الوفاة لا تعني الموت، والفرق بين وفى
ولقى
وفى لغة:
كلمة تدل على إكمال وإتمام، والوفاء
إتمام العهد وإكمال الشرط، وأوفى فهو وفي، وأوفيتك الشيء إذا قضيته وافياً وتوفيت
الشيء إذا أخذته كله. ووفى الشيء وفياً، أي تم وكثر. وتوافى القوم أي تتاموا،
والوفاء ضد الغدر، وأوفى على الشيء أشرف عليه، والوفي هو الشرف من الأرض، والميفاء
بيت يطبخ فيه الآجر، ووفى الشعر إذا زاد، ويقول العامة درهم واف إذا زاد وزنه،
ومنه يقال للميت توفاه الله، ويقولون توفي الميت وفسره بعضهم باستيفاء مدته التي
وفيت له وعدد أيامه. ([1])
الوفاء أو الوفاة في القرآن الكريم:
نلاحظ أنه حتى المعاجم اللغوية التبس عليها جذر
(وفى) وخاصة علاقته بالموت، فحاولوا أن يفسروا سبب إطلاق اسم الوفاة على الموت،
ولم يدركوا كنه الأمر ولم يحيطوا به إحاطة شاملة.
بينما نجد القرآن وضح بجلاء الجذر وفى
وأنه لا علاقة له بالموت إلا في بعض النصوص ولا يقصد به الموت بحد ذاته، ولكن يقصد
به مآلات الموت، فنحن نموت ثم يتوفى االله أنفسنا فيلاقيها ويحميها ثم
يجعلها في المستودع، ثم بعد ذلك نقوم من الموت فتتوفانا الملائكة أي تقابلنا
وتعطينا الجزاء الذي نستحقه، وهذا قبل دخول الجنة.
وفيما
يلي سنشرح الآيات التي أشكلت على الناس وظنوا أنها تعني الموت.
سبب التباس الناس حول الوفاة:
وهذه
الآية توضح بجلاء سبب الالتباس بين الموت والوفاء {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} [آل عمران: 185] لأن
الوفاء لا يأتي إلا بعد الموت فقد درج الناس على ذكر الوفاة بدلاً من كلمة الموت
تلطيفاً على محبي الميت، ثم صارت مع الزمن، دلالة على الموت ذاته، وإلا فإن الوفاة
شيء يلي الموت ويظهر يوم القيامة بجلاء
ولو
كانت الوفاة تعني الموت لما دعا المؤمنون بأن يتوفاهم الله مع الأبرار {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}
[آل عمران: 193] لأن ذلك مستحيل فقد تموت في سفر وحولك أشرار وقد تموت في قريتك
وحولك أشرار، لكن مقصدهم أي لاقنا يا الله ونحن في زمرة الأبرار، لأنك
تمدنا بالأجر العظيم، لأننا من زمرتهم. وقد شرحنا ذلك في مقال سابق أن المولى سيقسم الناس إلى زمر وجماعات هم أصحاب اليمين وأصحاب الشمال والسابقون. وكذلك دعا سحرة فرعون أن يوافيهم الله يوم
القيامة وهم من جماعة المسلمين أو في جماعة السلام وعدم الخوف {رَبَّنَا أَفْرِغْ
عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126].
الإنسان موفى ومتوفي:
قد يكون الإنسان هو الذي يوفي بعهده فيسميهم
القرآن الموفون {وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ}
[البقرة: 177]، أما لو كان الإنسان هو المفعول به أي هو الذي تتوفاه الملائكة أو
يتوفاه الله فهو هنا ينتظر جزاء عمله السابق وهذا وفاء وعد الله {ثُمَّ
تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} [البقرة: 281].{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} [آل عمران:
25] وقد تكون التوفية في الدنيا قبل الآخرة{وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272]. {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل
عمران: 57]. {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود : 111]
لقاء
الملائكة بنا:
ذكر القرآن الكريم عدة لقاءات بين
الملائكة والناس وكل هذا سيكون يوم القيامة عند الخروج من القبر وعند السير إلى
المحشر وبعد الحساب وفي النار أو الجنة، وهذا اللقاء هو الوفاء بالوعد،
والأمثلة كثيرة منها:
- سيتم الوفاء بالوعد فتتوفى الملائكة هؤلاء الظلمة أي تلاقيهم وتجازيهم على عملهم فتقول لهم وهم في النار: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء: 97] أي ما سبب دخولكم النار.
- وفي
لقاء آخر يرسل الله الملائكة يوم القيامة لتلاقي هؤلاء الكفار فتقول لهم: {حَتَّى
إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 37]
- ولا يكتفون بالكلام، بل بالضرب وهذا في داخل جهنم وقبل جهنم {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50] {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27] وطبعا الضرب لا يعني الصفع بل له معنى آخر كما سوف نرى.
- ولأن بعد موت الناس عدم ولا شيء؛ فإن أول شيء يلاقونه بعد اليقظة هو الملائكة {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] أي الملائكة لا تفرط وتهمل أحداً فكل البشر سيتم ملاقاتهم والوفاء معهم.
- وهناك لقاء قبل الحساب وقبل أن يقرأ الإنسان كتابه، سيتغرب ولا يدري ما فعله في الدنيا، لهذا يلقون السلام على الملائكة لعلها تهتم بهم أو لا تؤذيهم، لكن الملائكة تتوفاهم أي تلاقيهم وتفي بوعد الله لهم {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 28] أما الناس الطيبة فسيتم الترحيب بهم ووعدهم بدخول الجنة وفاء من الله فهذه هي توفية الملائكة {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]
الموت وفاء أيضاً:
والموت
في حد ذاته وفاء من الله، فقد وعد الله البشرية كلها بالموت، فالموت
وعد من الله لكل الكائنات الحية، فهو وفاء سيتم حتماً فلا يمكن للبشر أن يخرجوا عن هذا
القانون {أَيْنَمَا
تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78]. {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} [النساء:
100]. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت: 57] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُم
مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]. {نَحْنُ قَدَّرْنَا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60]. ويؤكد ذلك القرآن فيقول: {حَتَّىٰ
يَتَوَفَّىٰهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] لأن الموت وعد من الله، ولو كانت الوفاة تعني
الموت لكان معنى الآية الكريمة حتى يميتهن الموت؛ وهذا كلام لا يقبله
العقلاء.
وفاة
عيسى:
أما
قوله تعالى: {إِذْ
قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] فبالتأكيد
التوفية هنا لا تعني الموت، بل تعني الوفاء بالوعد، ذلك أنه قال له بعدها ومطهرك،
فالتطهير لا قيمة له بعد موت الإنسان وذهاب نفسه، والطهارة هنا يعني طهارة قلب
عيسى من منغصات ولوثات اليهود وما تحمله أنفسهم من قذارة وخبث ومكر، أذت نفس عيسى
الطاهرة. فطهره الله وأبعده إلى مكان بعيد فاستقرت نفسه فيها لفترة.
وفي قول
عيسى عليه السلام {وَكُنتُ
عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [المائدة:
117]. لم يقصد عيسى الموت في (توفيتني) بل يقصد بها
وفاء الله له في الدنيا بأن يخلصه من اليهود الكفار، فبعد أن وفاه الله ونقله إلى
مكان مرتفع وطهره من اليهود لم يعد عيسى يعلم عنهم شيئاً ولم يجبرهم على عبادته،
بل لم يعلم بذلك، والوفاء الذي حصل عليه عيسى هو نفس الوفاء الذي حصل عليه الرسول
عليه السلام وهو الانتصار على أعدائه، نعم اختلفت الطريقة، ولكن تم أمر الله وتحقق
وعده.
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ
الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ
اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ واشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].
وهذا المفهوم، أي مفهوم
التوفية، كان يرد على من يزعم أنه قتل على يد أعداءه، فالله في الحقيقة نصره ولم
يخذله ويتركه للكهنة اليهود {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ومَا قَتَلُوهُ ومَا صَلَبُوهُ ولَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا
اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَ مَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]. وحتى شعورهم بالنصر
عليه لم يتحقق، فقلوبهم كانت في شك وريب من حقيقة المصلوب هل هو عيسى أم غيره.
وقد بلغت العداوة بينهم
وبين عيسى أن لعنهم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ
دَاوُدَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:
78]. وقد يستغرب البعض لماذا يلعن عيسى اليهود؟ نقول أنه قد بلغ بهم الكذب والبهتان أن
اتهموا أمه الطاهرة بأنها زانية {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ
بُهْتَٰنًا عَظِيمًا } [النساء: 156] رغبة
في إسكاته ولو بالبهتان.
وقد تحكم الرومان باليهود فقد احتلوا فلسطين قبل ميلاد المسيح، ولكنهم وهو في العقد السابع من عمره احتلوا القدس ودمروها عن بكرة أبيها، أي في سن كان عيسى ما زال حياً ولا نعرف كم امتد به العمر، ثم بعد ذلك قام سيفيروس بتدمير مئات القرى اليهودية وحدث الشتات اليهودي الدائم، ووصل بهم الحال أن يباعوا كالرقيق.
توفية
الرسول عليه السلام:
وهناك
نصوص ثلاثة ذكرت فيها التوفية مع الرسول (نَتَوَفَّيَنَّكَ)
{وإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ
ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46].
{وإِن
مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلَٰغُ وعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40].
{فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77].
ويقصد
بها أن الله وقد وعد الرسول بالنصر والتمكين {حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ
والَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214]. فالله
قد قطع وعداً لينصرن الرسول والمؤمنين، ولا يعقل أن تقول تلك النصوص الثلاثة أنه
إما أن نعذبهم أو نميتك، فأين نصر الله الذي وعده الله له لو مات قبل أن ينالوا
العقاب. لهذا تأمره هذه النصوص ألا يستعجل (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ) وألا يستعجل وقت النصر؛ فالله من يحدد الوقت
المناسب، ويحدد ما سيفعله بهم فإما أن يلاقوا عذاب السماء، أو ينالوا الهزيمة على
يد الرسول.
بل أمر الرسول أن يقول لهم ذلك، أي أن يتوعدهم بعذاب الله أو الهزيمة من قبل جيش المسلمين { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ } [التوبة: 52].
الوفاة من الألفاظ المحببة للناس:
ولنتأمل هاتين الآيتين الكريمتين:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَٰجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا} [البقرة: 234].
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَٰجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى الْحَوْلِ
غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240].
فنلاحظ أن هناك عجلة في الأمر، فبعد
موت الأزواج يأمر الله بتشريعين وهما: عدم زواج الأرملة حتى يتقينوا من عدم حملها من
زوجها الميت، ومدة الانتظار أربعة أشهر كافية. كذلك أمر الله أن تظل الأرملة في بيت
زوجها الميت سنة كاملة لا يخرجها أحدٌ.
فلماذا
استخدم المفردة وفاة ولم يستخدم مفردة الموت أو هلاك أو قتل؟
لأن
الموت مبهم فقد يعني موت الشخص من عشرات السنين أو الأشهر، لكن لفظة وفاة فهي تعني
موته القريب، فهم يستخدمون لفظة وفاة والتي تعني موافاة الله للميت كما ذكرنا في
مقالات سابقة ويقصدون أنه مات عن قريب، وتجدهم يقولون عبارات مشابهة للموافاة مثل:
انتقل إلى رحمة الله، أو افتكره ربنا وهي عبارة لا تليق وتنم عن جهل بذات الله جل
جلاله، أو انتقل إلى جوار ربه، أو رحل إلى جوار ربه. وهكذا عبارات مشابهة التي تعني موافاة الله
لذلك الميت الذي مات عن قريب {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}
[الزمر: 42].
لهذا
فإن استخدام لفظة (وفاة) هي إشارة إلى نتائج الموت ومآلات الموت، وليس الموت بحد
ذاته، ولهذا عندما يستخدم النص مفردة وفاة هنا بدلاً من الموت، فيقصد بها من مات من
وقت قريب وليس أي ميت، أي صار إلى جوار ربه أو وفاه الله الوعد ولاقاه، لهذا ناسب
اللفظ ذلك التشريع المتعجل الذي يريد تحديد مدد امتناع الأرملة عن الزواج، أو يحدد
مدة إقامتها في منزل الميت. ولو قال النص يموتون منكم بدلاً من يتوفون منكم لشمل ذلك كل الموتى الذين ماتوا منذ سنوات. وهذا غير معقول مع هذا التشريع الذي يريد معالجة مشكلة الأرملة لحظة موت زوجها.
ولا يصح استخدام مصطلح موت فقد يكون الزوج قد قتل، فلو قال مات فهذا لا يشمل من قتل كما يعني أنه قد مات منذ مدة طويلة، أما لو استخدم توفى فهذا يعني أنه ذهب إلى ربه فوافاه الله حقه، سواء مات أو قتل. ولا يصح أن نقول هلك لأن هلك تعني مات فجأة أو قتل فجأة، ولكن لا ندري متى هلك فقد يكون هلك منذ سنوات، أما الوفاة فهي تعني أنه قبل قليل قابل ربه فوافاه واعتنى به.
وكما
شرحنا في مقال سابق، فإن الميت، الله من يرعاه مباشرة ويتولاه ويحفظ نفسه ولو كان مقاتلاً
في سبيل الله وقتل فإن الله يبقيه فترة حياً عنده جل جلاله، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
} [آل عمران: 169]، فإن استخدام لفظ وفاة
مع حقوق الأرامل مناسب لأن الميت قد مات حديثاً وهو في موافاة الله له ورعايته ولم
يدخل المستودع بعد.
نصوص
تؤكد معنى الوفاة:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104]
حسب
تفسير الجمهور للوفاة فإن الله يأمر الرسول أن يقول للناس، اعبدوا الذي يميتكم،
فهل يعقل أن يقول الرسول للناس هذا الكلام، إن هذا أدعى للنفور والخوف لا العبادة،
بل النص يقول للناس اعبدوا الذي سيلاقيكم ويجازيكم على أعمالكم فهو الذي سيوافيكم
وليس هذه الأصنام التي لن توافيكم ولا تجازيكم.
وهنا نص آخر، إذ بالليل
يحدث وفاء الله جل جلاله؛ فيلاقي النفس ويحفظها {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم
بِالَّيْلِ} [الأنعام: 60] فإن تقرر عليها الموت أبقاها في المستودع
وإن لم يقرر عليها الموت أرجعها إلى الجسم {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ
حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ
الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر : 42] فالله
جل جلاله هو الوحيد الذي يحفظ النفس ويصونها والنفس لا يراها أحدٌ، لهذا هي
تحت سلطة الله وحده. والملائكة والجن أنفس مثلنا لا يرون النفس البشرية وما يرون
إلا الجزء المادي منّا فقط، وهو الجسم. ولا يمكن للوفاة هنا أن تعني الموت فسيكون
النص بالشكل التالي: الله يميت الأنفس حين موتها. فهل هناك عاقل يظن بهذا الكلام؟
الوفاء
قد يعني الزيادة:
والوفاء
من ضمن معانيه أنك تلتزم بما عليك بزيادة ولو طفيفة، فأنت تعطي ما عليك بزيادة
والله يعطيك حقك بزيادة {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] فهم لا يكتفون بالوزن الصحيح بل يستوفون.
وكذلك فإن الله يجزيك حقك بزيادة {ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ} [النجم:
41].بل فوق الزيادة زيادة أخرى فضلا منه { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر:
30]. بل يوعد أهل الدنيا بالوفاء لهم في الدنيا أي الزيادة على حقهم {نُوَفِّ
إِلَيْهِمْ أَعْمَٰلَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15].
وهذا
النبي شعيب ينصح قومه بالوفاء في الميزان أي بالزيادة للناس بالقسط أي بالشيء
المعقول، ولا يصح أن تبخسوا الناس أشيائهم
{وَيَٰقَوْمِ أَوْفُوا
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [هود: 85].
لهذا
أطلق القرآن على لقاء الناس يوم القيامة وفاء، لأنه يعطي الإنسان أكثر من حقه سواء
عذاب أو ثواب
{
مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا
كَثِيرَةً} [البقرة: 245].
{وَإِن
تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا ويُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:
40].
{قَالَتْ
أُخْرَىٰهُمْ لِأُولَىٰهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَءَاتِهِمْ عَذَابًا
ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:
38].
اللقي
لقي لغة:
لها ثلاثة أصول أو معانٍ، أحدها يدل
على عوج، والآخر توافي شيئين والثالث طرح شيء. كما يتصور ابن فارس. فاللقوة داء
يأخذ في الوجه يعوج منه، ورجل ملقو، واللقوة الدلو التي إذا أرسلتها في البئر
وارتفعت أخرى شالت معها. واللقوة طائر العقاب لعوج في منقاره، واللقوة الناقة
السريعة اللقاح. والملاقاة هي توافي اثنين متقابلين، ولقيته لقوة أي مرة واحدة.
أما الأصل الثالث للقي وهو النبذ أو الرمي، فألقيته نبذته إلقاء، واللقي هو الثياب
المطروحة أو الشيء المطروح، اللقاء اجتماع بإقبال، وقال
الرازي اللقاء وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه. وقال الراغب هو مقابلة
الشيء ومصادفته معاً، ولقيت الشيء صادفته، واللقى شيء ملقي على الأرض، كاللقطة،
والتقى تعرض للقاء ([2])
اللقاء
في القرآن الكريم:
اللقاء
هو مقابلة بين شيئين، فقد يكون اللقاء بين بشر {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا}
[البقرة: 14]. وقد يكون بين بشر وبين كلام الله {فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ
كَلِمَٰتٍ} [البقرة: 37]. أو بين بشر
وكلام بشر {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء: 90] أو بين
الله وبين الناس {الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة: 46].
المتحرك
بلا إرادة:
وإذا
كان اللقاء عن غير إرادة من أحد الطرفين استخدم الفعل ألقى، مثل أن نلقي يدنا في
التهلكة فيدنا تلتقي بالتهلكة عن غير إرادة منها {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. أو إلقاء الأشياء المادية مثل إلقاء الأقلام {إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ} [آل عمران: 44]. أو إلقاء العصا {وَأَلْقِ عَصَاكَ}
[النمل: 10]. أو
إلقاء الكلام وهو أن نجعل الكلام يلتقي بالأذن لكي تسمع {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ}
[النساء: 90]. ومثل قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا
ثَقِيلًا} [المزمل: 5]. أو قوله {وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:
15].
الطرفان
يتحركان:
أما لو
كان الطرفان يتحركان تجاه بعضهما استخدم الفعل التقى {وَمَا أَصَٰبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 166]. والملائكة
تتلقى البشر، يوم الفزع الأكبر، أي يوم الساعة واستخدم الفعل تتلقى لأن الطرفين
يتحركان فهذا متجه للمحشر والملائكة متجه إليهم. { لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ
الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي
كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [الأنبياء: 103].
الآخر
يتحرك نحونا ونحن الثابتون:
وإذا
كنّا نحن الثابتون وهناك من يريد لقاءنا استخدم المصدر ملاقٍ، فالموت هو الذي يبحث
عنّا ويلاقينا رغم فرارنا منه {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَٰقِيكُمْ}
[الجمعة: 8].
والإنسان المؤمن يظن أن حسابه سوف يبحث عنه ويلاقيه يوم الحساب {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهْ}
[الحاقة: 20].
نحن نتحرك نحو شيء ثابت:
والمولى سيجعل النضرة والسرور تلاقي
المؤمنين يوم الساعة فتصبح وجوههم نضرة ومبتسمة، فلا يلاقيهم الشر {فَوَقَىٰهُمُ
اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّىٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } [الإنسان:
11]. أي كلما تحركوا نحو المحشر، وجدوا النضرة
والسرور أمامهم، في انتظارهم، وهذا يتمثل في المكان الحسن الذي سيرتاحون فيه، وفي
الملائكة التي تسيطر على ذلك المكان في انتظارهم.
ونحن
سنتحرك للبحث عن كتاب أعمالنا لكي نراها فالكتاب ثابت ونحن نبحث عنه {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ كِتَٰبًا
يَلْقَىٰهُ مَنشُورًا} [الإسراء: 13]،
وهذا لا يناقض كيفية استلام الكتاب، فنحن نبحث عنه حتى نجده، أما استلامه باليمين
أو الشمال أو وراء الظهر، فهنا يخبرنا عن كيفية استلام الكتاب.
وعندما
ارتحل موسى للبحث عن الخضر لقي النصب أي التعب، ذلك أن النصب كان في مكانه وموسى
من ذهب إليه بنفسه {لَقَدْ
لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا} [الكهف: 62].
وعندما رافق الخضر وانطلقا لقيا غلاماً، ذلك أن الغلام كان في مكانه وكان موسى
والخضر هم المتحركان {فَانطَلَقَا
حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمًا} [الكهف: 74].
وصاحب
الجلالة والعزة ذو الجلال والإكرام، ثابت ونحن من سنتجه إليه إلى المحشر {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ
إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]. وذلك
مؤكد بنصوص أخرى حيث الله من سيدعونا فنلبي النداء كما نلبي النداء الحج {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ
الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]. {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ
نُّكُرٍ} [القمر: 6].
وعندما نضيع الصلاة ونتبع الشهوات فسوف نجد أنفسنا تتجه نحو الغي بإرادتنا، فكأننا نريد هذا الغي. والغي يعني الغواية، أي سيسهل على الشيطان التسلط علينا والتحكم بنا {أَضَاعُوا الصَّلَوٰةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. وفي النص التالي المنافقون هم من يتحرك والمؤمنين في مكانهم فيحدث اللقاء {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا} [آل عمران: 119].
الفرق بين اللقاء والوفاء:
نلاحظ أن هناك تشابهاً بين اللقاء
والوفاء، فكلا الأمرين يحتاج إلى لقاء بين شيئين، فلن يحدث الوفاء إلا إذا التقى
كائن ذا إرادة مع آخر، فوفى أحدهما الآخر بما وعده له سابقاً، بينما اللقاء فهو
مجرد لقاء بين شيئين، قد يكون ليس لأحدهما إرادة أو حياة أو كلاهما جميعاً، ولا
يحدث فيه أي وفاء.
فالوفاء هو توفية الإنسان بما استحقه
وبما وعده الآخر، وقد لا يكون هذا الوفاء لقاء بين الموفى والموفي، بل قد يكون
لقاء بين الموفى وبين ما وُعد به، فالله وعد الناس أن يوفيهم ليس بنفسه، ولكن
بالأجر فالأجر الذي سوف يلاقيهم توفية من الله بوعده.
وحتى الملائكة تتوفى الناس، أي تقابلهم
وتعطيهم ما يستحقون، لأن الله وعدهم أو توعدهم، فهو ليس مجرد لقاء عادي، بل لقاء
يحمل الطرف الثاني معه جزاء وأجراً للأول. أما اللقاء فهو مجرد لقاء بين اثنين لا
يحمل أي جزاء أو أجر إلا إن كان الطرف الثاني هو نفسه جزاء، كما رأينا في النصوص السابقة،
حيث يلتقي الإنسان -مثلاً- مع النضرة والسرور، وهما في حد ذاتهما جزاء وأجر،
وتوفية من الله جل جلاله.
والخلاصة إن هذا الفهم الصحيح لمعنى
الوفاة يفتح لنا المجال الواسع لفهم كثير من نصوص القرآن الكريم، ويزيل الغشاوة
ويبعد الشبهات ويفتح أبواباً كانت مغلقة في وجه من يتدبر القرآن الكريم.
هذا والله جل جلاله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك