معنى الخلافة في القرآن ومعنى الإمامة
ترى قواميس اللغة بأن خلف تحمل ثلاثة معاني أو
أصول: أولها هو أن يأتي شيء بعد شيء ويقوم مقامه، والمعنى الثاني هو عكس قُدام،
والمعنى الثالث هو التغير ([1])
لكن القرآن الكريم يتحدث بوضوح عن
الحكم والسلطة، نعم يقتبس معنى الخلف وهو الذي يأتي بعد شيء سبقه، إلا أن المقصود
الدلالي هو الحكم والسلطة والنفوذ؛ فالحاكم وصاحب السلطة هو في الحقيقة يأتي بعد
آخر سبقه إليها سواء جاء بالقتال وطرد القديم، أو جاء بموت الحاكم السابق، أو فناء
شعب سابق.
فأنظر على سبيل المثال قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 30] فالله جل جلاله، يخبر الملائكة أن آدم سيكون
حاكماً لمنطقة واسعة من الأرض، فاعترضت الملائكة بأن هذا الكائن دموي؛ فقد جُرب
سابقاً في أسلافه، وأنه من الأفضل أن تحكم الملائكة مباشرة هذه الجموع البشرية،
كما كان يحدث دائما قبل آدم. وقد ظل هذا المفهوم والتصور حتى زمن قريش عندما رفضوا
أن يكون الرسول البشري هو المتمكن؛ فهم يريدون ملائكة تتولى الرسالة بدلاً عن
البشر كما كان في السابق {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ
مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف : 60] أي كما كان الملائكة سابقاً إذا
نزلوا الأرض يصبحون خلفاء فيها، أي حكامها.
كما يبين المولى جل جلاله تذكير
وتحذير الأنبياء؛ فقد حذر هود قومه عاد، وأنه سلطتهم قوتهم وخلافتهم هي من الله {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ
وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [الأعراف : 69] وفي
سورة هود يحذر هود قومه أنه قد يستبدلهم بقوة أخرى وقوم آخرين يتولون الحكم
والخلافة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا
غَيْرَكُمْ} [هود : 57] ويشير
القرآن الكريم إلى أن قوم ثمود هم من ورثوا الأرض والخلافة بعد عاد.
ثم بعد ذلك، حذر النبي صالح قومه
ثمود من غرورهم وعدم نسبة الفضل في سلطتهم وخلافتهم إلى الله {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ
فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ
بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
[الأعراف : 74] فعاد
وثمود أقوام كانت لهم سلطة عظيمة امتدت في غرب الجزيرة العربية، على عكس قوم شعيب
وقوم لوط؛ فقد كانت سلطتهم ضعيفة لا تتعدى مدينتهم، فالغالب أنها كانت إمارات وليس
دولة كبرى وخلافة.
وقد وضح موسى معنى الخلافة بشكل جلي
عندما أمر أخاه هارون أن يحكم ويأخذ السلطة حتى يعود موسى من الميقات {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي
وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف : 142] فموسى لم يكن نبياً ورسولاً
فقط، بل كان قائدا وحاكماً، يحكم بني
إسرائيل، فالخلافة هي تولي الحكم.
كذلك يتحدث المولى عن الخلافة التي
تولاها بنو إسرائيل، فقد كانت في بداية أمرهم سلطة حسنة وخلافة على منهاج النبوة،
ثم تولى السلطة قوماً منهم أساءوا للحكم فلم يتمسكوا بتعاليم الرب {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف :
169] لهذا نجد
خلافتهم تمزقت وصاروا شذراً مذراً، مفرقين في البلدان. كذلك يتحدث القرآن العظيم في نص آخر عن بني
إسرائيل واليهود عموماً {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}
[مريم : 59] لهذا
كان مصيرهم التمزق فجاء الرسول الكريم فجعل بقية سلطتهم تنهار في تلك المنطقة،
ويتفرقون في خارج الأرض (منطقة الحجاز). ويتحدث المولى عن سبب تمزق ملكهم وهو أنهم
يعتقدون أنهم شعب الله المختار وأن ذنوبهم ستُغفر، مما جعلهم متساهلين في الظلم
والإجرام، فيما بينهم فتمزقوا. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ} [المائدة : 18].
ويشير النص الكريم إلى أن فرعون لما
غرق ومات، {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ
آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس : 92] تولى الحكم من بعده خليفة خلفه، فلم يزل آل فرعون هم الحاكمون لمنطقة
الحجاز، وهي تلك المملكة التي أمر موسى قومه أن يعودوا لكي يقاتلوا بقية آل فرعون،
فقد كانت الفرصة سانحة بعد موت معظم جيش آل فرعون، لكنهم رفضوا حتى جاء داود وسليمان
وتمكنوا من الخلافة.
وقد اختبر الله جل جلاله داود كما اختبر آدم وإبراهيم فنجح في
الاختبار فولاه الخلافة في منطقة الحجاز بعد أن قضى على السلطة التي سبقته وكانت
فاسدة حتماً {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص : 26]
والمولى في النص التالي يهدد قريشً بأنه قد يمزق دولتهم، ثم يجعل
الحكم والسلطة في يد أقوام آخرين، من غير ذريتهم {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو
الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا
يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام : 133] كما
يبين لقريش حقيقة، وهي أن ملكهم وسلطتهم وخلافتهم لم تكن بشطارة منهم، بل هو تيسير
من الله واختبار لهم {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ
وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام : 165] ويقول في سورة أخرى{ثُمَّ
جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس : 14] فهم تولوا السلطة عن طريق إزالة سلطة قديمة ويقول
التاريخ أنهم أخذوا الخلافة من قبيلة خزاعة وأرجح أنهم تمكنوا في الأرض بعد كندة.
ويبدو أن لقبيلة قريش حسنات سابقة جعلتهم يتولون الخلافة في الرعيل
الأول منهم، حتى جاء زمن الرسول الكريم فانتشرت فيهم المظالم وصارت كعبتهم كعبة المحروم
بعد أن كانت كعبة المضيوم {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ
السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ
قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل : 62]
وتتحدث آخر سورة فاطر عن حال قريش
وأن مصيرهم في الخلافة والحكم، مثل الأمم السابقة:
{هُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ
كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا
وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا
مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا
فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ
تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ
كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي
الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا
بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ
عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 39 - 44]
والمولى جل جلاله جعل السلطة
والخلافة وعداً وعده الله للمؤمنين والذين يعملون الصالحات {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور : 55] وهذا النص الكريم موجه إلى الذين آمنوا من أهل
المدينة. وقد تحقق ذلك فعلاً فصارت الخلافة بيد المسلمين في زمن الرسول الكريم وفي
حياته، وقد أوصاهم المولى بالإنفاق وأنه الطريق الوحيد للاستمرار التمكين. {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ
أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد : 7]
الإمامة
لغة:
أم القوم أي تقدمهم، وفي المعاجم فإن الإمامة هي تولي منصب الحكم ورياسة العامة،
ويطلقون عليها الإمامة الكبرى أما الصغرى فهي إمامة الصلاة. ([2])
ولكن نلاحظ أن الإمامة تختلف عن الخلافة في أمرين، أنها لا تأتي بعد
حكم سابق، بل هي تؤسس لحكم جديد في أرض جديدة، مثلما حدث للنبي إبراهيم {وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ} [البقرة : 124] عندما أسس الإمارة في مكة في أرض خالية من حكم سابق
قبله، فلم يضطر إلى خوض معارك للقضاء على حكم فاسد سابق. كما أن الإمامة تحكم
منطقة صغيرة المساحة، فهي إمارة وليست خلافة، ذلك لأنها لا تتوسع على حساب
الآخرين. ونلاحظ هنا أن إبراهيم تلقى كلمات أو اُختبر بكلمات مثلما اُختبر آدم {فَتَلَقَّى
آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ} [البقرة : 37] أي أن آدم بعد أكل الشجرة وهبوطه من الأرض المرتفعة
(الجنة) اختبره الله من جديد باختبار آخر هي (كلمات) مثل كلمات إبراهيم، ولم يذكر
النص هل أتم آدم تلك الكلمات مثل إبراهيم ولكن السياق يشي بذلك، فلن تتم التوبة ما
لم يكن هناك عمل قام به آدم، وهي التي جعلته مستعداً للخلافة، وهي الحكم لمنطقة
واسعة إما بواسطة هدم إمارات كانت قائمة قبله أو بانسحاب الملائكة التي كانت تحكم
الأرض قبل آدم.
وقد أمر الله النبي إبراهيم وابنه إسماعيل بتطهير منطقة مكة من قطاع
الطرق واللصوص لكي يصل العاكفون والركع السجود إلى البيت الحرام بدون خوف {وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة : 125] فإبراهيم صار مقيماً هناك حيث يحكم، فلهذا
صارت مكة مقام إبراهيم أي المكان الذي أقام فيه.
وقد رأى آخرون أن معنى إماماً في قوله تعالى }قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي
قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة : 124] هي إمامة روحية دينية؛ لكن
هذا بعيد وغير معقول؛ فكأنه يدعو الله أن يكون كل ذريته من الأطهار الأنقياء وهذا
مستحيل لأن الطهارة مسألة شخصية تنبع من ذات الشخص. كما أنه لو كانت الإمامة روحية
وليست سلطوية، لما استثنى الله الظالمين، لأنه يستحيل على الإمام الروحي الرحماني
أن يكون مذنباً ذنباً كبيراً، ناهيك عن الظلم الذي هو أبشع الذنوب؛ فإبراهيم بما
عُرف عنه من حبه لأولاده تمنى أن تكون السلطة بيدهم حتى لا يتعرضوا للظلم الذي
تعرض هو له، فاستجاب الله له إلى يوم القيامة، لكنه استثنى الظلمة من ذريته. واستثناء
الظلمة يؤكد أنها إمامة سلطوية حاكمة، وليست إمامة روحانية دينية، فمن أقبح
القبائح أن يكون الحاكم ظالماً.
وهذا ما تؤكده النصوص الكريمة حيث دعا إبراهيم ربه أن يصبح حاكماً لكنه
لم يطلب الخلافة وإنما حكماً ولم يحدد اتساع تلك الأرض {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] وهو نفس دعاء النبي سليمان الذي طلب
حكما ليس له مثيل {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص : 35]. فكان حكم سليمان يتعدى مستوى الإمامة
ومستوى الخلافة أيضاً، وسليمان لم يقصد أن يكون مميزاً عن بقية البشر بطلب هذا
الملك، بل قصد ألا يتولى من بعده من أولاده ذلك الملك لعلمه بحال أولاده ويحكي
التاريخ أنه بعد موته تمزقت مملكته في عهد ولده الضعيف.
ونلاحظ في التاريخ أن المسلمين أطلقوا على من حكم بعد الرسول لقب
الخلفاء الراشدين، ذلك لأنه في زمنهم توسع الملك، فتحول من إمارة إلى خلافة هائلة
لم يشهد التاريخ مثيلاً لها؛ فلقب خلفاء ليس لأنهم جاءوا بعد الرسول فلن يخلف أحدٌ
النبي محمد مطلقاً، وإنما القصد توسع ملكهم حتى وصل من الصين إلى فرنسا.
هذا والله ﷻ أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك