تفسير سورة الفجر
{ وَالْفَجْرِ ١ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ٢
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ٣ وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ٤ هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ
لِّذِي حِجْرٍ ٥ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ٦ إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ ٧ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَٰدِ ٨ وَثَمُودَ
الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ٩ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ١٠
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَٰدِ ١١ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ١٢ فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ١٣ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ١٤ فَأَمَّا
الْإِنسَٰنُ إِذَا مَا ابْتَلَىٰهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَٰنَنِ ١٦ كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ١٧ وَلَا
تَحَٰضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ١٨ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا
لَّمًّا ١٩ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ٢٠ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ٢١ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ٢٢
وَجِايءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ
الذِّكْرَىٰ ٢٣ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوْمَئِذٍ لَّا
يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ٢٦ يَٰأَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ٢٧ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ٢٨
فَادْخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَادْخُلِي جَنَّتِي ٣٠ } [سُورة الفجر].
تتحدث هذه السورة الكريمة عن لحظة
الساعة، مثل سورة العصر، ولكنها اختصرت هناك، وهنا أكثر تفاصيلاً، وفي بقية القرآن
مزيد من التفاصيل عن ذلك اليوم وما بعده وما قبله، لكن السورتين (الفجر والعصر)
ركزتا على أيام وملاحظات الساعة ومدتها ووقتها.
ومن خلال تركيز القرآن عن يوم القيامة،
نجد أن السورة تنحو هذا الاتجاه مثل بقية السور الكريمة. لكنها هنا تتحدث عن لحظة
الساعة ومتى تبدأ ومتى تنتهي. ونلاحظ أيضاً أن الساعة تستحق هذا الاسم لأنها قصيرة
فهي ليست يوماً من أيام الله، بل هي في حسابات البشر كالساعة الواحدة، مجرد أيام
معدودة مع لياليها، ولو امتدت أكثر من ذلك لمات الناس.
وإليك شرح الآيات الكريمات:
والفجر:
ذهب أهل التراث والمحدثين إلى أن الفجر
وليال عشر، يقصد بها أيام الحج عند أهل التراث، أما بعض المعاصرين فيرون أنها أيام
العذاب الذي تعذب فيها بعض الأقوام الذين ذكرتهم السورة تالياً مثل: عاد وثمود
وفرعون. فهناك من تم عذابه عند الفجر، وهناك من استمر عذابة عشر ليال، وهكذا. وهذان
الرأيان غير صائبين عندي.
فالقسم حسب ما توصلت إليه هو قسم عذاب
أو تدمير، أي أن الله يقسم أنه سيوقع العذاب على كذا وكذا أو الفناء أو التدمير،
لهذا فهو هنا يقسم بالفجر وما سيحل فيه من كوارث فما هو الفجر؟
الفجر هو لحظة الساعة، حيث ستحدث وقت
الفجر، حيث الناس بعد أن أفاقوا من موتهم وخرجوا من قبورهم وعاشوا في الأجداث
لفترة لا يعلمها إلا الله، يحين وقت الساعة، وذلك بعد أن يقترب نجم ثاقب والذي
يسمى الطارق، فيثقب السماء (الغلاف الجوي) وتنجذب لقوته الصفائح التكتونية، فتحدث
الزلازل والبراكين، فتنهار الجبال ويقضى عليها، ويهرب الناس من تلك الأهوال
كالجراد المنتشر.
وليال عشر:
ويستمر هذا الحال عشر ليال، يعيش الناس
في ظلام لولا البراكين والبروق، فيهربون من تدافع اللابات (ونزعم أنها هي يأجوج
ومأجوج) فينالهم الجوع والتعب والضنك؛ لكن الملائكة تستقبلهم بعد ذلك في جنات الأعراف
المؤقتة فتقول لهم
{ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيءًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } ([1])
ويطلب
الكفار من المؤمنين بعض الطعام
{ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ
الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا
عَلَى الْكَٰفِرِينَ } ([2])
فقد عاشوا
أياماً خالية من الماء والطعام، أو هي شحيحة جداً وكأنها خالية، ثم ها هي الملائكة
ترحب بهم وتدعوهم لتناول الطعام.
وقد
بينت سور أخرى حال الضوء ففي سورة التكوير ﵟوَٱلَّيۡلِ
إِذَا عَسۡعَسَ ١٧ وَٱلصُّبۡحِ إِذَا تَنَفَّسَﵞ ([3]) وعسعس عند أهل التراث أي أظلم، وفي
رواية أي أدبر وذهب أو العكس أي أقبل بظلامه ([4]) ثم يأتي بعده الصبح يتنفس بعد طول غياب وكتمان،
فكأنه كان مطبقاً على نفسه طيلة عشر ليال، فأرجح أن المعنى في عسعس هو استقر ومكث مدة،
وهي عشرة أيام.
والشفع
والوتر:
لأهل
التراث عدة آراء مختلفة، فالشفع يوم عرفة والوتر يوم النحر، وذهب بعضهم إلى أن
المقصد هو الصلاة المكتوبة، فمنها شفع ومنها وتر. وهناك من ذهب إلى الوتر هو آدم
وشفع بزوجته. وذهب آخرون إلى الشفع هو الزوج والوتر هو الفرد، بينما يرى آخرون أن
الشفع والوتر هو الخلق كله. وقال آخرون أن الشفع هو الخلق والوتر هو الله. ولمقاتل
بن حيان رأي معقول، فيرى أن الشفع هو الأيام والليالي، بينما الوتر فهو اليوم الذي
لا ليلة بعده وهو يوم القيامة. ([5])
والذي
أراه هو التالي:
الشفع
والوتر هو أيضاً وقت من الأوقات، فهناك الفجر، ثم ليال عشر، ثم هذا الشفع والوتر، ثم
يليه الليل إذا يسر.
فالشفع
والوتر، قد يعني وقت الحساب ووقت تحديد مصير الإنسان. فلو صح هذا التفسير فلا ندري
سبب هذه التسمية للحظة الحساب، فقد يكون لأنه تحدث فيها
شفاعة من قبل بعض الملائكة، أو لأن النفوس فيها
تزوج، فيحضر قرين الإنسان فذلك هو الشفع، ثم ينفصلان بعد الحساب، فذلك هو
الوتر.
وقد
يكون الشفع والوتر متعلق بأمر آخر فهو ليال وأيام،
ولكنه متعلق أيضاً بالنور والظلام، ففي الفجر تبدأ الكارثة وتظلم الأرض، وليال عشر
هو استمرار للظلام، ثم يأتي الشفع والوتر، ولعل فيه ظلام متقطع، ثم يأتي الليل إذا
يسر وهو ظلام مستمر دائم، أو نهاية الليل حسب تفسيرنا.
والمؤكد
أن الشفع والوتر هو وقت من أوقات الساعة، وقد يكون له علاقة بالضوء، فهو متقطع
لأناس وموصول لآخرين. أو هو بداية ظهور الضوء واختفائه فهو في تقطع وتذبذب، حتى
يسري الليل كله ويظهر النور الكامل لحظة حشر الناس ويوم الحساب.
على أن
هناك ملاحظة مهمة، وهي أن أهل التراث ربطوا بين الفجر وليال عشر... وبين الحج
وأيامه، وهذا يؤكد أن الحج هو نموذج مبسط لما سيحدث يوم القيامة أو يفترض أن يكون
كذلك، فالحج دعوة من الله للناس لكي يجتمعوا ويحشروا عند بيته، وكذلك قبل بداية
الساعة ينادي المنادي الناس لكي يجتمعوا عند المحشر في رحلة حج عظيمة؛ فكأن أهل
التراث اقتربوا من فهم معاني السورة أو كأن الرسول الكريم شرح لهم معانيها وحاول
أن يقربها لهم بنموذج الحج، ثم اختلط عليهم مقصد رسول الله.
والليل
إذا يسر
لأهل
التراث آراء، فمنهم من يقول إنه يعني الليل إذا ذهب، وبعضهم يقول، بل إذا أقبل، وبعضهم
قال، بل يُذهب بعضه بعضاً. وبعضهم قال هو ليلة مزدلفة، وقيل هو يوم الإفاضة في
الحج، وقيل، بل ليلة الأضحى ([6])
الرأي المعقول:
على
حسب تفسيرنا السابق للسورة، فإن التفسير المعقول والمنسجم مع بقية الآيات، فإن
الليل هنا هو لحظة تلاشيه، فالسري هو حسب تعريفنا في القاموس القرآني هو السير بخفية
سواء كان ليلاً كما حدث مع النبي محمد أو نهاراً، طالما أن الشيء يتخفى ويسير بدون
أن يشعر به أحدٌ فهو سرْيٌ، وغالباً يكون السري في الليل، لأن الظلام يساعد على
التخفي. فهذا الليل هو خاتمة الظلام وخاتمة الساعة، ففي لحظة يسري الليل ويختفي
ويحل محله نور الله (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا).
وقد
يكون المقصد هو أن الناس هم الذين يسرون، فمع حلول الظلام يسير كل إنسان بخفية مع
الظلام نحو الجنة أو النار، فهذا الليل سيحل من جديد بعد الحساب الذي قد يكون هو
الشفع والوتر، وحينها يسري الناس نحو مصيرهم في خفية عن غير قصد منهم، لكنني أرجح
الرأي الأول.
هل في
ذلك قسم لذي حجر
أي هل
هذا القسم يعقله العقلاء؟ ذلك أن الكفار يرون أن الله لا يعاقب ولا يصيب بالمصائب،
بل هو فعل الدهر، ظناً منهم أنهم بهذا يحسنون الاعتقاد مع الله، فالله خلق الخلق وتركهم،
والشر الذي في الطبيعة من فعل الطبيعة والدهر. فعندما يخبرهم الرسول بأن الله هو
الذي يعاقب والذي سيدخل العاصي النار، يزعمون أن الرسول يسيء الظن بالله بهذا
الاعتقاد.
ثم
تذكرهم الآيات التاليات فعل الله جل جلاله، وأنه كما بطش بالأقوام السابقة كعاد
وثمود وفرعون، لأنهم مستحقون لذلك، وأن الله لا يهمل البشر بعد خلقهم ويراقبهم،
كذلك سيحدث يوم القيامة، فهو سيعيدهم للحياة ليحاسبهم على ما فعلوا ويقتص من
المجرمين، وليس كما يظنون أنها مجرد حياة دنيا يموتون فيها ويحيون فقط.
﴿وَقَالُواْ مَا
هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا
ٱلدَّهۡرُۚ﴾ [الجاثية: 24]
لهذا
ذكرتهم السورة بقصص قريبة منهم في المكان والزمان، فتدمير ثمود وعاد وفرعون، وهي
قصص قد يعرفونها جيداً وبعضها يعترف بها اليهود وهم قوم معتبرون عند كفار قريش.
إرم، والصخور
المجوبة، وأوتاد فرعون:
يتحدث
النص الكريم عن أماكن جغرافية واضحة المعالم بالنسبة لكفار قريش والعرب، فهناك
منطقة أو مدينة هي إرم وهناك جبال جابها قوم ثمود وهناك فراعنة اشتهرت مدينتهم
بالأوتاد.
فهي
معالم أثرية ظاهرة لقريش يعرفونها بحكم رحلاتهم، وهم يدركون أنها تعرضت للعقاب
الإلهي بسبب أفعالهم، فالسورة تقول لهم كما اقسم الله بتلك الديار وسكانها كذلك
سيقسم الله بيوم الساعة بعد قيام الناس من قبورهم، فما حدث لهؤلاء من كوارث سيحدث
مثلها مئات الأضعاف يوم القيامة، فهذه النصوص لا تقصد الحديث عن الأقوام بحد ذاتهم،
بل تقصد مباشرة ما حل بمدنهم وأراضيهم.
وقد
يقول قائل: لماذا لم يتحدث النص على الإبادة التي حدثت لأولئك الأقوام، بدلاً من
الحديث عن مدنهم التي دمرها؟ فنقول لسببين: أولاً لأنه فعلاً لم يتم إبادتهم جميعاً،
بل النخبة منهم ومن ناصرهم من جنود وأعوان، أما بقية الشعب الذي لا حيلة له وهو
يطيع كالبهائم، فيشرد لأنه يتحمل بعض المسؤولية.
وثانياً:
لأن المولى يريد مقارنة بين تلك الأراضي والمدن وما يحل فيها من تدمير وبين ما
سيحل بالأرض من تدمير يوم القيامة، فالمقارنة هنا بين الأراضي والمدن وليس بين
البشر، لأنه يوم القيامة لن يموت أحدٌ، فالكل سيظل على قيد الحياة، ولكن مناطقهم
وأجداثهم ستدمر كما حدث ودُمرت مدن الكفار.
ابتلاه فأكرمه يقول ...ربي أكرمن
ابتلاه فقدر عليه رزقه...ربي أهنن
ذكرنا
أن الإنسان هو الواحد من النخبة، من الأغنياء وأصحاب النفوذ، فهذا الإنسان إذا
أكرمه الله زعم أن الله خصه بهذا حباً وكرامةً، فإما أن قدر عليه رزقه أي قلله بعد
توسع، فيقول ربي أهنن.
بينما
الحقيقة أن الله لا يحابي أحداً وإنما هناك قوانين وذكر منها السعي الحثيث، كما
ذكر منها هنا في هذه السورة الإنفاق، فكلما أنفقت أيها الغني زادك الله من الغنى
وكلما قترت نالك القدر اليسير من الرزق.
وقد
ذكر المولى أحد أسباب امتناع الأغنياء عن الانفاق وهو أن الله من أراد ذلك بهم فلا
يصح مخالفة أمره.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا
أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } ([7])
فبين
لهم المولى سبب هذا الغنى أو الفقر وهو الاهتمام باليتيم والحض على طعام المسكين
وعدم التلاعب بالتراث.
﴿كَلَّاۖ بَل لَّا تُكۡرِمُونَ ٱلۡيَتِيمَ
١٧ وَلَا تَحَٰٓضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ١٨ وَتَأۡكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ
أَكۡلٗا لَّمّٗا ١٩ وَتُحِبُّونَ ٱلۡمَالَ حُبّٗا جَمّٗا﴾ ([8])
تأكلون
التراث
تقول كتب المعاجم والمرويات أن التراث
يعني الميراث وهو أمر معقول، أما (لمّاً) فتعني سفاً ([9]) فيتم أكل ميراث الأيتام والنساء عن
طريق اللم (لمّا) أي أن هذا المسؤول عن ميراث الأيتام يلم
ماله إلى مالهم لكي يستخدم حيله في أكلها؛ فيبرر لنفسه تلك السرقة، بأن
المال قد اختلط، فمرة يستبدل مال اليتيم بماله الرديء ([10]) ومرة يأخذ زيادة عن حقه بحجة الاختلاط
بين المالين. وقد شرحت آية مدنية أخرى ووضحت فيما بعد هذه الحيلة ووصفتها بأنها
حوب كبير أي غش عظيم.
﴿وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ
أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ
أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا﴾ ([11])
ومهما كان المقصد من التراث هل هو
الميراث أو التلاعب بالأراضي والعبث برسم حدودها، فإن المقصد هو الغش والفساد. والسورة
تتوعد الطبقة الغنية بنار جهنم جزاء لعملهم هذا الذي دمر المجتمعات فأهلك الحرث
والنسل.
بقي أن
نقول إن الرزق لا يعني الدراهم فقد شرحنا معنى الرزق وهو الطعام والشراب، وخاصة
الطعام، فلم يكن في ذلك الزمن يتوفر الغذاء، وكان من علامة الغنى الظاهرة هو
الغداء، فإذا أصابت أرض الغني الأوبئة أو الجفاف، زعم أن الله أهانه، فإن حدث
العكس، زعم العكس، بينما الحقيقة أن الله عاقب البخيل وأكرم الكريم.
هذا هو
عقاب الدنيا للفرد الواحد، وليس للجماعات كما رأينا في عقاب عاد وثمود وفرعون، فأما
الآخرة فيستمر عقاب البخيل وإكرام الكريم بشكل أعظم وأكبر، كما تقول الآيات
التاليات.
كلا إذا دكت الأرض دكا دكا
ثم بعد
ذلك ينتقل النص الكريم ليصف لحظات الفجر وليال عشر، ففيها تدك الأرض دكاً، أي تدمر
الصفائح الأرضية وتتصادم بسبب أثر النجم الثاقب الذي اقترب من الأرض والذي هو
بداية الساعة.
وجاء
ربك والملك صفا صفا
وعندها، عندما تندك الأرض، وتنفرج السماء يجيء
الله جل جلاله بذاته، لسببين: لكي يمسك الأرض والسماء من الفناء، ولكي يحاسب البشر
على أفعالهم. { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ
الثَّقَلَانِ } ([12])
ولاحظ
عزيزي القارئ أن الله هنا يجيء وليس يأتي، فلو أتى لكان زمن الساعة زمن طويل وليس
عشرة ليال كما ذكرت بداية السورة، بينما مجيء الله جل جلاله يعني سرعة حضوره عز
وجل، فيخلص الأرض والسماء (الغلاف الجوي) من خطر الزوال.
﴿وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ
يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ﴾ ([13])
وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى
وكما
تجيء ذات الله جل جلاله ([14]) تجي
جهنم مسرعة نحو الناس، وقد بينا في كتابنا أن جهنم والجنة في هذه الأرض بعد أن
يتبدل حالها وجغرافيتها وتكوينها، فهذه البراكين واللابات تسير مسرعة نحو الناس،
ولهذا يسيرون كما يسير الجراد هرباً منها، وتنقسم الأرض إلى جنة ونار.
﴿يَوۡمَ
يَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ سِرَاعٗا ﴾ ([15])
والإنسان
كما ذكرنا في كتابنا يفقد ذاكرته فبعد أن مكث في قبره ألوف السنين ستتوقف ذاكرته
عن العمل (يومئذ
يتذكر الإنسان) إلا حين أن يحصل على كتابه، حينها يتذكر
الإنسان ماضيه كله. وقد نسينا ما حدث لنا في عالم الذر كما يطلق عليه، رغم أنه وصية
واحدة من الله، فلا نتذكرها، فما بالنا بيوم القيامة الآخر الذي سنعود من جديد
فاقدي الذاكرة تماماً إلا من بعض الأنبياء والرسل والصالحين.
يقول يا ليتني قدمت لحياتي
فيومئذ لا يعذب عذابه أحد
ولا يوثق وثاقه أحد
هكذا
الإنسان سيقول لنفسه، والإنسان دائماً في القرآن يعني الشخص من علية القوم، الذي
كانت لديه فرص كثيرة لكي يعمل، لكنه فضل الظلم والبخل ولم يكترث لبكاء الأيتام
والأرامل، فيدرك حينها أن حياته تلك لم تكن حياة مقارنة بحياته التالية التي ستمتد
أبداً، فينال عذاباً عظيماً جداً يختلف عن عذابات الآخرين.
يا أيتها النفس المطمئنة
ارجعي إلى ربك راضية مرضية
فادخلي في عبادي
وادخلي جنتي
وسيكون
في الطرف الآخر النفس المطمئنة أي الشخص الذي كانت الملائكة تطمئنه طوال الطريق
وكان طريقه سالكاً بلا منغصات
﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ
أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ
تُوعَدُونَ﴾ ([16])
ثم
يأمر الله جل جلاله تلك النفس الطيبة بالدخول في زمرة الطيبين، الذي يصفهم بالعباد
وليس العبيد، ويمكن الرجوع للمعجم لمعرفة الفرق، فبعد أن يحشر الشخص مع جماعته من
أهل عصره، لكي يتم الحساب بين الخصوم، ينزع كل شخص إلى حيث زمرته ففئة أهل يمين
وأخرى أهل الشمال. ثم بعد ذلك بعد الدخول في الزمر والجماعات، ستساق الزمر إلى
الجنة في مقرها الأخير.
هذا
والله جل جلاله أعلم
علي
موسى الزهراني
([9]) «تاج العروس من جواهر القاموس» (5/
382) «موسوعة التفسير المأثور» (23/ 216) «تفسير الطبري جامع البيان - ط هجر» (24/
381) «أيسر التفاسير للجزائري» (5/ 568) «الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية» (2/
508) «تفسير القرآن الثري الجامع» (30/ 340 بترقيم الشاملة آليا)
([10]) المال لا يعني النقود فقط فقد يكون الثمار
والمزروعات وهي غالباً ما تكون المشتركة في الورث، أو يستبدل أرض اليتيم الطيبة
بأرضه الصلداء، أو قد يستبدل نقوده الرديئة بنقودهم الجيدة.
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك