وكل في القرآن المكرم
وكل
في المعاجم:
أصل صحيح يدل على اعتماد غيرك في أمرك.
والوَكَل هو الرجل الضعيف. والتوكل هو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك.
وواكل فلان أي ضيع أمره متكلا على غيره. والوِكال هو من يتأخر خلف الدابة كأنه يكل
الأمر في الجري إلى غيره. وواكلت الرجل أي اتكلت عليه. ووكلت الناقة أي فترت. ووكل
الأمر إليه أي سلّمه ([1])
التوكل
في القرآن:
ورد هذا الجذر 70 مرة في القرآن، لهذا هو
بالغ الأهمية، خاصة وأن جل الآيات تؤكد ارتباط التوكل على الله بالإيمان، فهي
عقيدة يجب أن ترسخ في قلب المؤمن، بل هو يجلب السلام والأمان للنفس.
فإذا عرفنا معنى التوكل حق المعرفة، سنجد
أننا صرنا أكثر إقبالاً على الحياة، بلا خيفة ولا خشية، فنحن نعمل ومن خلفنا
المولى يحمينا ويسدد رمينا.
وإليك النصوص:
التوكل
لا يكون إلا عند العمل أو الخيفة:
{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
لا يصح التوكل ونحن جلوس في منازلنا في
حياة رتيبة، وإنما نحن نتوكل عند الحركة والعمل، ونرجح أن هناك أخطار تواجهنا، أو
تعطل عملنا، فحينها نتوكل على الله، بعد أن نقوم بكافة الاحتياطات، فإن أتممناا
ذلك، وبقيت هناك مخاطر فوق قدرتنا في تجاوزها، فحينها نتوكل على الله، وهذا هو
التوكل الحق وليس التصنع.
لماذا
يجب أن نتوكل على الله؟
{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَٰوَٰتِ
وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ
عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [هود: 123].
لأنه يملك كل شيء فهو يعلم الغيب
"المستقبل" وكل الأوامر تصدر من عنده، فمن الطبيعي والمنطقي أن نتوكل
عليه، لأنه سيرشدنا لتفادي الغيبيات القادمة، وكذلك سيأمر بأوامر تخلصنا من الشر،
فالأمر يرجع إليه كله. لهذا نحن نتوكل عليه جل جلاله، أي نسلم كل أمرنا له، لعجزنا
وليقيننا بأنه يساندنا.
وهذا النبي الكريم هود لما شعر بالخطر من
قومه قال لهم
{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ
رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } [هود: 56].
فهو ليس فقط يعلم الغيب وبيده الأمر، بل
أيضاً يتحكم في ناصية كل إنسان، فلو فكرتم في إيذائي، ستتخبط خططكم التي تخططونها
في نواصيكم لأن تلك النواصي تحت سلطة الله. وكل أوامر الله بالغة لا يردها أحدٌ {وَمَن
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِ}([2])
التوكل
من الإيمان:
{ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ
يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا
دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ } [المائدة: 23].
لا يمكن أن يحدث التوكل بلا إيمان، فلو
أن لديك خادم لا تثق به وبعمله، فلن تتوكل عليه في أعمالك. ولله المثل الأعلى، فمن
لا يتوكل على الله فإنه لا يعرف الله وقد لا يؤمن به.
وهذا ما قاله المنافقون
{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
[الأنفال: 49].
إنهم يقولون غر المؤمنين دينهم أي دولتهم
الفتية، فيحسبون أنهم قادرون على الاستمرار في الانتصارات، فأكدت الآية أن
المؤمنين يتوكلون على الله وليس على دولتهم، وهذا يؤكد أن المنافقين ضعفاء في
توكلهم.
فلما توسعت الحروب ضد الفرس والروم جاء
رد المؤمنين في سورة التوبة
{ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ
اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
} [التوبة: 51].
أي أننا سوف ننتصر حتماً، لأن الله قد
كتب النصر للمؤمنين فهذا قانون عام.
لست
بوكيل:
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ
الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ}
[الأنعام: 66].
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا
وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [الأنعام: 107].
تؤكد آيات كثيرة أن الرسول ليس عليهم
بحفيظ وليس عليهم بوكيل، فما المقصد؟
المقصد ببساطة أنه لا يحق للرسول أن
يجبرهم على الدين فهو ليس عليهم بحفيظ يحفظهم من شر جهنم، وذلك بإجبارهم على
الدين. وهو ليس عليهم بوكيل، أي لن يتولى أمر جهنم دونهم؛ فما عليك يا محمد إلا
الدعوة للدين (التبليغ)، فلو كان هو الوكيل عليهم لأجبرهم إلى دخول الدين فإن عجز
أو أهمل دخل هو بدلاً عنهم.
توكيل
البشر:
{ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ
الْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَٰفِرِينَ } [الأنعام: 89].
المولى يقدر أن يجعل كل البشر مؤمنين
بالقوة، ولكن هذا غير منطقي وهزيل، فإن الإيمان لا يكون إلا بحرية، ولو أراد
الإيمان بالقوة لخلقهم آلات مسيرة، لكنه منذ البدء أطلق لهم الحرية في التصرف
والفكر، ثم ناداهم إلى الدين، وفي نشره وتبليغه، ووكل فيه قريش لكي تنشره، ثم حذرها
أنه في حال لم تبلغ الدين سوف يوكل قوماً آخرين غيرهم.
وقد كان في إمكانه جل جلاله أن يخضع قريش
للإيمان بما يملكه من قوى عظيمة، لكنه يريد جل جلاله أن يكون الأمر من ذات الإنسان
والمجتمعات، فإن رفضت قريش تولي الأمر، فسوف يوكلها المولى لغيرهم.
ونحن نتوكل على بعضنا في أمور حياتنا،
وهذا ليس فيه شرك أو كفر، بل كل الحياة الاجتماعية قائمة على التوكل، ولكن في
عظائم الأمور لا يمكن التوكل على البشر، بل الله وحده، ولو لم نتوكل على الله
لأصابنا اليأس والقنوط، فهناك أمور أعظم من قدرتنا فهي خارقة بالنسبة لنا.
توكيل
ملك الموت:
{ قُلْ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [السجدة: 11].
معظم أوامر الله يوكلها إلى الملائكة،
كإنزال المطر أو سوق الرياح أو غيرها من الأعمال الكبيرة والتي تتدخل في حياة البشر
وتوقف السرمدية، فتسقي الأرض القاحلة التي لا مجال إلى سقوط المطر عليها لولا تدخل
الملك في ذلك.
ومن هذه الأعمال توفية ملك الموت، الذي
وكله الله بنا، وقد شرحنا معنى التوفية وقلنا هو ليس الموت أو القتل، بل هو الوفاء
أي كما وعد الله أن يعيدنا للحياة، فإن ملك الموت هو الذي يوقظ الميت من موته، فهو
لهذا ملك الموت الذي يقضي على الموت، يم يسوقنا إلى المحشر، فهو يوفينا موعدنا.
الخلاصة:
تكرر هذا الجذر كثيراً لتثبيت هذه
العقيدة، في قلب الإنسان، فيشعر بالأمان والسلام، لأن هناك من يدير هذا الكون ويتحكم
به، فلا شر ولا ضرر علينا، طالما طبقنا قوانين الكون الأخلاقية.
والتوكل الصحيح لا يكون على كل صغيرة، بل
على عظائم الأمور بالنسبة لنا، فإن توكلنا على صغائر الأمور التي تحت قدرتنا، فهذا
تواكل مريض حاربه الدين، وهو تدلل وكسل لا يليق بالمؤمن الحق، ونهايته الفشل وأن
يترك الله شأننا كله.
كما تبين لنا أن الله يوكلنا بعض الأمور،
ليس لعجزه، بل لأنه يجب أن نقوم نحن بتلك الأمور ومن أهمها هو تبليغ الدين والقيام
عليه، فهذا أعظم شأن يجب أن يقوم به البشر حتى يستحقوا الجنة.
كما أنه يوكل كل الأمور للملائكة، وهم
جنده ينفذون أوامره، ومنها المطر والعقاب وتوفية الميت أي انتشاله من الموت
وإخراجه من القبر.
ونحن بدورنا نوكل بعض أعمالنا لغيرنا،
ونتوكل في أمورنا عليهم، ليس لنقصٍ في العقيدة، بل لأن حياتنا هكذا مترابطة، ولأننا
نعلم أن بيد هؤلاء القدرة على مساعدتنا، أما التوكل على البشر في أمور عظيمة فهو
الشرك بعينه، فمن يتوكل على شيخه لكي ينجب الولد، أو يجلب المال وخلافه، بطرق غير
علمية باستخدام الخرافة والدجل كالذهاب إلى العراف لمعرفة الغيب، أو الدجال
المشعوذ لعمل السحر، فهذا هو الشرك وهذا هو الذي ينافي التوكل على الله، فكأن الله
لا يسمعه أو لا يقدر على ذلك، نعوذ بالله من هذا الاعتقاد.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك