أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 آخر الأخبار
مفردات

بعل في القرآن المكرم

بعل في القرآن المكرم بعل لغة: له ثلاثة أصول: الأول بمعنى الصاحب، ومنها البعال أي ملاعبة الرجل أهل...
تفسير

مفتاح سورة البقرة

مفتاح سورة البقرة   نبذة تاريخية مهمة: حتى نفهم سورة (البقرة) يجب أن ندرس عقائد اليهود التي ...

معنى الإثم في القرآن الكريم

 




معنى الإثم في القرآن الكريم

الإثم لغة:

يرى أهل اللغة أن الإثم من التأخير والبطء، ثم اشتق منه الإثم المعنوي لأنه يبطأ الإنسان عن الخير! ولم أجد أي علاقة بين الإثم من جهة والبطء أو التأخير من جهة أخرى، ولم تشر إلى ذلك نصوص القرآن الكريم، وفي ظني أنه من وحي خيال واستنتاج اللغويين؛ فالذي تأكد لي هو أن الإثم كل كلام ضار يخرج من الفم.

والذي يؤكد صحة تفسيرنا لكلمة إثم بأنها كل قول ضار ومحرض وقبيح، أن أصلها هو (الثم) والثم هو الفم لأن بعض القبائل العربية استبدلت حرف الثاء بالفاء، فالأصل أن الفم قديماً، كان يطلق عليه (ثم) وهذا النطق لازال في مناطق من الجزيرة العربية كجبال السراة، وبعض القبائل في الإمارات المتحدة، والبحرين، ومناطق أخرى، كصنعاء، والمكلا وخلافها. ومن هذه الكلمات الباقية: فلافة، ويقصد بها ثلاثة، وفمانية ويقصد بها ثمانية، وفوب ويقصد به ثوب، وفروة ويقصدون بها ثروة، بل هناك من ينطق ثم بفم، فيقولون: جاء محمد فم صالح، ويقصدون: جاء محمد ثم صالح.

فلهذا نقول: إن الإثم جاء من مصدره الثم وهو الفم لأن الثم (الفم) هو مصدر الكلام والقول، ولهذا نجزم أن الإثم يتعلق بالذنوب التي تصدر من الفم أي هي الأقوال. وهذا ما تؤكده النصوص الكريمة، كما أن معاجم اللغة تشير إلى ذلك، فيقولون: ثمت الشاة النبات، أي وضعته في فمها بعد اقتلاعه لأن ثمت يعني فمت أي وضعته في فمها، ويطلقون على الشاة التي تقتلع الأعشاب بفمها: شاة ثموم. [1])

ومن أشهر الآيات الكريمات التي تبين خطورة الإثم أي الكلام الذي يخلد صاحبه في النار:

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا }  [المائدة: 64].

{ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }  [آل عمران: 181].

وهناك أحاديث تبين خطورة الكلام وأنه إثم يخلد صاحبه في النار نذكرها للاستئناس:

-           «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟» فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ» ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟» فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟ ([2])

-       قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ([3])

-       سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ النَّاسُ النَّارَ، فَقَالَ: " الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ "، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ بِهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُسْنُ الْخُلُقِ» ([4]) 

-       «إِنَّ الْعَبْدَ ليَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ([5])  

 

تحليل النصوص القرآنية الكريمة:

أما الإثم من خلال النصوص فهو: كل قول سيء وخطير على الآخرين، بحيث يسبب لهم ضرراً أو يؤدي إلى عدوان عليهم، وكراهية ضدهم، ويسبب في سلب الحقوق ونهب الأموال، والظلم الشديد، كما أن الكذب على الله هو أم الآثام، لهذا فإن الإثم قد يكون صغيراً في الميزان  كالسب، وقد يكون عظيماً يؤدي إلى الخلود في النار، لأن الإثم هو مشاركة في الذنوب العظيمة، وهو مبدأها وسببها.

أنظر إلى النصوص التالية التي تؤكد أن الإثم هو الذنب الذي يصدر من الفم:

{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة : 181]

نعم، فإن شهادة الزور تؤدي إلى أكل مال الناس، بحيث تجعل أحدهم يحصل على مال الآخرين، عن طريق قول كلام (إثم) كاذب، فهو زور وبهتان، فأنت هنا لم تعتد بيدك، لكنك ساهمت في العدوان وسهلت طريقه {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 188] أي أنك لم تقم بعمل إجرامي بيديك؛ ولكنك قمت بجريمة كبرى بأن استحللت للمجرم بلسانك بواسطة شهادة زور أو كتم شهادة أو تحريض، لكي يأكل مال الآخرين. وكتم الشهادة هي إثم لأنها كلام صامت يشير إلى موافقتك الضمنية على ظلم الآخرين.

والنص التالي أكثر صراحة في أن الإثم هو كلام وأي كلام؟!!

{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة : 63]

هذا من النصوص الواضحة والمباشرة في أن الإثم هو أقوال وليس أفعال، فهم يأكلون المال الحرام بدون أن يعتدوا جسمياً على المظلوم، فقط بتقديمهم لشهادة الزور أو بكتم شهادة، أو افتراء على الله من أجل أخذ مال الضعفاء والنساء والولدان، والنص هنا يشنع على رجال الدين وإهمالهم لهذه الجوانب واهتمامهم بشكليات الدين.

 

نصوص أخرى تؤيدها:

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة : 283]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة : 106]

{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة : 107]

توضح هذه النصوص، بجلاء كبير، أن كتم الشهادة وشهادة الزور، من الآثام العظيمة، فيعتبر ظلماً، وقد وصفه المولى بأنه إثم، لأن صاحبه يستخدم لسانه وكلامه، لأجل تحقيق الظلم، فلم يستخدم هذا الإنسان يده ليبطش أو جنوده أو سلطته، بل استخدم لسانه ليضر الآخرين. وحتماً فإن كتم الشهادة هي كلام سلبي، حيث إن كاتم الشهادة يمتنع عن الكلام النافع من أجل الضرر بالناس؛ فكتم الشهادة مثله مثل الشهادة الزور وهو كلام صامت في الصدر (السكوت علامة الرضا)، كما ذكر النص الكريم الاعتداء، وأن الشهود لا يحق لهم الشهادة إذا قاما بإثم أو قاما باعتداء مباشر، فإن المعتدي بقوته وجسمه، لن يتوانى من اقتراف الإثم إذا كان اعتداء باللسان، لأن ضميره ضعيف أو معدوم؛ فلهذا شهادته لا تقبل. كذلك صاحب الإثم أي الذي له سوابق؛ ولهذا يحدد النص الكريم أسباب رفض الشاهد، وهو الإثم أو الاعتداء المباشر، أما ما وضعه الفقهاء من شروط أخرى كالإسلام، والذكورة، ورفض شهادة صاحب الملاهي والفاسق، وغيرها من شروط؛ فلا أصل لها في القرآن الكريم. ([6])

 

أما الخمر والميسر فينتجان الإثم:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة : 219]

هذا التوجيه الكريم، يتحدث عن الخمر والميسر وخطرهما في أنهما يدفعان الإنسان إلى التلفظ بما لا يليق ولا يصح، فإن شارب الخمر تضعف إرادته فيتلفظ بكل قول فيه عقوبة، فتجده يقول بأقوال كفرية وقد يسبب على نفسه الضرر، بما يطلقه من قول كله شر، وقد يؤدي إلى تفريق وتمزيق لعلاقاته بمن حوله. كذلك الحال في الميسر فهو يؤدي إلى الغضب الذي يفقد الإنسان تماسكه لنفسه وللسانه، فيتلفظ بكل ألفاظ قبيحة وقد يسب حظه وربه والدهر. والنص الكريم لم يقل هما إثم كبير، بل قال فيهما إثم كبير، أي عند شرب أو لعب الميسر يظهر من خلالهما ذلك الإثم وهو القول الفاجر، أو القول المهلك.

 

أما التعجل في الحج:

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة : 203]

وفي هذا النص الكريم، يتحدث المولى عن ذكر الله، وبما أنه تحدث باللسان؛ فقد بين أن من تعجل في ذكر الله في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر من أجل ذكر الله لثلاثة أيام فلا إثم عليه، لأن الذكر أقوال وليس أفعال فقد ربطه بالإثم ولو كان عملاً لقال: فلا ذنب عليه.

 

أما هذا النص الكريم:

{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة : 85]

فيتحدث المولى هنا على التحريض، وهو أن تتحدث بالسوء أو بالتكفير، أو العنصرية، ضد فريق آخر، فهو هنا إثم؛ لأنه مجرد قول تحريضي، لكنه خطير جداً؛ فهذا الإثم يؤدي إلى العدوان  والظلم والتهجير والتشريد، وسلب الممتلكات، وقد أدركها شاعر أموي قديم حيث تبين له خطورة التحريض الذي يوجه ضد بني أمية والذي تبين لاحقاً أنه سبب في القضاء على ملكهم.

أَرَى بَيْنَ الرَّمَادِ وَمِيضَ نَارٍ ... وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِرَامُ

فَإِنَّ النَّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى ... وَإِنَّ الْحَرْبَ مَبْدَؤُهَا كَلَامُ

فَقُلْتُ مِنَ التَّعَجُّبِ لَيْتَ شِعْرِي ... أَأَيْقَاظٌ أُمَيَّةُ أَمْ نِيَامُ ([7])

لهذا نجد كثيراً ما يرد لفظ (إثم) مع لفظ (عدوان) أو بغي، أو كفور في القرآن الكريم

 

التأثيم هو تلقي الشتائم من الآخرين:

وسوف يتلقى الكافر السب والشتم يوم القيامة إذا كان من الزناة أو المشركين أو القتلة، ففوق عذاب صاحب النار سيجد السخرية والتوبيخ والسباب واللوم والمهانة، لهذا سيلقى أثاماً.

{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68، 69]

أنظر بعض الألفاظ التي سيتعرض لها الكفار في النار:

 {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون : 108]

{ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86]

{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب : 68]

﴿لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [فصلت: 16]

﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ﴾ [القمر: 25-26]

﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ [الملك: 8]

﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 48]

﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [الذاريات: 14]

﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [ق: 21-24]

أما المتقون فلا يجدون التأثيم بكل أشكاله، بل يجدون الترحيب بهم بقول السلام، فالملائكة والمولى، يرحبون بهم بالسلام أي اطمئنوا فلن يصبكم السوء، حتى وهم في الجنة يرحبون بهم ويطمئنونهم.

﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ﴾ [الواقعة: 24-26]

{ ادْخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ }  [الحجر: 46].

كذلك الخمر في الجنة لا يسبب الشتم والسباب، لأنه لا يفقد العقل

﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ [الطور: 23]

 

أما قوله تعالى:

{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة : 182]

الموصي هنا الذي حضرته الوفاة أو شعر بدنو أجله، فكتب وصيته، أو أسمعها للشهود، أو الحاضرين؛ فإن الموصي في الغالب سيتكلم بالقبائح والشتائم، تجاه أحد أقاربه ممن لا يريد أن ينال نصيباً من ذلك الورث، لأن الشاهدين على الوصية قد يعترضون على الجنف (الظلم) في توزيع الورث؛ فيقوم الوارث بتبرير قسمته تلك بأن المنبوذ لا يستحق الورث لأنه عاق؛ فالوراث هنا سيغتاب الوريث أو قد يفتري عليه أو يأتي ببهتان. وكلها أمور لسانية كلامية فهي لهذا إثم، لهذا يجب على الشاهد أن يصلح بين الطرفين بالكلام الحسن، وقد يضطر إلى الكذب لكي يصلح بينهما، وهنا لا إثم عليه، رغم أنه قد يكذب ويختلق. وقد يحرم الموصي بناته وزوجاته من الورث بحكم العادات والتقاليد، فينسب عمله هذا إلى الله، فيكون قد وقع في الإثم، لأنه برر فعله بأقوال ضالة.

 

أما قوله تعالى:

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة : 3]

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة : 173]

فهو يتحدث عن محرمات اللحوم، ومنها ما ذبح على النصب أو تستقسموا بالأزلام، وما أهل به لغير الله، فهي لحوم شركية محرمة، لكن يمكن أكلها عند الجوع الشديد، لكن بشرط ألا يتجانف لإثم، أي لا يميل للإثم، سواء سمعها من المسؤول الكاهن عن تلك الصدقات، أو تم إجباره على ترديدها للأصنام. فله أن يرددها دون أن يشعر بها، بل يكون ناكراً لها في قلبه، فالمقصد بالإثم هنا هو تلك الأقوال الشركية عند النصب التي يقولها الكاهن عند إطعام الفقراء. لهذا نقول إن الميتة والدم ولحم الخنزير لا تحل مطلقاً لخطورتها على الإنسان، وإنما المباح للضرورة الشديدة فقط هو ذبائح الشرك.

 

أما قوله تعالى:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة : 206]

إذا تم نصح المعاند وتحذيره، جعلته عزة نفسه وكبريائها، عنيداً فيرد على الناصح بالكلام القبيح الذي هو إثم، وقد يزعم أن ما فعله تشريعٌ من عند الله، فالافتراء على الله إثم يوجب النار، فسواء رد بالشتيمة أو رد بالافتراء على الله، أي أن الله قد أباح له ذلك، فكلاهما إثم، ولكن الأكثر ترجيحاً، هو أن عزته تدفعه إلى الكذب على الله والزعم أن أفعاله بتوجيه من الله، ورثها عن الأجداد. وقد يكون إثمه أن يسب ويشتم فهؤلاء فيهم كبرياء وغرور ولا يقبلون النصيحة ممن يرونهم دونهم.

لكن لو جلبنا النص كاملاً سنجد أن المقصود هو الزعم أن فعله بناء على تشريع الله وتوجيهه

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (٢٠٤) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٥) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ ‌أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204-206]

وقد تحدثت بداية السورة عن حال هذا المتعجرف:

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ ‌مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 11-12]

 

أما قوله تعالى:

{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة : 276]

وصف المولى آكل الربى بأنه أثيم، ليس لأنه يأكل الربا، فهذا ذنب، وإنما لأنه وقع في الإثم وهو الكلام الضال الضار الفاجر، ذلك أنه قال لنفسه وللآخرين في النص الذي يسبق هذا النص: إن الربى مثل البيع {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275، 276] فهنا يتبين لنا بجلاء أنه أصدر لنفسه فتوى يحلل فيها الربا، وهذا كذب على الله والكذب من أعظم الآثام.

 

كذلك قوله تعالى:

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران : 178]

هذا النص الكريم يتحدث عن الكفار والمنافقين بعد معركة أحدٍ، حيث بدأوا بالتحريض على المؤمنين وعلى الإسلام بالتشكيك فيه، فالنص الذي يسبقه أشار إلى ذلك: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168] ثم بعد ذلك قاموا بتخويفهم وترهيبهم بعد أن قرر الكفار الجمع لقتال المؤمنين؛ فقالوا لهم {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173] فلهذا وصف الله حالهم بالإثم، ذلك أنهم استخدموا اللسان للتشكيك في الدين والتخويف ومحاولة تفريق المؤمنين.

 

وقوله تعالى:

{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء : 20]

أخذ مال الزوجة ظلم عظيم، ولكن الذي يأخذه يبرر لنفسه بمبررات كلامية، فهو ينسب إلى زوجته ذنب عظيم، كأن يرميها بالزنا لكي يبرر للآخرين استرداد المهر المدفوع. لهذا فإن البهتان هو إثم لأن صاحبه يتهم الطرف الآخر لكي يحصل على مبتغاه. ويؤكد هذا التأويل، أننا نجد النص الذي يسبق هذا النص يتحدث عن الفاحشة، فهي الحالة الوحيدة المسموح فيها باسترداد المهر {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] فالنص الكريم السابق يبين وسيلة نهب مال الزوجة وهو البهتان الذي هو أحد الآثام العظيمة. فيحذر المولى الزوج من هذه الجريمة العظيمة، فهو قام بجريمتين نهب مهر زوجته، واختلق عليها الفاحشة، فكأنه قتلها معنوياً.

 

الافتراء إثم:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء : 48]

{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء : 50]

من المؤكد أن الشرك إثم عظيم، لأن المشرك يزعم بالكلام أن ما يفعله هو من عند الله، فهو يفتري على الله الكذب. وهنا يوضح المولى جل جلاله أن الكذب على الله هو إثم لأن صاحبه ينطق بهذه العقائد وينشرها بين الناس، فالشرك ليس ذنب، أي ليس فيه ضرر مباشر على الآخرين، إنما هو كلام مُفترى على الله، وكذلك توجيه العبادة للأصنام بالتسبيح والدعاء هو إثم لأنه كلام موجه إلى حجارة أو قبور.

 

الإثم يُرمى به والخطيئة لا تُرمى

{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء : 112]

هنا في هذا النص يتبين بأن الإثم يختلف عن الخطيئة فالإثم هو الكلام القبيح الضار، بينما الخطيئة سنجد أنها الذنوب الكبيرة التي فيها فعلٌ، ولعل الإثم هنا هو الكذب على الآخرين أو الغيبة أو التحريض؛ فيقول في نص يسبقه {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] ثم يليها توجيه الله للرسول {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء: 113] فهم ينشرون الإشاعات والأكاذيب، ولهذا أطلق عليها إثم، والنص واضح هنا، أن هناك فئة من المنافقين يختلقون الإشاعات، أو ينشرون الأخبار عن المؤمنين، ثم ينسبون هذا الاختلاق إلى جماعات أخرى، فهو لهذا بهتان وهو لهذا إثم.

 

هابيل يحذر قابيل من الآثام:

{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة : 29]

هذا الكلام هو للمقتول من ابني آدم، ويطلق عليه أهل التراث لقب هابيل والقاتل لقب قابيل، والاحتمال الأكبر، أنه قد حدث جدل وخصام شديد بعد أن تقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فأحدث كل منهما إثماً، أي شتماً وسباً، ومن المؤكد بأن هابيل قد ندم على تبادل الخصام مع أخيه، لهذا عندما هدده قابيل بالقتل بين له حالته النفسية وأنه يشعر بالذنب من تلك الآثام التي اقترفها معه، فحتما لن يجرأ على بسط يده لقتل قابيل، فهو نادم على ما هو أدنى من ذلك، وهي الشتائم التي قالها في حق أخيه. وهذا يفسر لنا سبب قبول قربان هابيل، لأن نفسه طيبة. وقد يقول قائل: أن النص لم يتحدث بذلك. فنقول: أنه من المستحيل أن يفكر قابيل بقتل أخيه مباشرة، دون أن يتبع خطوات الشيطان، فالشيطان يستدرج الضالين، خطوة تلو خطوة، حتى يصل بهم إلى الجرم العظيم، وهكذا فإنه بعد تبادل الشتائم والخصام مع هابيل، سولت له نفسه قتل أخيه. ولهذا نفهم حرص الإسلام على منع الكلام الضار والفاسد والمؤلم لما قد يسببه من سيل الدماء.

 

الظن إثم أيضاً:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات : 12]

ذلك أن الظن هو حوار وكلام الهوى مع النفس، وقد يحدث فيه تحريض، أو اختراع بهتان وافتراء ضد الآخر، فهو لهذا هو إثم لأنك عندما تظن سوء بالآخر فكأنك كذبت وافتريت عليه، أمام نفسك، فلم تكلف نفسك عناء البحث لكي تزيل الشك باليقين. لهذا يعتبر الظن الفاسد ضد الآخرين إثماً لأنه كلام النفس مع النفس.

 

البهتان إثم واضح وخطير:

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب : 58]

اغتياب أو بهتان الآخرين هو إثم مبين، لا شك فيه، وإن بدا للناس أنه لا قيمة له يوم القيامة، سيجد أنه سببٌ في خفِة ميزانه، مما يؤدي به إلى النار. ويوافق هذا الكلام قول منسوب إلى الرسول الكريم «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟»([8])

ويؤكده ما حدث من إفك في المدينة، فوصفه القرآن الكريم أنه إثم {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور : 11]

 

آثم وأثيم:

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان : 24]

{طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان : 44]

{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم : 12]

{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [المطففين : 12]

{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية : 7]

{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء : 222]

الأفاك هو أثيم أي أدمن الإثم، لأنه يختلق بلسانه حكايا ضد الآخرين ويفتري عليهم من عند نفسه بناء على شبهات يستغل تفسيرها، وقد يفتري على ربه فيحرم ويحلل ويختلق كلاماً ينسبه إلى ربه، وتدعمه الشياطين في ذلك، ولهذا نقول إن الإثم هنا أشد قبحاً من الذنب. وهذه النصوص من سور مكية، أول ما نزلت من القرآن ترد على رجالات قريش المكابرين، الذين يزعمون بأن ما هم عليه من دين هو من عند الله، فلهذا هم أهل إثم، فكانوا يقعدون لأفعالهم بالكلام، فوقعوا في الإثم بل صاروا يحملون لقب(أثيم) لكثرة إدمانهم على اختلاق الأكاذيب على الله، وربما اختلقوا الأكاذيب والإفك هو اختلاق رأي من شيء فيه شبهة، فحادثة رمي المحصنة بالمدينة هي إفك لأن من نشرها استغل وضعاً قائماً فحوره إلى افتراء على تلك السيدة الغافلة.

 

أما قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى : 37]

{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم : 32]

فلن نفهم النص إلا إذا عرفنا أن الفواحش هي الكلام الجنسي القبيح جداً، فهو من يقع تحت الآثام، لأنه يصدر عن الفم (الثم) ويغفر الله اللمم وهي الكلام البذيء الذي لا يصل إلى الفاحشة والذي يمازح به الزوجان بعضهما. أو يمازح الخطيب خطيبته. وتحرم الفواحش أي الكلام البذيء لأنه لا يليق بالمسلم التقي، ولأنه يمهد لما هو أخطر منه وهو الفعل الجنسي. وسوف نشرح مفردة الفواحش في مقال آخر.

 

أما قوله تعالى:

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام : 120]

فيجب أن نعود للنص كاملاً كي نفهم المعنى:

﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 119-121]

فقد ذكرنا سابقاً أن أكل اللحوم التي لا يذكر فيها اسم الله هو إثم ليس لأن اللحوم غير صحية، بل لأن الكاهن يتحدث بكلام شركي آثم، فهذا هو ظاهر الإثم، أما باطنه، فهو كلام النفس للنفس، مثل الظن والأوهام والأفكار والمعتقدات التي تدور في الرأس، ولهذا قال المولى { إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }  [الحجرات: 12]. فإن الظن هو كلام النفس مع النفس لهذا هو إثم وأي كلام أو أفكار مع النفس فيها شيء قذر أو منبوذ هو من الإثم الباطن. وهنا نجد أنه موافقة الكاهن الذي يقدم تلك الذبائح وترديد كلامه الشركي، فهذا إثم ظاهر، وقد تكتفي بقبول كلامه في قلبك فهذا إثم باطن مثله مثل الظن السيء عن الآخرين أو الله جل جلاله. وهناك حديث مشهور للرسول"...وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ "  ([9])  

والخلاصة أن القرآن الجليل، يوضح للناس خطورة السيئات التي تصدر من الفم كالكذب والزور وكتم الحق وكتم الشهادة والشتائم والاستهزاء والسخرية ورمي المحصنات والافتراء وكل سيئة تصدر من الفم. فإنها تهدم البيوت والدول وتمزقها، لهذا نجد الدول حريصة على محاربة الإشاعات التي ينشرها العدو ويبثها. وقد سمى القرآن هذه الأوبئة الكلامية بالإثم لأن الإثم يخرج من الثم أي الفم.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني

 



([1])لسان العرب (12/ 80) مقاييس اللغة (1/ 60) المفردات في غريب القرآن (ص: 63)

([2])مسند أحمد مخرجا (36/ 345)

([3])مسند أحمد مخرجا (25/ 180)

([4])مسند أحمد مخرجا (13/ 287)

([5])مسند أحمد مخرجا (14/ 493)

([6])النتف في الفتاوى للسغدي (2/ 798)

([7])الكامل في التاريخ (4/ 365)

([8])سنن ابن ماجه (2/ 1314)

([9])صحيح مسلم (4/ 1980)

ali
ali
تعليقات