قضي والقضاء في القرآن المكرم
قضي
في المعاجم:
أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه
وإنفاذه لجهته، فقضاهن سبع سماوات أي أحكم خلقهن. والقضاء هو الحكم . وسمي القاضي
قاضيا لأنه يحكم الأحكام وينفذها. وسميت المنية قضاء لأنه أمر يُنفذ في ابن آدم.
والقضأة هي العيب. وفي عينه قضأة أي فساد. والقضاة هي الجلدة الرقيقة التي تكون
على وجه الصبي حين يولد. وكل من أحكم عمله فقد قضى. وقضيت هذا الثوب أو هذه الدار
أي عملتها وأحكمت صنعها. وقضى الغريم دينه أي أداه إليه. وقضى عليه أي قتله. وسم
قاض أي قاتل. والانقضاء أي ذهاب الشيء وفناؤه ([1])
ألفاظ
قريبة من لفظة قضى:
ونلاحظ أن هناك تشابهاً بين قضى وقضع،
فمن ناحية التركيب هناك تقارب، ومن ناحية المعنى، فالقضاء هو الحكم كما تقول
المعاجم، والقضع فهو القهر والغلبة، فهذا تشابه بين اللفظين في المعنى والحروف.
ونلاحظ أيضاً أن قضب قريب من قضى ويعني قطع الشيء
كما نجد أن مضى يعني خلا وذهب، ومضى في الأمر نفذ، ومضى سبيله أي
مات، ومضى السيف أي قطع، وأمضاه أي أنفذه. والمضواء أي التقدم، ومضيت على بيعي أي
أجزته. والماضي هو الأسد لجرأته وتقدمه. وتمضى أي تقدم ([2])
قضى
عند أهل التراث والمفسرين:
زعم أهل التراث أن قضى يعني فصل الأمر،
وقضى يعني أمر ووصى، وقضى يعني أعلم وأخبر، وقضى يعني خلق، وقضى يعني فصل، وقضى
يعني أتم، وقضى يعني وفى بالعهد وقضى يعني مات، وقضى يعني فعل.
وعند المفسرين أن قضى أمراً أي أحكم
امراً وحتمه. وأصل كل قضاء هو الإحكام والفراغ منه. والميت قد قضى أي فرغ من
الدنيا، وما ينقضي عجبي من فلان أي ما ينقطع. وتقضى النهار أي انصرم. وأصل القضاء
هو إتمام الشيء قولاً ([3])
الرأي
الصحيح في لفظة قضى:
هكذا يستمرون في التخبط خبط عشواء، فما
تبادر إلى ذهنهم أول الأمر وضعوه وأقروه، بينما سنجد بكل يسر، أن القضاء هو إمضاء
الشيء وتحريكه، من أجل تنفيذ شيء فيه أو من أجل أن ينفذ السامع له أمراً، صادرٌ ممن
هو أعلى منه، فإن كان أمراً فسوف ينفذ لاحقاً، وإن كان قولاً فسوف يسمع، وإن كان
توجيهاً فسوف يطبق. فأولاً يأتي الأمر أو الشيء، ثم يقضيه صاحبه، أي يمضيه إلى من
ينفذه، ثم ينفذ بعد ذلك.
وبهذا يحتاج القضاء إلى وجود الأمر، فإن
وجد الأمر تم القضاء به أي تم إمضاؤه إلى من يُنفذ فيه الأمر. فإذا انطبق هذا
التصور على كل الآيات فهو الصواب بإذن الله.
قُضي
الأمر:
{ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}
[يوسف : 41]
صدر الحكم في صاحبي السجن، وقد قضي أي خرج من مصدر الحكم إلى السلطة
التنفيذية، فيوسف يخبرهم أن تنفيذ الحكم عليهما في الطريق ينتظر تحرك المنفذ.
يوم
الحسرة قضي الأمر:
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ
الْأَمْرُ } [مريم : 39]
بعد الحشر، يليه الحساب، ثم يليه تقرير الأحكام، فعندما يقضى
الحكم إلى الملائكة التي تنفذ وإلى صاحب الشأن، فيتحسر على ما آل إليه حاله، فلم
يدخل النار بعد، بل هيئة التنفيذ في طريقها للتنفيذ بعد أن قضي إليها الأمر أي أُمضي
إليهم، كي ينفذوا الأمر في البشر.
قضيت
الصلاة:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة : 10]
كما تبين لنا أن الصلاة ليست الطقوس التي
نفعلها، بل هي التعليمات الجديدة التي يأتي بها الرسول، فقد قضاها للناس، أي
أمضاها إلى مسامع الحاضرين؛ فإذا أمضاها إلى مسامعهم فيمكنهم الانتشار لطلب الرزق،
وقد نعتت الصلاة بالقضاء أي التعليمات، لأن الرسول قد أمضاها إلى الناس من حوله
لكي ينفذوها. وهي صلاة، لأنها هداية ووعظ وهي عكس اللعن، الذي عني عدم الاتصال
وقطع الهداية، كما شرحنا.
حكمت
ثم قضيت:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء
: 65]
يدرس الرسول القضية جيداً، ثم يقرر حكمه،
ثم بعد ذلك يقضيه أي يمضيه إليهم، لكي ينفذوه، فلو قرر الحكم دون أن يقضيه إليهم
فلن يعرفوا ما هو الحكم، فقد قُضي إليهم الحكم أي أبلغوا بالحكم فسلموا تسليماً.
قضاء
الله بين الناس:
{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس : 19]
تكررت هذه العبارة كثيراً، فكلمة الله هي
تأجيل عقابهم إلى يوم القيامة، ولولا هذه الكلمة التي أقرها، لقضي بينهم، أي لقرر
الحكم بينهم، ثم لقضاه أي أمضاه إلى السلطة التنفيذية.
مجيء
الرسول قضاء:
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}
[يونس : 47]
كلمة الله حدها أن يظهر الرسول، فيأتي للمختلفين
فيحكم ثم يقضي أي يصدر الحكم إلى السلطة التنفيذية، أي أن الله عز وجل يمهل
الأقوام حتى يأتي الرسول، ليحذرهم، فإن عادوا للصواب، وإلا ظهر الحكم، ثم يقضيه
بين المختلفين أي يمضيه، أي تأتي السلطة التنفيذية لتنفذه ضد الظلمة منهم.
قضى
إلي
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}
[طه : 114]
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا
إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص : 44]
إذا جاءت الآية على صيغة "يقضى إلي"
فهذا يعني أنه جاء إلى السلطة التنفيذية، التي تنفذ وهي أن تمضي بالأمر إلى الشخص،
فإن كان الأمر ضد هذا الشخص، جاءت العبارة "قضي عليه" فإن جاء الأمر
لصالحه أو كان هو المنفذ الأخير للأمر جاءت العبارة "قضي إليك" فالرسول
هنا هو من ضمن السلسلة المنفذة لأمر الله، وقد يكون التبليغ والدعوة وقد يكون
عملاً آخر.
ترك
الكفار:
{ وَلَوۡ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسۡتِعۡجَالَهُم بِٱلۡخَيۡرِ
لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ
لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ } [يونس: 11].
الله يعجل للناس الخير، ولكن الشر يمنعه
أو يأخره، وقد تحدوا الرسول أن يأتيهم بالعذاب، فلو استعجل لهم هذا الأمر، لقضي
إليهم أي لمضى إليهم أجلهم عاجلاً.
كذلك
نوح:
{ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس : 71]
يسخر من قومه فيقول لهم: إذا قررتم أمراً
ضدي، فأقضوه إلي، أي أخبروني عنه ولا تنتظرون. أي نفذوه مباشرة، أيضاً ولا
تأخرونه.
فساد
بني إسرائيل:
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}
[الإسراء :4]
قضى الله أمراً لبني إسرائيل أي أمضى
إليهم خبر فسادهم، الذي سيتكرر مرتين، وقد يسأل سائل لماذا يخبرهم بأمر حاصل لا
مرد له، فنقول لأن هناك فئات مؤمنة يجب أن تحذر فلا تغتر بتلك القوة، فهي قوة كفر
وضلال لا قوة إيمان.
لوط
يتلقى الأخبار:
{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ
أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر : 66]
قضي إلى لوط أن قومه لن يستطيعوا اللحاق
به فدابرهم مقطوع أي لو دبروا خلفه يريدون
اللحاق به فلن يستطيعوا فقد قطع الطريق. وقضى إليه أي أنه مضى الخبر إليه من قبل الملائكة، ومضى
الخبر إليه لكي يستعد ويخرج من القرية.
قضى
بــــــ
{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر
: 20]
{ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ
بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر
: 78]
لم ترد عبارة "يقضي بــــ" إلا
في حق الله، ويقصد به أن الله يقضي بما هو حقيق وواقع حتماً، فإذا قضى أمراً أي
أمضاه لتنفيذه، فسوف ينفذ فعلاً، أما الأصنام فلو قضت أمراً افتراضاً، فلن يُقض
أمرهم.
مقضياً:
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}
[مريم : 21]
تخبر الملائكة مريم أن الأمر قد قضي، أي
أمضاه المولى إلى من ينفذه، فلا مجال للتراجع أو التأخير، وفعلاً ما هي إلا أيام
وقد جاء الروح القدس ونفذ أمر الله بعد أن قضاه إلى الروح القدس.
حتماً
مقضياً:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم : 71]
أي أن بعضكم سوف يورد النار، أي يذهب
للبحث عن الماء، في مناطق النار، وكان الأمر حتماً مقضياً، أي قد أمضاه المولى إلى
من ينفذه، فسوف يتيهُ الناس في الطريق للبحث عن الماء ثم سينجي المولى من فيه ذرة
تقوى
ﵟثُمَّ
نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗاﵞ [مريم: 72]
كانت
قاضية:
{يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}
[الحاقة : 27]
يتمنى الكافر أن يكون حسابه هو الموت،
بدلاً من هذا العقاب الطويل الشديد وقد قال به بعض أهل التراث دون أن يشيروا إلى
مقصد الكافر وهو الحساب ([4]) أي يا ليت حسابي هو القضاء علي نهائياً.
ﵟوَلَمۡ
أَدۡرِ مَا حِسَابِيَهۡ 26 يَٰلَيۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِيَةَﵞ [الحاقة: 26-27]
قضى
على:
قضى على أي أمضى أمراً ضد أحدهم، إلى من ينفذه.
ومعظم ما ورد في "القضاء على" يقصد به الموت، أي قضى أمر الموت إلى من
ينفذه على من يشاء من عباده.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ}
[سبأ : 14]
ويختلف القضاء على الشخص بالموت، عن
الموت الطبيعي، فإما أن الشخص لا يموت كما رأينا في سليمان الذي ألقي على كرسيه
جسداً يحميه من كل خطر، بل حتى عندما مات ظل هذا الجسد يحمي جسم سليمان من التآكل.
أو أن الشخص بصحة جيدة لكن تدخل أحدهم فحكم على شخصٍ بالموت ثم نفذ حكمه كما رأينا
مع موسى
{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص
: 15]
وكذلك الأمر مع أصحاب النار
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر : 36]
{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف
: 77]
فأصحاب النار لأنهم أجسام خالدة فلا
يموتون لهذا طلبوا من الله أن يقضي عليهم لاستحالة موتهم الطبيعي، وما تبديل
الجلود إلا لكي يعاد تعذيبهم، أي يريدون من الله أن يصدر أمراً "يحكم" بقتلهم،
ثم يمضيه عليهم "يقضي عليهم" فينفذه الملائكة ويتخلصوا من العذاب
الدائم.
الموت
يقضي:
{ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}
[الزمر : 42]
كما أن الوحي يقضي إلى الرسل، فإن الموت
يقضي إلى الأبدان، أي يمضي إليهم، ليتحقق الموت، ولأنه سلبي وضار، فإنه استخدم حرف
الجر على وليس إلى، فهو لا يأمر تنفيذه من الميت بل من الملائكة، بل يأمر بتنفيذه
على الذي سيموت.
فاقض
ما أنت قاضٍ:
{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي
هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه : 72]
هؤلاء السحرة يقولون لفرعون أقضي بأمر قتلنا
وتعذيبنا، ولم يقولوا اقتلنا، فهو لا يقتل بيده، ولكن يصدر الأوامر، فهو الإمضاء
أو القضاء
لما
يقض ما أمره:
{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}
[عبس : 23]
شرحنا هذه الآية سابقاً وقلنا أنه بعد أن
أنعم الله على الإنسان "النخبة" ويسر له أموره وأمره ببعض الأوامر التي
تفيده، يرفض قضاءها أي يرفض إمضاء تلك الأوامر، فالله قضى تلك الأوامر إلى ذلك
الإنسان أي أمضاها إليه، وبدوره هذا الإنسان صاحب السلطة والملك يقضي بذلك الأمر
أي يمضي به إلى من ينفذه من أتباعه، وهي في الغالب الصدقات والصلوات.
قضى
الشيء:
إذا جاءت العبارة هكذا "قضى
الشيء" مباشرة وبدون ذكر كلمة الأمر، فإنه يعني إمضاء الشيء مباشرة، فإذا كان
الشيء كلاماً فهو إمضاء الكلام من المتكلم إلى السامع، فإن كان الشيء مادة فهو
إمضاء الشيء من مكان إلى آخر. ثم بعد ذلك يحدث فيها الحكم.
ولأهمية هذا الجزء سوف نشرح غالب الآيات التي
وردت على هذه الصيغة
قضاء
المناسك:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ} [البقرة : 200]
المناسك هي الذبائح والتي يسميها التراث
بالأضحيات، ولكن القرآن يسميها المناسك
{ وَلِكُلِّ
أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم
مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ} [الحج:
34].
فالآية تقول إذا قضيتم مناسككم أي إذا
أمضيتموها إلى محلها ﵟثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى
ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِﵞ ([5]) ولهذا يتبين أن قضاء المناسك يعني ببساطة إمضاء تلك الأضحيات إلى
محلها وهو البيت العتيق، ثم تنفيذ الحكم فيها وهو الذبح.
قضاء
الصلاة:
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ} [النساء : 103]
أي إمضاء الصلاة وهي الامضاء تعاليم
الدين إلى مسامع الناس، والصلاة تعاليم الدين يجب على الناس تنفيذها.
قضاء
الأجل:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى
أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام : 2]
{ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى
أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام : 60]
{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ
قَضَيْتُ} [القصص : 28]
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص : 29]
قضاء الأجل هو إمضاءه إلى نهايته، فالأجل
مدة زمنية وقضاءه أي إمضاءه إلى نهايته. ففي قصة موسى الحاكم هو شعيب والقاضي هو
موسى، أي قام بإمضاء الحكم الذي حكمه نسيبه شعيب. وعند نهاية الأجل يتم تنفيذ
الحكم، وهو فراق موسى عن شعيب بعد أن أمضى معه ثمان سنوات أو عشر.
قضاء
الحاجة:
{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي
عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف : 68]
هناك حاجة في نفس يعقوب، وقضاها إلى
أولاده، أي أمضاها، لكي ينفذوها، والحاجة هي الحرص والحذر من الإمساك بهم، ولكن لم
ينفع ذلك فقد قُبض على بنيامين.
قضى
ربك:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء : 23]
قضى المولى أن نعبده وحده ونبر
بالوالدين، ولو كان القضاء يعني الأمر النافذ لما رأيت مشركاً على الأرض، أو
عاقاً؛ لكن هو انتقال الوصية والنصيحة من الله جل جلاله إلى البشر. وإنما أمضى هذه
الوصية إلى مسامع الناس، ولأهميتها القصوى، فقد أمضاها إليهم كي ينفذوها، لهذا
نعتها بأنها قضاء.
قضاء
الوطر:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}
[الأحزاب : 37]
يرى بعضهم أن الوطر هو الحاجة الجنسية،
ويرى آخر أن الوطر كناية عن الطلاق ([6]) وهذا بعيد بكل تأكيد، ونرجح أنه الامتداد أو المدة الزمنية، وقريب
منه الطور، وهو كل ما كان ممتداً ([7]) وهذا التفسير يوافق كلمة قضى، والتي تأكد لنا أنها تعني أمضى،
فالآية تقول إن زيد أمضى وطراً مع زوجته، ثم طلقها، أي أمضى وقتاً معها ليتأكد
للناس أنها زواج حقيقي.
ثم بعد ذلك طلقها، فالله أمره "إلهاماً" أن يمضي معها بعض
الوقت لكي ينفذ في الأخير أمره وهو الطلاق.
قضاء
السماء:
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ} [فصلت : 12]
قضاهن أي أمضاهن سبع سموات، لاحظ أنه حدد
عدد الأيام ليؤكد أن القضاء هو إمضاء الشيء في يومين، والقضاء هنا يختلف عن الخلق
فالخلق تكوين، ولكن هنا مرحلة جديدة وهي مرحلة الاستواء، فبعد الخلق الذي تكون من
دخان ذات سماء واحدة، حورها لتكون سبع سموات وهو اقتضاء أيضاً، أي أمضاها سبع
سماوات لأن الأمر استغرق يومين حتى تم أمر الله.
واختصاراً، فإن المولى قضى السماء سبع
سموات والمدة في يومين، أي أمضى السماء من سماء واحدة إلى سبع في يومين، فتحويل
السماء الواحدة إلى سبع سموات هو مدة زمنية لتنفيذ أمر الله وهو السبع سموات، لها
استخدم لفضة "قضى". ولو كان التحويل مباشرة ودون وقتٍ لقال خلق أو جعل
لكن الأمر استغرق سنوات فاستخدم قضى.
قضى
نحبه:
{ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب :
23]
يفسرون النحب بأنه النذر، أي المقصد أنه
قضى نذره أي أتم نذره، والمقصد أنه مات في سبيل الله. وقيل، بل نحبه هو إرادته
ورغبته ([8]) أما المعاجم العربية فترى أن النحب له أصلان إما أنه النذر أو أن
النحب يعني صوت من الأصوات. والنحب هو المخاطر، والتنحيب المخاطرة، وناحبته أي
حاكمته. والنحب هو الموت. والنحيب هو بكاء مع صوت وإعوال. والنحاب سعال الإبل ([9])
لهذا
افترضنا كما تقول المعاجم أن النحب هو الصراخ، فإن ذلك المقاتل قد قضى نحبه، أي
أمضى صوته وصراخه إلى نهاية وهو تنفيذ الموت الذي كان يبحث عنه ويطلبه، فنفذه
بالقتال في المعارك.
الخلاصة:
القضاء هو إمضاء الشيء ونقل الكلام لكي
يسمعه الآخرون ثم ينفذه من يسمعه، فالقضاء ليس الحكم، بل ما بعد الحكم وهو إمضاء
الحكم إلى مسامع السلطة التنفيذية لكي تنفذه، فإن كان وحياً ونصيحة، فهو إمضاء
النصيحة والوحي لمن يسمعها، كي ينفذها فيما بعد.
والقضاء مرحلة وسط بين الحكم وبين
التنفيذ، وهي مرحلة نقل الحكم إلى من ينفذه فهو من المضي والانتقال، ولو كان نقل
الأمر بدون حكم، فلا يقال قضى الأمر أو قضى الفعل، بل لقال أمضى الأمر.
أما لو قال النص: "قضى الشيء"
فهذا يعني أنه نقل الشيء وأمضاه من مكان إلى آخر ثم نفذ الحكم فيه، ومن ضمن ذلك
قضاء الكلام أي نقله ومضيه إلى جهته المقصودة كي تنفذه، كذلك قضاء المناسك فيقصد
به نقل الأضحيات إلى مكان الذبح بمكة ثم ينفذ فيها الحكم وهو ذبحها. وكذلك قضى زيد
وطراً، أي أمضى وقتاً معها ثم نفذ حكمه وهو الطلاق. وكل قضاء للوقت كالأجل مثلاً،
هو إمضاء الوقت لتنفيذ حكم في الأخير.
كذلك الذي يقضي نحبه فهو يمضي بنفسه إلى
المهالك، لكي ينفذ فيه العدو الحكم وهو الموت، فالمقتول هو من أصدر الحكم وهو من
قضاه أي أمضاه، وترك التنفيذ للعدو.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك