ما
طير سليمان وما الهدهد والنمل؟
سليمان
يتحكم في الجن والطير والناس
طلب
سليمان من الله جل جله، أن يكون له ملك لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب الله له
وجعله يتحكم بالجن والإنس والطير، فما الطير؟
هم
الملائكة وليسوا طيراً عادياً {جَاعِلِ الْمَلَٰئِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ
مَّثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ}
[فاطر: 1] لأنه لا يعقل أن يقرن القرآن بين الجن والإنس
وبين الطيور العادية { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَٰنَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ
وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:
17] فالله قد حشرهم جميعاً يخدمون سليمان في معاركه ولا يعقل أن يكون الطير العادي
من ضمن جنوده وهم لا يقوون على فعل شيء، وإنما هم الطير الملائكي وقد شرحنا ذلك في
عدة مقالات سابقة.
وحتى
داود من قبله قد سخر الله له الطير {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ
يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فَٰعِلِينَ} [الأنبياء: 79]. ولا ندري هل كان
تسخير الطير لداوود مثل ما سخر لسليمان أم كان مجرد تسبيح معه؟ أرجح أنها كانت
تخدمه، لكن سليمان زاد في أن الجن أيضاً تخدمه بالإضافة إلى خدمة الملائكة والبشر.
وللملائكة
منطق ينطقون به وقد تعلمه سليمان وداود {وَقَالَ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا
مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16] ولو كان الطير هنا يقصد به تلك الدواب التي تطير
في السماء، لكان أولى أن يتعلم أيضاً منطق الحيوانات، ولو كان قد تعلم منطق الطيور
العادية لما تفاخر بهذا وما أخبرهم به؛ فلا قيمة له عسكرياً، ولكنه كان يقصد أن
يبين قوته وقدرته للملوك الآخرين حتى يستسلموا له ويطيعونه {أَلَّا تَعْلُوا
عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ }
[النمل: 31]. وقد رأينا كيف أن ملكة سبأ عرفت سليمان جيداً وأدركت قوته
الهائلة من قبل أن يرسل لها جندي واحد، بل حتى الرسائل التي يرسلها لها يرسلها في
خفاء دون أن ترى الرسول.
وأما
منطق الطير فهو قدرته على الكلام مع الملائكة الطائرة، وظن من جاء بعده أن سليمان
تعلم السحر لتشابه الاثنين في الطريقة والاختلاف في الهدف والغاية ﴿وَاتَّبَعُوا
مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ
عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ [البقرة: 102] فسليمان كان
يكلم الكائنات الخفية، كما يفعل السحرة، ولكن كان يكلمها لعمل الخير، ويكلمها وهو
سيدها وهم خدم عنده على عكس السحرة فهم خدم عند الجن، ويتعاونون معهم في عمل الشر
والضرر.
الهدهد
طير ملائكي:
ونلاحظ
أن سليمان تفقد الطير {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى
الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}
[النمل: 20]. وهي الملائكة التي كانت تحت خدمته {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً
كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص : 19] ، فالهدهد هو ملك من هؤلاء، ولقب بالهدهد لسرعته
مقارنة بغيره من الملائكة، ولو كان سليمان يبحث في الطيور العادية لما فقد الهدهد؛
فهناك ملايين الهداهد في الأرض، ولو غاب واحد منهم ما شعر بذلك سليمان، كما أن
سليمان عرفه بال التعريف وهذا يعني ألا هدهد غيره. ولو كان هدهداً عادياً لما
استعان بخدماته، فهناك من هو أسرع منه من الجن ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ
أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ
لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا
آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: 39-40].
ولو
أردنا حساب سرعة الهدهد وطول المسافة التي كان سيقضيها في السفر بين سبأ وفلسطين
أو مكة فإنه سيستغرق أيام وسيعاني من تعب شديد وقد يتعرض للصيد من قبل الطيور
المفترسة، وغيرها من علل التي تؤكد أنه لم يكن طيراً حيوانياً، بل طيراً من
الملائكة.
كما
أن الحوار الذي دار بين الهدهد وبين سليمان، يبين أن الهدهد كائن عاقل وموحد ومدرك
لأدق التفاصيل، ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ
لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: 23-24] كما أن رد الهدهد على سليمان فيه بعض القسوة، أو
الصراحة ﴿فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ
بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: 22] فذلك الملك مهما كان حاله لا يريد أن يكون تحت سلطة
إنسان لكنه ينفذ الأوامر ويطيع الله، مثل الملائكة السابقين الذين لم يرغبوا بأن
ينال آدم الخلافة، ووجدوا أنهم أفضل منه خُلقاً
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: 30].
ولا
نستبعد أن ذلك الملاك الهدهد كان يظهر لسليمان على شكل هدهد، فلدى الملائكة الكرام
قدرة على التشكل كما تشكلوا مع إبراهيم على هيئة بشر، فلعل التسمية راجعة لهذا
السبب.
نمل سليمان
ونلاحظ
أيضاً أن سليمان صار يفهم كلام النمل { حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ
النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَٰأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَٰكِنَكُمْ لَا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَٰنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } [النمل:
18] ولكن النمل من المؤكد أنه إما من الجن أو الملائكة التي تسكن الأرض،
لأن تلك النملة أدركت أنه سليمان؛ فلم تقل إن البشر قادمون؛ فهي كائن من الكائنات
العاقلة، وهم الإنس والجن والملائكة، وقد نبزت "بالنملة" لنشاطها، ومن
المؤكد أنها كانت في خدمته هي وبقية النملات العاملات، وكان رد فعله عند سماعها هو
الشكر ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ ﴾ [النمل: 19]
فما
الداعي أن يشكر سليمان بعد أن سمع كلامها؟
هل
لأنه صار صاحب قدرة على سماع كلام النمل وترجمته إلى لغته البشرية؟
أم
لأن هذا النمل كائنات قوية، ولكنها تخضع لقوة سليمان فلهذا شكر الله على ذلك الملك
والنعمة التي هو عليها؟
هذا
ما أرجحه فهي كائنات قوية ربما جن أو ملائكة، وهم بالتأكيد ليسوا بشراً لأنها قالت
وهم لا يشعرون. وليسوا حشرات النمل، لأن النمل حتى لو أدرك خطر المشاة البشر فلن
يدرك اسم سليمان، ولو كان نملاً فما الداعي لإظهار الشكر، خاصة وأنه يمر على مئات
المنازل التي صنعها النمل الحشري، ولو كان نملاً حشرياً لما خاطبتهم النملة، بل
لأدرك كل النمل ذلك من تلقاء أنفسهم، لأنه مهما كان قوة صوتها فلن يصل إلى كل
النمل.
وأنت تلاحظ أنك لو مررت بجوار بيت النمل لرأيته يفزع إلى منزله خوفاً منك، فما الذي جعل سليمان يتميز ويشكر إن لم يكن ذلك النمل هو نمل عاقل من عالم الجن أو الملائكة التي كانت تخدم سليمان ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 12-13] وكذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ [الأنبياء: 82]. أما كون جيش سليمان سيحطمون النمل وهم لا يشعرون فذلك بسبب اختفائهم عن الأبصار، فهم كائنات مخفية: الجن والملائكة.والمرجح أن النمل هم جن اشتهروا بنشاطهم مثل النمل، لهذا أطلق عليهم النمل، مثلما كان الهدهد بهذا الاسم لسرعته رغم كونه من الملائكة، وكانوا في خدمة سليمان.
وقد يسأل سائل كيف لجيش عادي أن يحطم النمل الجن وهم لديهم القدرة على الحركة أو الطيران؟ والجواب هو أن جيش سليمان لم يكن مكوناً من جند بشر وإلا لما تأثر بهم الجن، ولكنه كان مكوناً من جن آخرين وملائكة وبشر، كما تقول الآية السابقة لهذه الآية، فلهذا قالت تلك النملة ما قالت، كما أن قولها "وهم لا يشعرون" يؤكد أن النمل كائنات مخفية لا تظهر، فلو كان بيتاً للنمل العادي لظهر للناس والجن الملائكة ولتجنبوا المرور فوقه أو بجانبه، لكنهم عوضاً عن ذلك، مروا من جوارهم دون أن يشعروا.
ثم
أن لفظة يحطمنكم والتي تعني التكسير عند أهل اللغة، فهذا يعني تلك الكائنات
النملية كانت مصنوعة إما من خشب أو عظام، يمكن تكسيرها، أو من مادة شبيهة بها؛ فلا
يعقل أن يكون النمل الحشري هو المقصود لأنه لا يتحطم فهو مملوء ماء فهو يتفجر. وقد ذكر القرآن الكريم أن الجن على هيئة حطب والحطب يتكسر (يتحطم)
هذا
والله أعلم
علي
موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك