أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 آخر الأخبار

هل توعد الرسول كفار قريش بالذبح؟ (جئتكم بالذبح)

 


هل توعد الرسول كفار قريش بالذبح؟

تعجب بعضٌ من المسلمين كيف يكون الرسول رحمة للعالمين ([1]) ثم يقول لكفار قريش "لقد جئتكم بالذبح"([2])  فهذا الحديث في نظرهم لا يستقيم، وجزموا بكذب المرويات، فالرسول هين لين، سمح متواضع، يدفع بالتي هي أحسن، وليس بفظ غليظ القلب، ولا صخاب ولا سبّاب ولا شتام.

فهل نصدق هذه الرواية عن الرسول أم نصدق ما تقوله الروايات المخالفة عن الرسول وكذلك نصوص القرآن التي تظهر مدى حلمه وصبره على قومه؟

والرواية تقول أن الرسول لم يخرج على قومه ليقول لهم هذا الكلام هكذا، بل ذهب للطواف وكانوا مجتمعين عند الكعبة، فكلما مر عليهم سخروا من كلامه وعقائده التي جاء بها، فلما تكررت منهم السخرية قال لهم: جئتكم بالذبح. فارتعب القوم من كلامه فتوقفوا عن الاستهزاء وقال أحدهم : "انصرف يا أبا القاسم انصرف راشدا فوالله ما كنت جهولا" ([3]) وفي رواية حددهم بالضبط فقال: "يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده ما أرسلت إليكم إلا ‌بالذبح" ([4])

ووعيد الرسول لكفار قريش ليس بغريب، فهو أولاً يتفق مع التاريخ، فقد ذبحهم في معركة بدر الكبرى، ثم هو يتفق مع القرآن الذي توعدهم بالقتل والهزيمة، وهو رد فعل طبيعي، فإن الاستهزاء هو أعلى درجات الاستخفاف، هذا الاستخفاف خطير وأشد قوة من القتل والمصادمة، لأنه يجعل الرسول بلا قيمة ولا قدر، مما يحطم معنويته وأصحابه كذلك يحتقره العامة. هذا الاستخفاف كان أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت الدعوة في تراجع كما تشير إلى ذلك سورتي الفرقان والإسراء، فكان الرسول في توق إلى الهجرة، بعد تجمد الدعوة في مكة، لكن المولى جل جلاله أمره بالانتظار

وقد بلغ استهزائهم به أنهم وضعوا مخلفات الذبائح التي ذبحوها فوضعوها فوق الرسول وهو يصلي، فجاءت فاطمة ورفعتها، وكان هؤلاء هم كبار كفار قريش وهم: أبو جهل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وكل هؤلاء قد ذبحوا فعلاً في معركة بدر ([5]) وفي رواية أكد الرسول لأبي جهل أنه من ضمن المذبوحين ([6]) بل بلغ الأمر أن الرسول قد حدد مواقع مقتل كل كبير فيهم، فعندما جاء في بدر، قال لأصحابه هنا مصرع فلان وهنا مصرع فلان ([7])  وهذا يؤكد ويشرح آية الشجرة الملعونة التي ذُكرت فيها رؤيا كانت فتنة لقريش، فقد رأى مصارع القوم.

أو قد تكون الرؤيا أنه رأى المسلمين يفتحون بلاد فارس والروم كما تقول المرويات، فقال الرسول لهم ذات مرة: " زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها " ([8]) ويقول لأصحابه " وَلَتُفْتَحَنَّ عَلَيْكُمْ كُنُوزُ ‌كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ "([9])  وفي رواية أخرى: "وَلَيُهْلِكَنَّ اللهُ ‌كِسْرَى وَقَيْصَرَ وِلَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل" حتى أن أحد المنافقين اعترض فقال: "مُحَمَّدٍ ‌يَعِدُنَا أَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَأَنْ نَقْسِمَ كُنُوزَ فَارِسَ وَالرُّومِ وَنَحْنُ هَاهُنَا لَا يَأْمَنُ أَحَدُنَا أَنْ يَذْهَبَ الْغَائِطَ" ([10]) لكن نرجح أن الرؤيا كانت رؤية الرسول مقتل كفار قريش وهو أمر يمسهم مباشرة، فهو يهز من مكانتهم وقيمتهم ويرعبهم.

ماذا يقول القرآن؟

يبين القرآن مدى كرامة الرسول وعزته بين قومه، وحب الناس له حتى كبار كفار قريش كانوا يوقرونه قبل أن تظهر الدعوة، فلما بُعث الرسول تفننوا في تحطيم معنوياته والتقليل من شأنه فهو ساحر

ﵟفَقَالَ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ يُؤۡثَرُ 24 إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ ﵞ [المدثر: 24-25] 

ﵟوَإِن يَرَوۡاْ ءَايَةٗ يُعۡرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحۡرٞ مُّسۡتَمِرّٞﵞ [القمر: 2] 

 ﵟمَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌﵞ [الذاريات: 52]

وهو مسحور

ﵟوَقَالَ ٱلظَّٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلٗا مَّسۡحُورًاﵞ [الفرقان: 8]

وهو مجنون

 ﵟوَقَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ إِنَّكَ لَمَجۡنُونٞﵞ [الحجر: 6]

وهو كذاب أشر

 ﵟأَءُلۡقِيَ ٱلذِّكۡرُ عَلَيۡهِ مِنۢ بَيۡنِنَا بَلۡ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٞﵞ [القمر: 25] 

وهو مفترٍ على الله

ﵟأَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ إِنِ ٱفۡتَرَيۡتُهُۥ فَلَا تَمۡلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۖ ﵞ [الأحقاف: 8] 

ثم تحولوا إلى الاستهزاء به وبعقائده وهو أعلى درجات الحط والإهانة

ﵟوَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَﵞ [الأنعام: 10] 

ﵟوَمَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَﵞ [الحجر: 11] 

ﵟيَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ ﵞ [يس: 30]

 والاستهزاء هو أخطر الأسلحة ضد المصلحين كما ذكرنا بالأعلى، فكان من الطبيعي أن يتوعد هؤلاء الفجرة بالذبح، وقد أيده القرآن في ذلك

 ﵟوَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ ﵞ [الرعد: 32]

 ﵟفَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ 94 إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ 95 ٱلَّذِينَ يَجۡعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ 96 وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدۡرُكَ بِمَا يَقُولُونَﵞ [الحجر: 94-97]

وعشرات النصوص تتوعدهم بالقتل والعذاب، بل الرسول توعدهم بالعذاب.

 ﵟلَّوۡمَا تَأۡتِينَا بِٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ 7 مَا نُنَزِّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَمَا كَانُوٓاْ إِذٗا مُّنظَرِينَﵞ [الحجر: 7-8] 

﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأنبياء: 37-38]

﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الأنبياء: 44] ([11])

بل إن الوعيد بالعذاب يبدو قريباً وفي حياة الرسول وقبل موته

  { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُ وَعَلَيۡنَا ٱلۡحِسَابُ }  [الرعد: 40].

{ وَإِنَّا عَلَىٰٓ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمۡ لَقَٰدِرُونَ }  [المؤمنون: 95].

وفي سورة الإسراء التي نزعم أنها من أواخر السور المكية، تحولت سخريتهم إلى خيفة من الرسول بعد توعده لهم، فكانوا يخططون لإخراجه أو قتله

ﵟوَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗاﵞ [الإسراء: 76] 

ﵟوَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِي مُدۡخَلَ صِدۡقٖ وَأَخۡرِجۡنِي مُخۡرَجَ صِدۡقٖ وَٱجۡعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلۡطَٰنٗا نَّصِيرٗا 80 وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗاﵞ [الإسراء: 80-81] 

بل إن تهديدهم قديم ومنذ بدايات الدعوة فقد أخبرتم بهزيمتهم

ﵟأَمۡ يَقُولُونَ نَحۡنُ جَمِيعٞ مُّنتَصِرٞ 44 سَيُهۡزَمُ ٱلۡجَمۡعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ ﵞ [القمر: 44-45] 

ﵟقُلۡ يَجۡمَعُ بَيۡنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفۡتَحُ بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَهُوَ ٱلۡفَتَّاحُ ٱلۡعَلِيمُﵞ [سبأ: 26] 

واستمر القرآن في تهديدهم حتى بعد مقتل كبارهم

ﵟإِن تَسۡتَفۡتِحُواْ فَقَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡفَتۡحُۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ ﵞ [الأنفال: 19] 

واستمرت النبوءات إلى تحديد موعد فتح مكة وقريباً

ﵟلَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًاﵞ [الفتح: 27] 

في الختام:

الحديث والقصة تبدو منطقية، مع عتاولة قريش الفجرة، الذين تفننوا في منع الدعوة وبالغوا في تعذيب المؤمنين -أنظر سورة البروج- لقد وصل بهم الأمر إلى الاستخفاف الشديد بالرسول وبكلامه، بل إلقاء الفضلات على رأسه أثناء اعتكافه بالمسجد الحرام، وقد تجمدت الدعوة وصارت تراوح مكانها، فكان من ضمن ردود الرسول عليهم أنه سيذبحهم، وهو لا يقول إلا الصدق، فقد رأى في المنام مذبحة قريش في بدر.

هذا التهديد الكبير كان ضرورياً جداً لكي يتوقف الاستخفاف والاستهزاء، فلا يفل الغرور إلا التهديد والوعيد، ويبدو أنهم توقفوا عن الاستهزاء الذي لم يعد ينفع، ومالوا إلى التخطيط لقتله كما تقول سورة الإسراء.

وتهديد الرسول لهم منطقي ومعقول، بل ضروري لصد العدوان وكف الأذى، الذي لحق بالرسول والمؤمنين.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني



([1]) كتبنا مقال نشرح فيه معنى رحمة للعالمين وبينا أنه جاء بالسيف ليقضي على قوى الظلام في زمنه فكان رحمة أرسلها الله للعالمين في زمنه

([2]) «مسند أحمد» (11/ 610 ط الرسالة):

([3]) «مسند أحمد» (6/ 464 ت أحمد شاكر):

([4]) «مسند أبي يعلى» (13/ 325 ت حسين أسد):

([5]) «مصنف ابن أبي شيبة» (7/ 332 ت الحوت):

([6]) «مصنف ابن أبي شيبة» (7/ 331 ت الحوت):

([7]) «مغازي الواقدي» (1/ 49):

([8]) «فتوح الشام» (1/ 5)

([9]) «مصنف ابن أبي شيبة» (7/ 342 ت الحوت)

([10]) «دلائل النبوة للبيهقي» (3/ 402)

([11]) شرحنا في عدة مرات في معنى ننقصها من أطرافها، والمقصود دولة قريش التي بدأت تتآكل من أطرافها وخروج بعض القبائل عن طاعتها.

ali
ali
تعليقات