تفسير سورة العلق
{ ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ ٨ أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ ٩ عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ ١٠ أَرَءَيۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰٓ ١١ أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰٓ ١٢ أَرَءَيۡتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ ١٣ أَلَمۡ يَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ ١٤ كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ ١٥ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ ١٦ فَلۡيَدۡعُ نَادِيَهُۥ ١٧ سَنَدۡعُ ٱلزَّبَانِيَةَ ١٨ كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب۩ ١٩ } [سُورة العلق].
تفسير
أهل التراث:
يزعم أهل التراث أن الرسول كان يتحنث
ليالياً في غار حراء، فجاءه جبريل وأمره بالقراءة ثم غطه، وتقول الرواية أنه هرب
إلى خديجة وقال لها: زملوني زملوني. والعجيب أنه كان المفروض أن تكون هذه مناسبة
لنزول سورة المزمل، لكن جعلوها في سورة العلق.
ويزعمون أنه ظهر له عدة مرات فكاد الرسول
أن ينتحر بأن يلقي بنفسه من حالق الجبل. وحينها أمره جبريل بالقراءة وغطه ثلاث
مرات. فلما وصل إلى خديجة وأخبرها بما حدث، بشرته، وبينت أن مثله ممن هو على أخلاق
عالية لا يمكن أن يتركه الله، ثم ذهبت به إلى قريبها ورقة بن نوفل.
فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على
موسى.
وفي رواية أن جبريل أمر الرسول وهو في
الغار أن يقرأ فاستفسر الرسول عما يقرأ، فضمه جبريل ثم قرأ عليه سورة العلق.
ويزعون أن أول سورة نزلت هي العلق، ولكن اختلفوا، فقيل، بل سورة الفاتحة.
ويزعمون أن أبا جهل توعد الرسول إن ذهب
للصلاة عند الكعبة ليطأن رقبته. وكان قد نهاه عن الصلاة سابقاً، فلما حاول أبو جهل
منع الرسول هرب وقال يفسر هربه لاتباعه: إن بيني وبينه خندقا من نار. وقال الرسول
عليه السلام: لو دنا لاختطفته الملائكة.
ويرون أن معنى(علم الإنسان ما لم يعلم)
أن المقصد تشريفه، كما يبين فضل علم الكتابة، فلولا القلم ما دونت العلوم.
ويزعمون أن معنى (ليطغى) أي تجاوز الحد
في المعصية والاستكبار. وأن (تولى) يعني أعرض عن السماع. وأن الزبانية هم الملائكة
الشداد، وقيل الزبانية هم الشرط عند العرب. ويزعمون أن الزبانية أرجلهم في الأرض
ورؤوسهم في السماء.
وأن معنى (أن رآه استغنى) أي بالغ في
الطغيان لأنه رأى نفسه ذا مال وثروة وبطش. وأن الناصية هي مقدمة الرأس. وقيل
المراد لنسحبنه على وجهه في الدنيا يوم بدر ([1])
مفردات
السورة الغامضة:
لا يمكن فهم النص دون فهم المفردات، وسوف
نضع نبذة عن معاني الكلمات ومن أراد التوسع فيمكن مراجعة الموقع حيث أثبتنا تلك
المعاني بتفصيل.
- اقرأ: هي تتبع الشيء فإذا كان كتاباً فهو
تتبع الحروف والكلمات بالقراءة والتلاوة. وسوف ندرس هذا الجذر بتفصيل، ولكنه لن يبتعد
عن هذا المعنى.
- باسم ربك: بنعوت ربك حتى يعرفه الناس.
- خلق: أنشأ جسم جديد من مادة أخرى، بحيث
تغير كلياً
- علق: أحد مراحل خلق الإنسان
- الإنسان: هو الجزء النفساني من هذا
الكائن على عكس البشري الذي هو الجانب المادي منه.
- الأكرم: أكثر من يعطي ويهب.
- القلم: هو الأداة التي يُكتب بها ويسجل
العلم
- كلّا: حرف يؤكد أن ما سبقه من آيات، فقد عكسه ونقضه في الآية التالية، فالإنسان في
هذه الآية السابقة خلقه وعلمه ثم هو بعد ذلك في الآية التالية، يطغى، فجاء بحرف
كلّا.
- استغنى: أي احتجب عن أي ضرر.
- النادي: نرجح أنهم ليسوا أقاربه فلو كان
كذلك لاستخدم الألفاظ الكثيرة التي تعني القرابة مثل: الأقربون أو العشيرة. ولكن
جماعة النادي هم الفئة التي تمارس نفس النشاط، ولها نفس الاهتمامات، وهم هنا
التجار.
- الصلاة: هي الدعوة للدين الجديد
- السفع: هو الصفع في الرأس
- الناصية: هي مقدمة الرأس
- الزبانية: هم ما نسميه اليوم الزبون
وجمعه الزبائن، الذين يتدافعون للشراء.
- سجد: لم نكتب في هذا الجذر بعد وإن رجحنا
أنه الطاعة والاستسلام والخضوع، وسوف ندرسه بدقة بإذن الله.
التفسير
الصحيح:
تمهيد:
هذه السورة الكريمة، هي مثل نظرياتها من
السور التي تبين معاناة الرسول من كفار قريش، فناهيك عن الاستهزاء والسخرية، فقد
هدد كثير منهم بمقاطعة تجارية مع الرسول، رأينا ذلك في سورة الكوثر، كما رأينا
شعور الرسول بالضائقة المالية في سورة الضحى، لأن الرسول كان يعيل الكثير من
الأيتام والنساء الأرامل والفقراء، فكان في قلق، فطمأنته تلك السور بأن حاله في
زيادة وليس في نقص.
اقرأ:
هذا أمر للرسول أن يأخذ الصحف التي كتبها
وهي السور التي نزلت عليه، فكتبها في صحف، فأمر أن يذهب إلى أندية قريش ويقرأها
عليهم، وهي سور توبخهم على البخل والشرك وعدم شكر الله، فكانت تلك الصحف تسبب لهم
الألم.
وقد أكدت سوراً أنه كان يحمل تلك الصحف
ويتلوها عليهم، قبل أن ينزل القرآن كله، لهذا أرادوا أن ينزل القرآن كله كتعجيز
كما أخبرنا القرآن بذلك، وأرادوا أن ينزل عليهم صحف مثل الرسول فلماذا الرسول وحده؟
والأدلة أن الرسول كان يحمل تلك الصحف
كثيرة من القرآن
ﵟلَمۡ يَكُنِ
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ
تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ 1 رَسُولٞ مِّنَ ٱللَّهِ يَتۡلُواْ صُحُفٗا
مُّطَهَّرَةٗ ﵞ [البينة: 1-2]
فهذا الرسول عليه السلام يذهب ويتلو عليهم
تلك الصحف المطهرة.
ﵟوَمَا
عَلَيۡكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ 7 وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسۡعَىٰ 8 وَهُوَ يَخۡشَىٰ 9
فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ 10 كَلَّآ إِنَّهَا تَذۡكِرَةٞ 11 فَمَن شَآءَ
ذَكَرَهُۥ 12 فِي صُحُفٖ مُّكَرَّمَةٖ 13
مَّرۡفُوعَةٖ مُّطَهَّرَةِۭ 14 بِأَيۡدِي سَفَرَةٖﵞ [عبس: 7-15]
وهذه الصحف ليست من عند الرسول، بل هي
نسخة من صحف مكرمة عند الملائكة.
ﵟإِنَّ
هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ 18 صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰﵞ [الأعلى: 18-19]
وهذه الصحائف التي مع محمد هي نفسها
الصحائف التي جلبها إبراهيم وموسى، فنفس الأفكار وردت هنا وهناك.
ﵟبَلۡ
يُرِيدُ كُلُّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُمۡ أَن يُؤۡتَىٰ صُحُفٗا مُّنَشَّرَةٗﵞ [المدثر: 52]
وهنا يعترضون يريد كل واحد منهم أن يؤتى
صحفاً مثل الرسول، فلماذا تنزل الصحف على محمد فقط.
ويجدر أن نؤكد أن الرسول لم يكن "أمياً"
بل كان يقرأ ويكتب، ولا نعلم متى تعلم القراءة والكتابة هل من صغره أم عندما جاءته
الرسالة، ولو كان الرسول جاهل بالقراءة والتي يطلقون عليها بالخطأ "أمي"
لشنع عليه الكفار ذلك، ثم كيف يتلو الصحف وهو جاهل بالقراءة.
باسم
ربك الذي خلق:
أي بين لهم نعوت المولى جل جلاله والتي
يسميها أهل التراث أسماء الله وصفاته، حتى يتعرف عليه أهل مكة، فهو الكريم العظيم
القوي المعطي الرحيم الرقيب...إلخ. وذكرهم أن الذي خلقهم هو الله، فهم مقرون بذلك
سلفاً
{ وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَهُمۡ لَيَقُولُنَّ
ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ } [الزخرف:
87].
كما أن في الآية توجيه للرسول ألا يخاف
من الكفار، فهو صاحب النعوت العظيمة، فهو في حماية خالق الكون كله، وهؤلاء مجرد
خلق لا قوة لهم ولا قدرة أمام قدرة الله.
وهنا سنلاحظ أن سورة الأعلى مثل سورة
العلق، بل إن سورة الأعلى سابقة لسورة العلق، فهي تأمره بالتسبيح بنعوت الله
العليا ليسمعها أهل مكة، ثم تبين أنه سيعلمه القراءة، ثم تبين أن الغرض هو نشر
الدعوة. كما نلاحظ أن في سورة الأعلى ليس فيها صدام بعد كما في سورة العلق، فقد ظهر
التهديد واضحاً على الرسول.
فهي تبدأ بـ
ﵟسَبِّحِ ٱسۡمَ
رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى 1 ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰﵞ [الأعلى: 1-2]
ﵟسَنُقۡرِئُكَ
فَلَا تَنسَىٰٓﵞ [الأعلى: 6]
ﵟفَذَكِّرۡ إِن
نَّفَعَتِ ٱلذِّكۡرَىٰ 9 سَيَذَّكَّرُ مَن يَخۡشَىٰﵞ [الأعلى: 9-10]
خلق
الإنسان من علق:
الإنسان تعرض لمراحل كثيرة من الخلق، خلق
بعد خلق، ومنها العلقة، وهي كتلة مادية قذرة تتعلق بالرحم، فهذا أصله، فلماذا يتكبر
هذا الإنسان؟ فلا يغرنك قوتهم يا محمد فهم مجرد كائنات من علق.
{ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ
فِي ٱلۡبِلَٰدِ } [آل عمران: 196].
اقرأ
وربك الأكرم:
لماذا
كرر الأمر بالقراءة؟
وما
علاقة القراءة بالكرم؟
كرر الأمر بالقراءة لأن الرسول يتردد في
الذهاب لأنديتهم والصلاة عليهم أي دعوتهم للدين، وقراءة الصحف القرآنية عليهم، فكرر
ليبين أهمية الأمر. وقد وردت عشرات السور تؤكد تحاشي الرسول كفار قريش لما يسمعه
من كلام وسخرية وتهديد.
ففي سورة المزمل يقول له:
ﵟوَٱصۡبِرۡ
عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهۡجُرۡهُمۡ هَجۡرٗا جَمِيلٗا ﵞ [المزمل: 10]
أو في سورة المدثر:
ﵟيَٰٓأَيُّهَا
ٱلۡمُدَّثِّرُ 1 قُمۡ فَأَنذِرۡﵞ [المدثر: 1-2]
ﵟوَلِرَبِّكَ
فَٱصۡبِرۡ ﵞ [المدثر: 7]
ﵟفَقَالَ إِنۡ
هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ يُؤۡثَرُﵞ [المدثر: 24]
فلماذا
قال له أنه الأكرم؟
لأنه ببساطة كان تهديد رجالات قريش
للرسول يتمثل في مقاطعته اقتصادياً، فلا يشترون منه ولا يبيعونه، وقد أكد التاريخ
ذلك، فقد قاطع الكفار كما تزعم المرويات بني هاشم وبني عبد المطلب، والذي نراه أنهم
قاطعوا المؤمنين ومن ضمنهم الرسول، فقد استمر أبو لهب والعباس في التجارة العظيمة
رغم كونهما من بني هاشم.
فكيف كانت نتائج حربهم على الرسول؟
إفلاس
بعض القرشيين:
تعرض بعض رجالات مكة، إلى الخسارة، إما
بسبب معادتهم للرسول مباشرة، أو بسبب عدم تطبيق قوانين الله ففي سورة الكوثر يؤكد
أن الأبتر هو ذلك الذي عادى الرسول أي الذي حاول منع الرسول من الصلاة أي الدعوة للدين
والنحر للفقراء، هو من سوف تُبتر تجارته
ﵟإِنَّآ
أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ 1 فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ 2 إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ
ٱلۡأَبۡتَرُﵞ [الكوثر: 1-3]
وقال في سورة أخرى تخبر أن أحد المعاندين
سيخسر، وقد يكون نفس الشخص، فلعناده زالت ثروته أو نقصت، والذي يؤكد أنه خسر، هو
حرف "كلا" الذي يؤكد العكس فعكس يزيد هو ينقص.
ﵟثُمَّ
يَطۡمَعُ أَنۡ أَزِيدَ 15 كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيدٗا ﵞ [المدثر: 15-16]
ولم يدرك أغنياء قريش السبب في نقص
أموالهم والذي كان بسبب عدم المساهمة في إعانة الفقراء والأيتام وأكل الورث، بل
يحرضون ضد الفقراء والمساكين، فبين لهم في عشرات الآيات أن السبب هو البخل والظلم
ﵟفَقَدَرَ
عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ 16 كَلَّاۖ بَل لَّا تُكۡرِمُونَ
ٱلۡيَتِيمَ 17 وَلَا تَحَٰٓضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ 18 وَتَأۡكُلُونَ
ٱلتُّرَاثَ أَكۡلٗا لَّمّٗا ﵞ [الفجر: 16-19]
ركض
القرشيين خلف المال:
مكة بلد شحيح ومنقطع، فهو بلاد زراعية
محدودة، وقد لاحظ ذلك إبراهيم فدعا لأهلها
ﵟرَبِّ ٱجۡعَلۡ
هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِﵞ [البقرة: 126]
لهذا كان هذا الشح سبباً في تسابق رجال مكة
للبحث عن الكسب من جهة أخرى، فتعلموا التجارة، وصارت عادة عندهم، بل صار هوساً
بها، يتنافسون فيما بينهم، حتى إذا جاء زمن الرسول بلغ الأمر سدرة المنتهى في جمع
المال.
ﵟأَلۡهَىٰكُمُ
ٱلتَّكَاثُرُﵞ [التكاثر: 1]
ولم تكن لتقوم تجارة شخص فيهم دون معونة
ومشاركة الآخرين، فلهذا كانت العلاقات التجارية قوية فيما بينهم، نعم يتنافسون
فيما بينهم، ولكن يتعاونون لإنجاح التجارة، فصار همهم هو المال، ونسوا حال اليتيم
والفقير، بل أكلوا أموال الورثة الأيتام.
فلهذا هدده بعض كبار التجار بمقاطعة
الرسول تجارياً، كما رأينا هنا وفي سورة الكوثر، فبين له المولى أنه الأكرم، أي
سوف يعطيه عطاء بلا حدود، فلا يخش مقاطعة تجار قريش.
الذي
علم بالقلم
علم
الإنسان ما لم يعلم
كلّا
إن الإنسان ليطغى
تبين هذه الآيات حال الإنسان وطبعه وهو الجحود
والنكران لفضل الله وكرمه، فهذا الذي علمه بالقلم، فصار يستطيع القراءة والكتابة،
ومنها توسع في تجارته وموارده، علمه ما لم يكن يعلم، فغيره من البشر لا يعلمون،
ولكن بسبب قدرته على التعلم، زاد علمه فزاد ماله، ومع هذا لم يشكر، كلّا، أي فعل
العكس وهو الطغيان، فكان من المفروض أن يشكر ويتصدق وينفق ويلين للفقراء، كلا، بل صار
يطغى على المساكين والأيتام
أن
رأه استغنى
هذا الطاغية، حالما يرى الرسول يصلي
بالناس أي يدعوهم للدين، كان يستغني، وشرحنا معنى الاستغناء وقلنا هو الاحتجاب عما
يضر ويؤذي، فهذا الطاغية يرى في كلام الرسول والقرآن ضرر على مكانته وتجارته.
إن
إلى ربك الرجعى
وتخبر هذه الآية غباء الطاغية وذهوله عن
الحقيقة، وأنه سيموت ويترك كل هذا العز والكبرياء والثراء، فسيموت ويرجع إلى ربه
يحاسبه، فلماذا يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا؟ ﵟأَلۡهَىٰكُمُ
ٱلتَّكَاثُرُ 1 حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَﵞ [التكاثر: 1-2]
أرأيت
الذي ينهى
عبدا
إذا صلى
أرأيت
إن كان على الهدى
أو
أمر بالتقوى
هذا الكلام موجه إلى الرسول وإلى كل مؤمن،
أو باحث عن الحقيقة في زمن الرسول، أي هل ترون هذا الذي ينهى الرسول عن الصلاة أي
الدعوة للدين، والذي يتمثل في ترك الشرك وعبادة الله الذي هو الهدى؟ كذلك يدعو إلى
التقوى الذي هو الصدقة وعدم الظلم والبر.
أي
ما هو المنطق في هذا التهديد والوعيد، والرسول لم يطالبهم بشيء سوى البر والإحسان
وعدم الظلم وعدم الشرك وعبادة الأصنام؟!
أرأيت
إن كذب وتولى
ألم
يعلم بأن الله يرى
أي هذا الطاغية أليس لديه ضمير، فيكذب من
عند نفسه دون أن يتحقق، ثم يرفض الاستماع ويتولى، ولم يعط فرصة للرسول كي يسمعه ما
يقوله الله. ألا يعلم هذا الكافر أن الله يرى تصرفاته ويرى ما في نفسه من خبيئة،
هي التي جعلته ينفر من الاستماع، وإنما يكذب لأجل مصالحه ومتع الدنيا.
كلا
لئن لم ينته
لنسفنا
بالناصية
ناصية
كاذبة خاطئة
تبدأ هذه الآيات بــ"كلا" أي سوف
يحدث العكس، فهو يتصور أن الله سيزيده في المال فإذ به يسفعه في الناصية أي سيصفعه
في الناصية التي هي مقدم الرأس، وقد شرحنا في المعجم أن الناصية هي محل اتخاذ
القرارات ومحل الرؤيا العقلية، فإذا تعرضت للسفع الذي قلنا أنه الصفع والضرب في
الرأس، فحينها سيتخذ قرارات متخبطة.
فلماذا يقول ذلك القرآن؟
لأن هذا الطاغية سيتخذ قرارات تجارية
فاشلة، مما سيجعله يتخبط ويخسر، لأن ناصيته قد ضُربت فصار يتخبط في قراراته، وهذا
نراه كثيراً في عالم الطغاة عندما يتخذ الطاغية قرارات مجنونة.
فليدع
ناديه
سندع
الزبانية
كلا
لا تطعه واسجد واقترب
لم يكتف هذا الطاغية بالاستغناء عن كلام الرسول
أي الاحتجاب عن سماعه، بل صار يحرض ويهدد، فصار يجمع تجار قريش الذين هم أهل
النادي التجار، لكي يقاطعوا تجارة الرسول.
وهذا ضرر كبير وهائل ومدمر للقرشي الذي
ليس له عمل ممكن إلا في التجارة وإلا صار من العمال العبيد، والفلاحين.
فطمأنه المولى ألا يخشى من انقطاع التجارة
وكسادها، فالمولى سيدعو الزبانية، وشرحنا معنى الزبانية وقلنا هم الزبائن ومفردها
زبون، فأنظر في المعجم توضيح ذلك.
فسوف يتدافع الزبائن حول دكانك يا محمد،
فقد دعوتهم بنفسي لكي يشتروا من عندك. لاحظ أن الآية تستخدم جذر الدعوة وليس جذر
الأمر، فالله لم يأمر البشر بالقوة لكي يشتروا من عند الرسول، بل دعاهم بطرق عجيبة
وخفية لا نعلمها، فاستجابوا بكل رضى وطيب خاطر.
وقد كان التاجر محمد أميناً مخلصاً يبيع
بالمعقول، ولا يغش، فمن الطبيعي أن يستجيب الناس للتجارة مع الرسول، حتى ولو حاول
كبار التجار مقاطعته، ولهذا رأينا أن الرسول ظل غنياً حتى بعد خروجه من مكة.
لهذا أمره في آخر آية أن يسجد ويقترب، أي
يطيع وينفذ أوامر الله وهي الصلاة أي الدعوة للدين الجديد والاقتراب من كفار قريش
لنصحهم، فلا قيمة لتهديد ذلك الطاغية.
تسمية
السورة الصحيح:
شرحنا سابقاً أن تسميات السور كانت بعد
وفاة الرسول وليست من فعله، ولهذا لا نرى صواب تسمية هذه السورة بهذا الاسم،
فالعلق ذكر عشرات المرات في القرآن وفي كل مرة يقصد أن ينتبه الإنسان من الغرور
وأن يتذكر أصل خلقته، وحتى في هذه السورة ذُكر العلق لتأكيد هذا الأمر.
فما
الاسم المناسب لهذه السورة؟
نقترح أن تسمى "نجاح تجارة
الرسول" حتى يركز القارئ إلى هذه الحقيقة الخطيرة، وهي أن هناك حرب ذكرت في
عدة سور كسورة الكوثر وهذه السورة والمدثر، وأن هذه السورة بينت الكيفية في نجاح
تجارة الرسول، وهي سبب إعجازي تمثل في دعوة المولى للبشر "وحياً" كي
يقبلوا على تجارة الرسول، بعد أن حاول كفار قريش تدميرها. وهذا نلاحظه في حياتنا
الدنيا، إذ نرى شخصاً ينجح في عمله وتجارته رغم شبه جزمنا أنه سيفشل، ونسمي ذلك
حظاً أو فألاً.
الخلاصة:
تبين السورة مرحلة أولية من المواجهة، أو
إحدى الطرق التي تحاول إسكات الرسول ومنعه، وهي الحرب التجارية ضد
الرسول. وقد تكرر ذكر هذه الحرب في عدة سور، منها الكوثر ومنها
المدثر وغيرها من السور.
لكن المولى بين في هذه السورة وفي تلك
السور أن الخاسر هو عدوه وأنه ستبتر تجارته وسوف يصفع في عقله فيتخذ قرارات فاشلة،
وأن المولى سيحاربه ويجعله هو من يصاب بالفقر أو النقص.
كما بينت أن الرسول لم يكن يفعل شيئاً
ضاراً بقريش، سوى أنه كان يصلي على سكانها أي يدعوهم نحو ترك الأصنام وإلى التقوى
أي منع الظلم وأكل الحقوق. فلماذا كل هذا العداء والمنع، بل وصل بهم الحال إلى أن
يحضوا على الشح مع الفقراء والمساكين.
وفي بداية السورة أكدت أن هذا الطاغية
وغيره، كان مجرد علقة حقيرة، ثم علمه الله بعد جهله، فهل جزاء ذلك هو عدم الشكر
والطغيان على المساكين؟
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك