تفسير قوله تعالى: كنتم
خير أمة أخرجت للناس
{ كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ
خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ } [آل عمران: 110].
رأي المفسرين في
النص الكريم:
يرى عكرمة أن النص
نزل في ابن مسعود وعمار وسالم وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل. وفي رواية عن
مقاتل أن يهوديين هما مالك بن الضيف ووهب بن يهوذا قالا لمعاذ وسالم وابن
مسعود: "إن ديننا خير مما تدعوننا إليه". ويحدث معاوية بن حيدة أنه سمع
الرسول يبين أن المقصود بالخيرية هم الصحابة فقط وأن المسلمين سيفترقون سبعين أمة.
ويزعمون أن عمر فهم
المعنى؛ وخلاصته أنه لو قصد كل المسلمين في كل عصر لقال أنتم لكنه قال كنتم، ولهذا
فهذا النص يقصد الصحابة فقط ومن سار على دربهم كما يرى عمر، وهو رأي أبي بن كعب،
ورأي الحسن البصري. ويرى الضحاك أن هذه الأمة هم الصحابة لأنهم هم الرواة الدعاة.
أما ابن عباس فيرى أن تلك الأمة هم المهاجرون فقط. لكن ابن كثير يعارضهم، كذلك
الطبري.
أما الخيرية
المقصودة فيزعمون أن أبا هريرة يرى أنها إجبار الناس على الإسلام فيقول:
"تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام". كذلك يرى
قتادة. ويرى ابن عباس أن الخيرية هي خير الناس للناس، ولم يبين ماهية هذه الخيرية،
كذلك رأى سعيد بن جبير. أما عكرمة فيرى أن الخيرية هو الأمان فكل شخص يشعر
بالأمان من الآخر، حتى الأحمر والأسود. بينما يرى الربيع أن الخيرية هي كثرة من
استجاب للإسلام في زمن الرسول وهذا دليل على خيرية ذلك العصر.
ويرى مقاتل بن
سليمان أن خيرية الصحابة مثل خيرية بني إسرائيل في زمانهم، فهو لا يعني أن الصحابة
هم خير الناس في كل زمان، بل فيما يتعلق بزمنهم فقط.
لكن مقاتل بن حيان
أدرك المعنى فقال:" ليس خلق من أهل الأديان إلا قالوا: ليس علينا جناح فيما
نصيب من غيرنا من أهل الأديان، ولا يأمرون من سواهم بالخير، وهذه الأمة يأمرون كل
أهل دين وأنفسهم، لا يظلم بعضهم بعضا، بل يأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر؛
فأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الأمم للناس" فيبدو أن مقاتل أدرك أن
المنكر هو ما يتعلق بالظلم فهو منكر عند كل الناس، والمعروف هو الأخلاق الحميدة
وهو تعرفه القلوب وتتقبله وتريده. كذلك بين مقاتل أن الأمم السابقة يستحلون ظلم من
خالفهم في الدين، على عكس المسلمين. ولم يكتف مقاتل في منع المسلمين من ظلم
الآخرين -حسب ما فهمته من كلامه- بل بين أنهم يتدخلون في منع الظلم الذي يقع بين
الأفراد في تلك الملل الأخرى.
وهذا الرأي الغريب
في ذلك الزمن، خالفه معظم المسلمين؛ فمن ذلك يزعمون أن ابن عباس، يرى أن الأمر
بالمعروف هو إجبار الناس على قول التشهد، والإقرار بما أنزل الله. أما المنكر هو
تكذيب الإسلام. فهم يرون غصب وإجبار الناس على الإسلام هو مقصد الآية الكريمة. أما
أبو العالية الرياحي فيرى أن المنكر هو الشرك. كذلك يرى مقاتل بن سليمان أن
المعروف هو الإيمان والمنكر هو الظلم.
وأورد ابن عطية
ثلاثة أقوال في محاولة فهم "كنتم" بدلاً من أنتم؛ فبين أن المقصود بها
كنتم في علم الله، وفي قول آخر كنتم في اللوح المحفوظ وفي قول ثالث كنتم في علم
الأمم التي سبقتكم. ([1])
مبدأ عظيم في فهم
القرآن:
معظم سور القرآن
المدنية تؤكد على كتابية أهل المدينة، وأنهم ليسوا أهل شرك، فهم قبائل
عربية أصيلة تهودت في فترة من الزمن بتأثير من الحكم الداودي والسليماني للمنطقة،
ومن تلاهم من حكام يهود. ومن تلك القبائل الأوس والخزرج، وقد جمعنا مادة علمية
تؤكد على صلة النسب بين تلك القبائل الأزدية وأشهرهم الغساسنة، وقبائل عربية
يهودية، ظلت على يهوديتها، وإن تحول كثير منهم إلى الإيمان بمحمد والقرآن لاحقاً.
وعلى ضوء هذا المبدأ
يمكن فهم سور القرآن المدنية، ويمكن فهم ظاهرة النفاق، ويمكن فهم ظاهرة النقد
القرآنية لبعض أتباع الرسول؛ بل يمكن فهم كثير من النصوص الغامضة مثل هذا النص موضع
الجدل عند المسلمين القدماء.
ابتدأ النص بتذكير
اليهود الذين تحولوا إلى الإيمان بمحمد بأن هذا القرآن هو تكرار وتصديق للكتب
القديمة وما فيها من قيم وتوصيات؛ فما جاء به محمد هو نفسه ما جاء به موسى
وعيسى.
﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل
عمران: 3-4]
وهذا الكتاب معظمه
محكم، لكن أهل الزيغ ينتقون منه المتشابهات، لكي يفتنوا الناس، ولكي يأولونه على
هواهم لكن اليهود الراسخون في العلم يقبلونه ويعترفون بصحته، هو والتوراة.
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7]
وهذا الكتاب وما
سبقه من كتب، يقرر مبادئ الإسلام أي السلام العالمي؛ فلا يعني الإقرار بالإسلام،
التحول عن اليهودية أو النصرانية، بل هما صورة من صور الإسلام أي السلام العالمي
والاستسلام لله جل جلاله، الذي يوجب هذا السلام، فإسلام أهل الكتاب يعني تسليمهم
بما جاء في كتبهم وليس نبذه وراء الظهور.
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ
اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: 19]
﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ
أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
﴾ [آل عمران: 20]
على عكس أهل الكتاب
الذين كفروا بتعاليم الله بالدس والتغطية والكتمان والتكذيب، من أجل تحليل قتل
النبيين وقتل من ينادي إلى الإصلاح والعدل، ومن أجل شهواتهم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 21]
فهم يرفضون الاحتكام
إلى كتاب الله أي كتاب التوراة والإنجيل فيجعلون العادات والجاهلية وتعاليم التلمود
هي شريعتهم.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
[آل عمران: 23]
﴿وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا
قَلِيلًا﴾ [آل عمران: 187]
وهذا الاستخفاف
بكتبهم منبعه اعتقادهم أنهم ناجون من النار لأنه في أسوأ الأحوال لن تمسهم إلا
أيام معدودات.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي
دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 24]
ويعود السبب في هذا
السلوك والعناد إلى حبهم للشهوات، والشهوات هي الرغبات المبالغ فيها، فهذا ما
يدفعهم للعناد والتكذيب لحرصهم على الدنيا وملذاتها.
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ
وَالْحَرْثِ﴾ [آل عمران: 14]
ويحذر الله من تحول
منهم، فآمن بالتوراة والقرآن معاً، من الخضوع لليهود الكفار الذين يستحلون شريعة
الغاب، إلا لو كان مجرد تقية فقط حتى ينقشع الظلم وتسود دولة الرسول وتتمكن، فلم
تتمكن دولة الرسول بعد (يسميها القرآن دين) خاصة بعد هزيمة المسلمين في أحدٍ، فلم
يحدث التمكن إلا وقت نزول سورة المائدة حيث ذكرت ذلك التمكين.
﴿لَا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا
مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ
الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28]
وقد بينت السورة خشية
هؤلاء المتحولين إلى الإسلام، من كفار اليهود لكن القرآن يطمئنهم أنه لم يعد لديهم
قدرة، بل هو مجرد أذى لا أكثر
﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾
[آل عمران: 111]
﴿وَلَتَسْمَعُنَّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى
كَثِيرًا﴾ [آل عمران: 186]
ثم يحث أهل الكتاب المحايدين
باتباع الرسول أي الانضمام لدولته وطاعة الله والرسول.
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 31-32]
وقد كثرت ممارسات
أهل الكتاب الكفرية التي تحارب انتشار الدين الجديد كإضلال المؤمنين، أو كتم الحق،
وتلبيس الحق بالباطل، أو التلاعب بالمصادر عن طريق إضافة نصوص ليست من التوراة؛ بل
وصلت بهم الحال إلى محاولات مكر شديدة، كالتظاهر بالإيمان أول النهار ثم الكفر
بالقرآن آخره، لعل اليهود والنصارى الذين آمنوا بالقرآن يرجعون إلى دينهم.
﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ [آل عمران: 69-70]
﴿يَاأَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 71]
﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ
الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 78]
﴿وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
[آل عمران: 72]
وقد ارتد بعض أهل
الكتاب عن الإيمان بمحمد عليه السلام، فكفروا ويعود السبب إلى كونهم ظلمة والله لا
يهدي الظلمة، والظلم من المنكرات.
﴿كَيْفَ يَهْدِي
اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
﴾ [آل عمران: 86]
﴿إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ [آل عمران: 90]
ويعود السبب في
ارتدادهم إلى أن الرسول والقرآن طالبهم بتكاليف مادية ومعنوية.
﴿لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ
شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]
﴿وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَوِ ادْفَعُوا﴾ [آل عمران: 167]
الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر:
وحب الشهوات يستتبعه
جنوح ومظالم؛ فلن تُلبى تلك الرغبات الزائدة عن الحد إلا بالاعتداء والظلم وكثرة
الفاحشة، لهذا جاءت السورة لتحثهم على الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر كأمر
وليس مجرد نصائح.
لهذا قالت السورة
﴿وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ
﴾ [آل عمران: 104-105]
وبينت لهم السورة أن
هذا النهج ليس جديداً؛ فهو فعل أمتكم القديم أي فعل دولتكم القوية السابقة
التي سادت زمن سليمان وداود، فلا تسيروا على طرق الذين تفرقوا منكم، ولكن سيروا
على طريق أهل الحق.
﴿ كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾
[آل عمران: 110]
ولن يستطيع الرسول
عليه السلام إقامة النظام والدولة والعدل إلا بنصرته، فدعم الرسول هو دعم لهم
وإعادة إنشاء دولة قوية فتية تعيد مجدهم.
﴿وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي
قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل
عمران: 81]
هذا المنكر المستشري
في المدينة هو سبب هزيمة المسلمين في معركة أحدٍ؛ فقد حثت عشرات السور إلى
الانضباط والالتزام، ورفع الظلم، وحتى هذه السورة تحدثت عن بعض المنكرات مثل الغل وهو
سبب مباشر في هزيمتهم في معركة أحدٍ. كذلك الربا وكذلك عدم الإنفاق، وانتشار
الفاحشة.
إن حب الشهوات
والطمع، وانتشار المنكرات هم الأسباب العميقة في هزيمة القوم في معركة أحدٍ، فجاء
القرآن ليبين لهم سبب الهزيمة، لهذا طالبهم بادئ ذي بدء بالتحرر من الشهوات التي
تجعلهم عبيداً أذلاء، وبمنع المنكر الذي ينشر الظلم فيجعل الحس الوطني لدى سكان
المدينة ضعيفاً، والولاء غريباً.
﴿إِذْ هَمَّتْ
طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122]
﴿إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ
أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ [آل
عمران: 155-156]
وبسبب العقائد الباطلة
التي حملها اليهود الذين تحولوا إلى الإيمان بمحمد عليه السلام، فقد ظنوا أن الله
سينصرهم؛ فلا حاجة لهم في القتال والقتل، فلهذا تعجبوا من تلك الهزيمة التي حلت
بهم في أحدٍ.
﴿أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ
هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
[آل عمران: 165]
أما من بلغ بهم
النفاق مبلغه فقد رفضوا المشاركة من الأساس وتعذروا بأنه لم يتوقعوا حدوث لقاء
ومعركة.
﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ
ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قَالُوا
لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ [آل عمران: 167-168]
المنكر في السور
الأخرى:
ولم يذكر المعروف
والمنكر إلا في السور المدنية التي وجهت إلى سكان المدينة من آمن منهم ومن ظل على
يهوديته لكنه سلّم بحكم الرسول وسلطته.
﴿لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ
عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرَى
كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾ [المائدة: 78-80]
لقد كان اليهود
بالمدينة ينتظرون ظهور النبي محمد، وكان من علامات صدقه أنه يأمرهم بالمعروف
وينهاهم عن المنكر.
{ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
} [الأعراف: 157].
لقد تورط كثير منهم
بهذا الدين الجديد الذي يأمرهم بالانضباط؛ فتحولوا إلى النفاق، فهم لا يريدون أي
تكاليف عليهم وظنوا أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنه سيقاتل عنهم كما فعل الله مع
موسى وأصحابه.
{ الْمُنَٰفِقُونَ
وَالْمُنَٰفِقَٰتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ
فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ } [التوبة: 67].
{ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:
71].
لقد وضع الله هذا
الشرط لكي ينصر أي جماعة بشرية ومن ضمنها جماعة الرسول عليه السلام الذين تحولوا
من اليهودية إلى الإسلام.
{ الَّذِينَ
إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ الْأُمُورِ
} [الحج: 41].
عودة إلى الأخبار:
وقد أوردنا بعض الأخبار
التي قد تشير إلى هذا الفهم، فقد زعموا بأن النص نزل على معاذ بن جبل الخزرجي، وهو
- كما سوف نبين عند دراسة سيرته- حبر عظيم تمسك بدينه بقوة وبالإسلام، وقد أرسله
الرسول ليهود اليمن كي يحكم بينهم لمعرفته باليهودية، ثم استقر في القدس ومات بها
بعد الفتوحات، ذلك أن اليهود قد حرموا من دخول القدس لولا الفتوحات الإسلامية التي
أوقفت ظلم النصارى ضدهم.
نعم زعموا أن النص
نزل على آخرين، لكن نتساءل لماذا نزل النص على هؤلاء دون غيرهم – هذا لو صح الخبر-
إلا أن يكون معاذ بن جبل له خصوصية وهي أنه كبير اليهود الذين أسلموا فيذكرهم النص
بماضي أجدادهم المناضل وليس حاضرهم التعيس.
كذلك زعموا أن النص
نزل أيضاً في أبي بن كعب – الذي سندرس سيرته لاحقاً- وأبي من كتبة الوحي – وأرجح
أنه من كتبة التوراة فهي وحي- وهو من كبار العلماء حتى أن ابن عباس أخذ العلم منه،
وأبي أنصاري خزرجي، وهو من أهل العقبة الثانية.
ومن المرويات أن
الرسول قال له: "ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في
الإنجيل ولا في القرآن مثلها؟" وهذا يؤكد على علمه الواسع بالتوراة والزبور.
لهذا نقول إن تلك
الروايات -إن صحت- التي تزعم أن الآية (كنتم خير..) قد وجهت إلى كبار اليهود الذين
أسلموا أو خلطوا بين الإسلام واليهودية مثل معاذ وأبي. لأنهم سادة قومهم وكبار
علمائهم، ولهذا نقول إن المقصود (بكنتم) أي أجدادكم اليهود كانوا على خير طريق
فعودوا مثلهم.
بقي أن نقول إن
المقصد بالأمة ليس أهل الديانة منذ بدايتهم حتى نهايتهم، بل يقصد بها جماعة بشرية
لها دولة ويجمعها إمام ونظام، تستمر لفترة ثم تزول أي مثل ما نراه اليوم من دول
تنشأ وتقوى ثم تضعف وتزول، فالأمة أي الدولة مكتوب عليها الزوال، أما الملة فهي
باقية إلى يوم القيامة، خاصة الملل الإبراهيمية.
لهذا يقول النص لأهل
المدينة: قد كانت لكم دولة عظيمة فيها العدل والإنصاف ومنع الظلم، وقد كان أجدادكم
أهل شيم وبذل ونخوة، فعدوا كما كنتم وتخلصوا من أمراضكم الاجتماعية. فلن تقوم لكم
دولة إلا بهذا الانضباط.
وأنصحك عزيزي القارئ
أن تقرأ سورة آل عمران من جديد، بعد هذا التصور التاريخي، لكي تفهمها ويتضح لك
الترابط العجيب بين نصوصها، وهذا ينطبق على معظم سور القرآن المدينة خاصة، فهي
موجهة لليهود الذين آمنوا بمحمد عليه السلام.
هذا والله جل جلاله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك