لماذا قال الشيطان بعزتك ولم يقل بعظمتك أو جاهك أو وجهك
{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82].
لن نستطيع فهم المعنى دون فهم المفردات، وحتى لا نطيل الشرح
نقول عن الكلمات:
أجمعين: شرحناها سابقاً وقلنا هي كل المجموعات، حتى لو اختلفت
مكوناتها وفي أي زمن، فالشيطان يزعم أنه سيغوي كل البشر في كل الأزمنة.
الإغواء: لم ندرس هذا الجذر بعد، ولكن هو ضد الرشد، وهو قريب من
الضلال ويمكن فهمه بشكل عام أنه توجيه نحو الضرر والشر.
عزة: لم ندرس هذا الجذر بعد، ولكن هو عكس الذلِ، وهو الترفع وقريب من
الكبرياء.
معنى الآية:
قبل أن نفسر الآية يجب أن نعود إلى بداية القصة، فقد ظهرت حقيقة
إبليس بعد اختباره مع مجموعة من الملائكة الجنية والإنسية، فقد قرر المولى أن يجعل
البشر فوق الجن، ويجعلهم سادة الأرض، ويجعل آدم حاكماً عظيماً لمنطقة واسعة من
الأرض، وهذا يعني انسحاب الملائكة التي كانت تحكم بين البشر.
والملائكة اعترضت لأنها رأت البشري وكيف يسفك الدماء، بينما الملائكة
تقدس أي تحمي البشر بناء على أمر الله، كذلك تسبح الله، فهي كثيرة الاتصال بالله ولهذا
هي قليلة الزلل {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}([1]) وهذا
على عكس طبيعة البشري المشغول بجمع الطعام وتكثير المال.
فعندما أمر المولى بسجود الملائكة، استجابوا لأمر الله، ولكنهم
اختصموا في البداية كيف يصبح آدم خليفة في الأرض؟
والشيطان كما قلنا من الملأ الأعلى، وربما هو الذي اختصم ضد بقية
الملائكة وربما اعترض بعضهم معه، ولكن استجابوا لأمر الله في الأخير.
﴿مَا كَانَ لِیَ مِنۡ عِلۡمِۭ بِٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰۤ إِذۡ یَخۡتَصِمُونَ
69 إِن یُوحَىٰۤ إِلَیَّ إِلَّاۤ أَنَّمَاۤ أَنَا۠ نَذِیرࣱ مُّبِینٌ 70 إِذۡ
قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰۤئِكَةِ إِنِّی خَٰلِقُۢ بَشَرࣰا مِّن طِینࣲ 71 فَإِذَا
سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَٰجِدِینَ 72
فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰۤئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ 73 إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ
ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِینَ 74 قَالَ یَٰۤإِبۡلِیسُ مَا مَنَعَكَ أَن
تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِیَدَیَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِینَ
75 قَالَ أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِی مِن نَّارࣲ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِینࣲ﴾ [ص:
69-76]
وإبليس لديه خبرة ومقدرة على الوسوسة والوحي الخفي، لهذا ضمن أنه
يستطيع الولوج إلى عقل الإنسان لكي يغويه، كما أنه أدرك أن البشري قريب من الجني،
في عدم الشكر والتسبيح لله العظيم، لهذا راهن الخبيث على هذا الأمر، لهذا توعد
البشر بالإغواء.
لكن لماذا استخدم نعت العزة دون غيرها من نعوت الله الكريم المتعال؟
لأنه يدرك أن الله لن يقبل في رحابه ورياضه ورضوانه إلا من أقبل نحوه
من ذات نفسه، فهو القدير، يستطيع أن يجبر البشر على الهداية، لكن هذا سيكون حباً
مزيفاً وإقبالاً بالقوة، والله لا يقبل الخبيث بل يقبل الطيب، فالله عزيز النفس،
ذا كبرياء ومجد، لهذا إجبار البشر على حبه والإقبال نحوه يعتبر عمل ناقص وفيه ذل.
مثل الرجل الذي يسحر سيدة أعجب بها وأحبها، فلم يستطع نيل حبها
ورضوانها، فاستعان بالسحرة لكي يجبرونها على حبه، فهل هذا يقبله الإنسان السوي
العاقل، عندما يدرك أن حبها مزيف ومغصوب؟ ولله المثل الأعلى.
فإبليس يدرك ويعرف ربه حق المعرفة، ويعلم أنه العزيز لهذا هو راهن
على هذا الاسم العظيم لله، فقال ما قال.
فهل ترك المولى الشيطان يعبث بنا؟
لا لم يفعل، فالشيطان لا يغوي إلا من يريد الغواية
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَانسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
} [الأعراف: 175].
وحتى عباد الله المخلصين
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ 82 إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِینَ﴾ [ص:
82-83]
فهم مروا بتجارب عظيمة واختبارات هائلة، أثبتت رغبتهم إلى ربهم،
فكانت النتيجة أن عجز الشيطان عن إغوائهم، رغم ما تعرضوا له من ابتلاءات هائلة.
وهناك حديث قدسي يجلي هذا المعنى بوضوح
«وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ
تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى
أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»([2])
الخلاصة:
اعتمد الشيطان على اسم الله العزيز، لكي يغوي البشر، فتصبح المعركة
بينه وبين البشر فقط، فلن يتدخل المولى ويجبر البشر على الهداية وعلى محبته والرضى
عنه. لقد وضع المولى برمجة الهداية في البشري، لكنه لم يغصبه عليها، فإن استمر في
طريق الهداية يسر الله له الطريق، وإن رفض وعاند واتبع الشيطان، تركه المولى ولما
يريد رغم أن المولى لا يريد ألا الهداية للبشر.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
موضوع جيد