الأرض المراد حراثتها، بينما الوسع، فهو يمسح كل الأرض مسحاً شاملاً، وهذا ما سوف
نراه من الآيات التي تتحدث عن الوسع الجغرافي، إليك بها:
السعة في الأرض:
{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ
فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء : 100]
يرى أهل التراث أن مراغم تعني : متزحزحاً
عما يكره، وقيل بل منفسحاً، وقيل بل تحولاً، وقيل بل المهاجر، وقيل، بل الروح ([2]) ونرجح أنه من الرغم، والمراغم هو المذهب والمهرب ([3]) فالآية تقول سيجد المهاجر الذي ترك بلاده مراغم أي طرق كثيرة يهرب
بواسطتها، وسعة وهي الأرض التي تجعل المهاجر في سعة ونعيم.
فالآية الكريمة تؤكد أن السعة هي المساحة
الجغرافية، التي يستقر فيها المهاجر، وقد سميت سعة لأنها تسعه أي تحيط به فهو يتخذ
جزء منها فقط، وهي سعة لأنها توسع عليه، فهو لا يشعر بضيق العيش، بل هو في بحبوحة.
{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10]
{قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ
وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء : 97]
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي
وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت : 56]
وكل هذه الآيات تؤكد أن الأرض هي مساحة
جغرافية وهي واسعة أي تبتلع من يسكنها فيصير جزء يسير منها، فهي أكبر من الإحاطة،
فالوسع مفهوم جغرافي ظاهر، فالوسع ليس مجرد إحاطة، بل هو تغطية كاملة وشاملة للشيء،
وكأنه نقطة في جداء ديكارتي، فالسعة هي طول الأرض بعرضها.
توسع
السماء:
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا
لَمُوسِعُونَ} [الذاريات : 47]
نحن نزعم أن السماء هي الغلاف الجوي
للأرض، وأن هذا التوسع للغلاف سيحدث يوم القيامة وليس على هذه الحياة الدنيا، وقد
كتبنا في ذلك، وبغض النظر عن معنى السماء، فهي من الحجوم الكبيرة، والتي ستتوسع،
أي هي حجم مادي ظاهر، سيتمدد من كل جهة.
وسع
الكرسي:
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ
حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة : 255]
السماوات والأرض من المساحات والحجوم
الهائلة، مع هذا جاء الكرسي لكي يسعهما، ولم يقل يحيط بهما، فلو قال أنه يحيط
بهما، لكان لهما كالسور للمنازل الضخمة، لكنه أكبر من الإحاطة فهما يحتلان جزء
صغير منه، وقد توصلنا إلى ماهية الكرسي والعرش وقد أفردنا شرحه في مقال خاص، فلن
نطيل الشرح هنا، ونكتفي بالقول إن الكرسي ذو حجم هائل بحيث يبتلع السماوات الأرض لهذا
هو أوسع منهما بمراحل.
السعة
والإنسان:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة : 233]
{ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ
وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة : 236]
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
[البقرة : ]
كل آيات السعة التي ذُكرت مع الإنسان،
فهي تتحدث عن القدرة المالية، فهو في توسع كبير، أي يملك من المال بحيث لا يشعر
بالضيق والخطر من الفقر، فهذا الشخص الذي سعته كبيرة عليه أن ينفق أكثر ممن كانت
سعته ضيقة، فهنا أخذ القرآن مفهوم السعة الجغرافي المادي ليستخدمه في المال، فهناك
من لديه سعة أي توسع كبير في المال.
وهذا الاستخدام دقيق أكثر من كلمة
"غني" فالغني يمكن أن يكون فقيراً لكنه مستغني وعزيز النفس وقد يكون
الشخص ذا مال كثير، ولكن فقير وشحاذ. بينما كلمة السعة تؤكد أنه ذو رصيد مالي
كبير، حتى لو كان فقير النفس.
المولى
والسعة:
وردت السعة المقرونة بالذات العلية،
وأضيف لها العلم عدة آيات، وفي آيات أخرى أضيف لها الرحمة، وفي آية وحيدة أضيف لها
المغفرة. وقبل أن نتحدث عن كل نوعٍ، يجب أن ندرك أن لفظة واسع تعني أنه جل جلاله
يملك خزائن هائلة فهو جل جلاله في وسع عظيم، لهذا هو يهب لمن يشاء من البشر، يوسع
عليه، وخزائنه من كل شيء من الرحمة والكرامة والمغفرة والأموال والذرية والعلم، فمثلاً،
قد تجد شخصاً كثير المال قليل العلم، لأن الله مده بالمال ولم يمده بالعلم.
واسع
عليم وحكيم
{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ
وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة
: 247]
ﵟوَإِن
يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلّٗا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا
حَكِيمٗا ﵞ [النساء: 130]
وردت عبارة "واسع عليم" سبع
مرات، ووردت عبارة "واسع حكيم" مرة واحدة، وكلها تشير إلى إعطاء الله
الأموال للبشر، والتفاوت في ذلك، فسبب التفاوت هو أن الله عليم بالبشر، فلا يعطي
من لا يعمل أو من يبخل، فهناك قواعد وهناك علم الله بالبشر، لهذا هو واسع أي يوسع
على الإنسان وهو علم به وبما يستحقه أو بما له من دور ينفع به الآخرين، فإذا أعطى
الآخرين زاده الله في السعة.
أما عليم حكيم والتي وردت في الآية
بالأعلى، فهي من الحكم فالله حكيم أي أعظم من يحكم بالعدل والقسط، فإن تفرق
الزوجان فإن الله يوسع على الاثنين بحكمة أي بعدل وقسط، كلاهما بما يستحقان وفق
حكمه جل جلاله.
وسع
علماً:
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي
فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}
[الأنعام : 80]
{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه : 98]
{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ
لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا
كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف : 89]
المولى علمه واسع وعظيم، لهذا الاعتماد
عليه هو الصواب، لأنه العليم، فلا يخطأ أبداً، بينما الكفار والأصنام ورجال الدين،
ليس لديهم سعة في العلم إلا كمقدار حبة الرمل في الصحراء، فمن يستحق الاتباع
والعبودية، فالله واسع في علمه أي علمه يغطي كل شيء، لهذا الرجوع إليه هو الصواب.
الرحمة
واسعة:
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو
رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام
: 147]
{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف :
156]
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر : 7]
الرحمة كما شرحنا هي إزالة الضرر والشر
عن الكائن الحي، والمولى رحمته واسعة أو وسعت كل شيء، أي كل ضرر وشر تغطيه الرحمة
فتزيله، فرحمة الله واسعة تقضي على كل ضرر وشر.
واسع
المغفرة:
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم
: 32]
كما شرحنا فإن المغفرة تسبق الرحمة، فلا
رحمة بلا مغفرة، ولا يمكن أن تحدث المغفرة، بدون التوبة من الذنوب الكبيرة، فالمغفرة
تلي التوبة. ومعنى أن المغفرة واسعة، أي تشمل كل الذنوب، فلا يوجد ذنب إلا ويُغفر،
إذا تاب صاحبه وأصلح، وقد أكد ذلك في القرآن.
والمغفرة واسعة، فهي تقضي على كل ذنب كماً
وكيفاً، طالما هناك توبة نصوح.
الخلاصة:
الوسع والسعة، هي المساحة الجغرافية
الكبيرة الممتدة طولاً وعرضاً، فهي أشمل من الإحاطة التي تحيط بالشيء فقط بدون
ملامسة. أما السعة فهي تبتلع الشيء، فيصبح جزء منها فقط.
ثم اقتبس من هذا المعنى المادي المعاني
العقلية، فالله واسع أي لديه خزائن هائلة من كل شيء من الأموال والأولاد والرحمات
والمغفرة، والعلم وغيرها من الخزائن لهذا هو ذو سعة لا مثيل لها جل جلاله.
أما سعة الإنسان فلم تأت في القرآن إلا
لتشير إلى الثراء وكثرة المال، وهي تعني أنه في بحبوحة وراحة مادية وبقدرته
الإنفاق على من حوله، دون أن يشعر بضغط مالي، فلم يضيق عليه. ومعنى "لا يكلف
الله نفساً إلا وسعها" أي لا تكليف عليه في النفقات إلا حسب القدرة المالية، وليس
ولها علاقة بتحمل المصائب والمصاعب، كما
يحلو للمفسرين تفسيرهم لتلك الآيات، فكل آيات الوسع يقصد بها الوسع المالي إذا
ذُكر معها الإنسان.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك