أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 آخر الأخبار

تفسير قوله تعالى وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً. ومعنى كلمة وراء

 



تفسير قوله تعالى وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً.

﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ ‌سَفِينَةٍ غَصۡبٗا﴾ ([1])

ترى كتب المعاجم أن وراء من الأضداد، فهي تعني خلف وتعني أمام، وذهب بعضهم أنه من التورية أي قد يتوارى الشيء عنك من خلفك ومن أمامك. ([2])

        وأرجح أنهم تأثروا بكتب التفسير، التي تزعم أن وراء تعني أمام واستدلوا بآيات فسروها بهذا المعنى مثل آية {من ورائهم جهنم} ([3]) فيرى قتادة بن دعامة أنها تعني أمامهم جهنم ([4]) وهو رأي مقاتل بن سليمان وقد فسر الآية { وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا } ([5]) بأنها تعني أمامهم يوم ثقيل ([6])  وقد اتفق معهم مفسرون آخرون مثل يحيى بن سلام ومن قبلهم ابن عباس الذي نسبت إليه قراءة بكلمات زائدة ومحرفة (وكانَ أمامَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالِحَةٍ غَصْبًا) ([7]) نعوذ بالله من هذا الضلال، وهذا الكذب المنسوب إلى ابن عباس.

 

القرآن يؤكد معنى وراء:

الوراء في القرآن الكريم يعني الخلف سواء في المكان أو الزمان، فمن ذلك الوراء الزماني قوله تعالى: {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ}([8]) فقد جاء القرآن لاحقاً، فكأن القرآن يلحقهم ويتبعهم حتى لاقاهم في القرن السادس الميلادي على يد الرسول الكريم، والقرآن جاء بعد التوراة والإنجيل فهو من وراء هذين الكتابين زمنياً.

 

أما النصوص التالية

{نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَٰبَ كِتَٰبَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} ([9])

{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } ([10])

{وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} ([11])

فيشير إلى النبذ المكاني والذي يؤكد على الإهمال التام للكتاب المقدس، فهم قاموا فعلاً بوضع كتابهم المقدس في الرفوف والمخازن وأقبلوا على شهواتهم، وعاداتهم الجاهلية؛ فصار الكتاب وراء ظهورهم حسياً والذي يعني إهماله.

 

أما قوله تعالى:

{فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}([12])

{ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ([13])

فلكي نفهم هذين النصين يجب أن نفهم معنى ابتغاء ومعنى الفروج وما ملكت اليمين. لكننا هنا سنكتفي بالإشارة إلى أن النص يخبرنا أن الزوجة وملك اليمين ورائهم نساء لا يحق للرجل أن يمارس معهن فعلاً معيناً، فالنص يقول أمامك زوجتك وملك يمينك فهن المسموح لك بذلك الفعل، وأن ما ورائهن من النساء فلا يحق لك ذلك. فالمعنى بالوراء هنا مكاني ويقصد به النساء اللاتي يقفن في الخلف واللاتي يمنع ممارسة ذلك الفعل معهن.

 

أما النص الكريم:

{ وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَٰلِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } ([14])

فهو يحدد المحرمات على الذكر وهن الأمهات والبنات والأخوات إلخ... وأيضاً المحصنات أي المتزوجات من غيركم، إلا ملك اليمين والتي لم يُدفع لها المهر، فيحق لكم ممارسة الزواج معهن لكن يجب دفع المهر لاحقاً، فإن رضيت أن تتنازل عن بعض المهر فلا بأس. والورائية هنا مكانية وهي عكس الآيتين السابقتين فقد قدم النساء المحرمات على الذكر، ثم جعل من ورائهن النساء المباح للذكر الزواج منهن.

 

أما قوله تعالى:

{ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَٰهَا بِإِسْحَٰقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَٰقَ يَعْقُوبَ }  ([15])

فالورائية هنا زمانية فمن يأتي أولاً هو إسحق ثم يأتي بعده يعقوب، فلو نظرت إلى خط الزمن لوجدت إسحق يأتي أولاً ثم يلحقه يعقوب ثانياً. وهو مثل الخط الزمني للتوراة والإنجيل والقرآن.

 

أما قوله تعالى:

{ قَالَ يَٰقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ([16])

فالمقصود أن القوم اتخذوا ذات الجلالة وراءهم مكانياً؛ فلم يعودوا يتجهوا بوجوههم جهة الله لشكره وعبادته ودعائه. والمقصود هو التناسي وعدم ذكره وشكره

 

أما قوله تعالى:

{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَٰلِيَ مِن وَرَاءِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا } ([17])

  

فإن زكريا يتحدث عن ورائية مكانية، فهو سيرحل ويترك الدنيا ويبقى خلفه النساء فهو متكفل برعايتهن، فعند موته سيظلمن ويشتتن. فهو لم يقصد كل الموالي اللاتي في الدنيا، بل الموالي اللاتي وراءه يقدهن ويعتني بهن. وقد يكون مقصده وراء زماني، فبعد رحيله سيمكثن في الدنيا لوحدهن بعد مغادرته الدنيا، فكلا المعنيين معقول، لكن الأرجح هو الوراء المكاني، لأنه لو كان يقصد الوراء الزمني لاستخدم كلمة من بعدي وليس من ورائي.

 

أما قوله تعالى:

{ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا }  ([18])

فهو يتحدث عن ورائية زمانية، فيوم القيامة خلفنا ويسابقنا وسيأتي يومٌ يلاقينا فيه حتماً، ولأنه يوم ورائنا؛ فإننا لا نشعر به ولا نراه إلا من به عقل وحكمة.

 

أما قوله تعالى

{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } ([19])

فهو أكثر الناس عذاباً يوم القيامة، لأنه جعل الكتاب المقدس وراء ظهره؛ فإنه سيستلم كتابه يوم القيامة وراء ظهره كما كان يتعامل مع كتابه المقدس، وقد شرحنا ذلك في مقال بالموقع.

 

أما قوله تعالى:

{ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ([20])

يجب لكي نفهم النص جيداً أن نعرف معنى برزخ، فتقول المعاجم أن البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، وقيل ما بين كل شيئين من حاجز. والبرزخ هو أن تصلي بجماعة فتقفز في السورة وتقطع جزء منها لا تقرأه. وفسروا البرزخ في الآية الكريمة بمعنى قبر. وقيل، بل بقية الدنيا. وإذا كنت بين الشك واليقين فأنت في برازخ الإيمان. ([21])

من خلال فهمنا للورائية في بقية النصوص، نجد أن هذا البرزخ يطارد الميت ويلحقه كما وجدنا جهنم تلاحقهم من ورائهم، أو الزمن مثل القيامة تطارد الناس لتلاقيهم في الأخير دون أن يشعروا بها.

والذي أرجحه أن البرزخ هو آلية الموت التي تطارد الميت وتقبض عليه فتمنعه من العودة إلى الدنيا، حتى تحين القيامة، فيتلاشى فعل البرزخ ويعود الإنسان تتجمع أجزاءه من جديد، ويخرج من قبره، فهناك جهاز يلقب بالبرزخ، يطارد الإنسان الميت ويمنع عودته إلى الدنيا، إلى حين القيامة. والبرزخ أيضاً هو الآلية التي تمنع انتقال الماء المالح إلى العذب أو العكس { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ }  ([22]) فهو برزخ يمنع هذا التعدي والبغي، كذلك برزخ الأموات يمنع الميت من العودة فهو وراءه يطارده ويحاصره حتى تحين القيامة فيزول البرزخ ويعود الجسم للتجمع من جديد.

 

أما الآيات

{مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ }([23])

{مِّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ}([24])

فهنا الورائية مكانية لأن جهنم تسير معهم حيث يسيرون وتتبعهم فهي من ورائهم، ثم تحيط بهم فيعلقون فيها.

 

أما قوله تعالى:

{ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ }  ([25])

ذكر هذا النص بعد تعذيب عاد وثمود وفرعون، فالنص يبين أن الكفار لا يشعرون بوجود الله وسلطته فهو لهذا ورائهم مكانياً ([26])  فحينها يأتي أمره فجأة عليهم، فالله محيط بهم ولن يفلت أحدٌ من عقابه {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَٰفِرِينَ} ([27]) والله جل جلاله ورائهم لأنهم هم من جعلوه كذلك، فهم يتجهون بقلوبهم ناحية الشيطان والشهوات وتركوا هدايته ومعونته.

فما قصة السفينة والملك الغاصب؟

بعد أن فهمنا معنى وراء، وأنه قد تعني وراء زماني أو مكاني، وأنه في الغالب يقصد بها المفاجأة وعدم التوقع، ندرك الآن لماذا استخدم النص جذر وراء دون غيره، {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا }([28]) ذلك لأن الملك لم تكن من عادته اغتصاب السفن، أو لأن الملك لم يكن يغتصب السفن في منطقتهم، ربما لبعدها أو لقلتها.

وقد يكون الملك في حاجة لتلك السفن، لأنه في حرب فيحتاج إلى دعم عسكري أو لوجستي. ففعله صار فجأة ودون عادة منه. ولأنه لا يستطيع أن يفرق بين من هم في حاجة وفقر شديد من غيرهم، فكان على الخضر أن يساعدهم، دون غيرهم لشدة فقرهم أو ربما لكثرة إحسانهم، فهم كما ظهر لنا في القصة نقلوا موسى والخضر مجاناً.

خرج الملك وجنوده للبحث عن السفن الصالحة، خرج بدون موعد ولا توقيت لظروف الحرب أو لحالة طارئة لا نعلمها ولا يعلمها أصحاب السفينة، فلهذا كان الملك وراءهم ولم يكن أمامهم، فقد باغتهم. والذي حدث فعلاً أن الملك قد صادفوه أمامهم فلا يوجد اتجاهات في البحر أساساً، لكنه كان وراؤهم مكانياً لأنه باغتهم فقط لا غير، ففجأة ظهر لهم -أو جنوده فقط- وأمرهم بالنزول من السفينة لاغتصابها، لكن عمل الخضر أنقذهم، وهذا يؤكد أن عمل الملك ليس عادة؛ فلو كان عادة لأخذ السفينة وأصلحها لكنه كان في عجل، ولو كان عادة لانتشرت سمعته بين السكان، ولما خرجت سفينة للصيد.

 والخلاصة أن وراء تعني فعلاً، الوراء المكاني والزماني، وأنه ذُكر في القرآن الكريم كثيراً، ليبين غفلة الجماعات والأفراد، فلا يدرون أن وراءهم شيئاً سيضرهم ويؤذيهم، فقد تكون تلك الغفلة عن سذاجة وبساطة ونقصٍ في المعلومات، مثل أصحاب السفينة، وقد تكون غفلة ضلال وشهوة وعناد تجعل صاحبها مصدوماً مما سيلاقيه من مصيبة تأتيه من خلفه. وهذا ما سنراه يوم القيامة عندما تطارد النار الناس دون أن يشعروا في غفلة منهم.

وهناك وراء مكاني لا يقصد به الغفلة، مثل النساء الحلال بعد ذكر المحرمات منهن، أو النساء اللاتي خلف زكريا يعتني بهن، أو ذلك البرزخ الذي من خلف الميت يمنع عودته.

هذا والله ﷻ أعلم

علي موسى الزهراني



([1]) [الكهف: 79]

([2]) «مقاييس اللغة» (6/ 104)«تاج العروس من جواهر القاموس» (40/ 194)

([3]) [الجاثية: 10]

([4]) «موسوعة التفسير المأثور» (13/ 626)

([5])   [الإنسان: 27].

([6]) «موسوعة التفسير المأثور» (13/ 627)

([7]) «موسوعة التفسير المأثور» (13/ 626)

([8]) [البقرة: 91]. 

([9])   [البقرة: 101].

([10])   [آل عمران: 187].

([11])   [الأنعام: 94].

([12])    [المؤمنون: 7].

([13])   [المعارج: 31].

([14])  [النساء: 24].

([15]) [هود: 71].

([16])  [هود: 92].

([17]) [مريم: 5].

([18]) [الإنسان: 27].

([19])   [الانشقاق: 10].

([20])   [المؤمنون: 100].

([21]) «مجمع بحار الأنوار» (1/ 163) «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (1/ 106)

([22]) [الرحمن: 20].

([23])    [إبراهيم: 16].

([24])    [الجاثية: 10].

([25]) [البروج: 20].

([26])  لا نحب ولا ندعو للخوض فيما خاض فيه الأقدمون حول أين الله وهل هو خارج العالم أو داخله وغيرها من الترهات فنحن لا نعرف تكوين الذرة والكواركات؛ فنأتي ونجادل في ذات الله بغير علم، وإنما نحن نتحدث بكل بساطة بما يقوله النص بدون الغوص في عمق لا نفهمه ولا ندركه. فالله أمرنا بمعرفة صفاته لا معرفة ذاته.

([27]) [البقرة: 19].

([28]) [الكهف: 79].


ali
ali
تعليقات