تفسير قوله { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا
مَّقْضِيًّا } [مريم: 71].
يتحدث النص الكريم عن مشهد من مشاهد
يوم القيامة، حيث يرد الناس وادياً من أودية الأرض الجديدة التي تشكلت، هرباً من
نار جهنم، لكن النار تلاحقهم حتى تحيط بهم فتسد عليهم المنافذ { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَٰفِرِينَ } [التوبة: 49].
ولو نظرنا إلى المشهد كاملاً كما في النص كله:
﴿ثُمَّ
لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا
(٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (٧٠)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (٧١)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾
[مريم: 69-72]
نجد أن الناس ينقسمون إلى أربع فئات،
فئة الصالحين ومنهم الأنبياء، وهم السابقون وهم المقربون كما تقول النصوص، وفئة
المجرمين، وفئة أصحاب النار، وفئة المتقين.
﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا
أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
(١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ [الواقعة: 7-14]
فهذا النص يتحدث عن ثلاث فئات، كل
يسير على خط سيره، فيبدأ السير بالمقربين، ثم يليهم المتقين، ثم يليهم أصحاب
النار، فهم يتأخرون في سيرهم فتحيط بهم النار. وهناك فئة رابعة، وهم المجرمون؛
فهؤلاء لا يسيرون ولا يتقدمون فهم في الأغلال مكبلين، ينتظرون الأمر بترحيلهم إلى
جهنم. { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ
فِي الْأَصْفَادِ } [إبراهيم: 49]. ﴿إِذِ
الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي
الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ﴾ [غافر: 71-72]
والسابقون المقربون لا يشعرون بجنهم تلاحقهم، فهم منذ
البداية عنها مبعدون أي هناك مسافة كبيرة جداً بينهم وبينها { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ
عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء: 101]. ثم يليهم المتقين وهنا يتم
زحزحتهم عن النار ويشاهدون بعض أحوالها { فَمَن
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [آل عمران: 185].{ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ
مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 96].
وهناك فئة أقل، يتم صرف النار عنهم، رحمة من الله
بهم { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ
فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [الأنعام: 16]. ﴿أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ
(٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ [غافر: 69-72]
ونلاحظ من خلال النص أن الله جل
جلاله لا يريد عذابهم، لكن إجرامهم جعل الأمر عنده حتماً مقضياً. { مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ
وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا }
[النساء: 147].فالله
جل جلاله خلقنا لكي يدخلنا الجنة لا النار، ولكنه ترك لنا الحرية المسؤولة وتوعدنا
بالعذاب إذا ظلمنا. فالنص يقول على ربك، أي أنه واجب على الله أوجبه على
نفسه دون رغبة منه بذلك، فلو قال النص كان لربك حتماً. لقلنا إن الله يريد عذابنا.
والحتم هو الحكم أي النص يقول: حكماً
مقضياً أي حاصلاً لا محالة. وهناك من فسره بأنه اللازم الواجب الذي لا بد من فعله.
وهذا التفسير هو الأقرب فالحتم هو الأمر اللازم الواجب. فالله جل جلاله يفعل هذا
الأمر واجباً، أوجبه على نفسه، دون رغبة منه؛ ولكن أحقاقاً للحق ورفع الظلم والعدل
بين الناس.
والذي فسر الآية على أن الله سيدخل
جميع الناس جهنم، فهو واهم وغليظ القلب، لا يعرف ربه، بل إن النص يؤكد عكس ذلك؛
فالنص يقول منكم ولم يقل كلكم، ففئات من الناس من سيدخل وادي جهنم، بعد أن يتشبع الوادي
بجهنم، بعد مغادرة السابقين المقربين، لكن الله يزحزح المتقين عنها، قبل أن تحيط
إحاطة كاملة، ويصرفها عن الأقل منهم، ثم يذر الظالمين فيها جثياً.
وهذا المشهد يتحدث عما اصطلح على
تسميته بالصراط المستقيم، فكلنا سنمر على هذا الصراط، فالسابقون المقربون، ثم
يليهم المتقين ثم يليهم الأقل منهم ثم يليهم أصحاب النار.
هذا والله جل جلاله أعلم
علي موسى الزهراني
أنظر:
النهاية
في غريب الحديث والأثر (1/ 338):
مقاييس
اللغة (2/ 134):
المعجم
الاشتقاقي المؤصل (1/ 373):
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك