معنى الكرم والكريم في القرآن المنير
الكرم
لغة وعند أهل التراث ([1])
:
يرى
أهل المعاجم، أن الكرم ضد اللؤم، ويرى ابن فارس أن الكرم أصل صحيح له بابان:
أحدهما الشرف في الشيء في نفسه أو شرفٌ في خُلق من الأخلاق. ويرى ابن فارس أن
الكرم هو البذل مثل كرمت الأرض إذا أنبتت، أو كرم السحاب إذا جاء بالغيث. وقد يقصد
بالكرم الصفح، فمن صفح فهو كريم.
وهناك
حديث للرسول ينصح ويوصي أصحابه بعدم تسمية العنب بالكرم (لا تسموا العنب الكرم،
فإنما الكرم الرجل المسلم)
وقد
فسر محمد بن القاسم الحديث فقال: " سمي الكرم كرما، لأن الخمر المتخذ منه،
يحث على السخاء والكرم، فاشتقوا اسما من الكرم للكرم الذي يتولد منه" ([2])
فيظن ابن القاسم أن الخمر يؤدي بصاحبه إلى البذل والعطاء، نتيجة ذهاب بعض عقله،
فلهذا سمي العنب كرماً لأنه يصنع منه الخمر الذي يؤدي إلى الإنفاق.
بينما
يرى الأزهري شيء آخر فيقول: " إنما سُمِّى كَرْمًا لكَرَمه؛ وذلك أَنّه
ذُلِّلَ لِقَاطفِه، وليس عليه سُلَّاءٌ فيعقِرَ جانِيه " ([3])
وهذا بعيد كل البعد عن فهم معنى الكرم.
ونحن
نجزم أن الرسول يقصد الخمر، وتجنب تسميتها بالكرم، حتى لا تعطى هالة من التوقير
والتبجيل والتقدير، فتنجذب القلوب إليها، ولا تستطيع النفس تركها، مثل تسميتها
اليوم بالمشروبات الروحية، فلو كان الرسول حاضراً
اليوم لمنع محبيه من تلك التسمية التي تجعل للخمر جاذبية.
وهناك
حديث آخر يقول: "إذا أنا أخذت من عبدي كريمتيه" ([4]) ويقصد بها عينيه، ومعروف أن العين لا تبذل
المال لصاحبها ولا هو يبذل لها العطاء، وإنما سميت كريمة لتوقيرها عند صاحبها فهي
كالجواهر غالية عنده.
ولأنهم لم يفقهوا معنى الكرم فقد فسروا
نصوص الكرم وأبعدوا في سبر معانيها. ففي قوله تعالى:
{ولقد
كرمنا بني آدم} أي: فضلناهم بالنطق والتمييز والطيبات، وعن ابن عباس: جعلناهم
يأكلون الطعام بأيديهم ([5])
وفسروا (الرزق الكريم) بمعنى رزق غير منقطع ولا فاسد ولا ناقص. وفسروا (ألقي إلي
كتاب كريم) أي مختوم أو حسن ما فيه. وفسروا (إنه لقرآن كريم) أي كثير الخير. وهكذا
تمضي تفسيراتهم بعيداً عن فهم معنى النصوص القرآنية.
الكرم
في القرآن:
ورد
جذر الكرم بمشتقاته ستة وأربعون مرة، ولم نجد في واحد منها ما يراه أهل التراث وهو
أن الكرم هو البذل والعطاء، ولا يقصد به الصفح، فقد ورد جذر الصفح في نصوص أخرى،
ولا علاقة للصفح بالكرم.
ولو
أن القوم بذلوا قليل من الجهد في تأمل النصوص سنجد أن آية قد جاءت بنقيض الكرم
فقالت:
{وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج: 18].
وبهذا
يتبين لنا أن نقيض التكريم هو الإهانة، والإهانة هو التقليل من شأن الشيء وقيمته،
وبهذا تنحل العقدة وتتضح لنا كل معاني النصوص التي تؤكد على أن الكرم يعني تقدير
الشيء ورفع قيمته في أعين الناس
وفي
نص آخر يؤكد أن الإهانة نقيض الكرم
{
فَأَمَّا الْإِنسَٰنُ إِذَا مَا ابْتَلَىٰهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15].
{
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَٰنَنِ}
[الفجر: 16].
وهذا
عزيز مصر، يأمر امرأته {أَكْرِمِي مَثْوَىٰهُ} [يوسف: 21]. أي أجعلي أثاث غرفته فخماً فاخراً
وأسكنيه في مسكن أهل البيت والضيوف وليس في مسكن الخدم، فقد كان يخطط العزيز أن
يجعله ولداً له أي يتبناه ويجعله باسمه{أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَدًا} [يوسف: 21]. فلهذا أمرها
أن يجعل المثوى كريماً أي ذا قيمة رفيعة عند ساكنه.
أما
الرزق الكريم {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4] فهو ذلك الرزق الذي يثمنه الناس
ويقدرونه ويساوي عندهم سعراً غالياً، وهو كل رزق غلا ثمنه أو زادت جودته، مثل
الطعام، أو المركب، أو المنزل، وغيرها من الأرزاق.
وهناك
آيات أخرى ذكر فيها الكرم، مثل: مقام كريم، مدخلاً كريماً، زوج كريم، كتاب كريم.
فكلها تعني أن ذلك الشيء مقدر ومقيم عند الناس، فهناك رزق محتقر وآخر مكرم، وهناك
مقام محتقر مثل سكن الفقراء وهناك مقام مقدر كريم مثل سكن الأغنياء، وهكذا بقية
الآيات.
أما
قول النسوة {إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] أي ملك ذا مكانة وتقدير واحترام،
وهن لم يقلن ما هذا بإنسان ولكن قلن ما هذا ببشر، لأن البشرية في نظرهن أقل من
الإنسانية، فالإنساني هو أعلى شأناً من البشري، لأن الإنسان في القرآن هو السيد، ولكنهن
عوضن عن ذلك وصفنه بالملك الكريم، ليؤكدن أنه أعلى من الإنسانية نفسها، فهو أعلى
منهن مكانة وتقديراً لما اتصف به من جمال، والجمال شيء من نبع الألوهية.
وقد
اعترض إبليس على تكريم آدم عليه
{
قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ
عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا } [الإسراء:
62].
أي أن الله جعل آدم أكثر قيمة وتقديراً من
إبليس، بل أمر الملائكة وإبليس بالسجود له، لهذا أراد أن ينتقم من ذريته، فيجعلهم
مثل البهائم، كالحمير يركبهم ويحتنكهم، فيضع اللجام في أفواههم، ويقودهم حيث يشاء
كما تقاد البهائم، وغرضه تحطيمهم وإذلالهم وإهانتهم، ليثت أنهم لا يستحقون
التكريم، أي التقدير والتقييم.
ويؤكد
النص التالي أن التكريم عم كل بني آدم
{
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ
عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا }
[الإسراء: 70].
أي أن المولى جعل بني آدم أعلى تقديراً
وتقييماً من كثير من المخلوقات، فجعل الكائنات خاضعة لهم، وهو ما يسميه بالتسخير،
فسخر لنا الكون تكريماً لنا، أي لأنه قدرنا وقيمناً.
الكرامة
درجة من بين درجات كثر، فهناك أولاً الإنسان المهان، وهو الأقل درجة، ثم يليه
الإنسان العادي وهو معظم تعامل البشر مع بعضهم، ثم يليه الإنسان المكرم وهو من
نعطيه التقدير.
وهذه
هي الدرجات الطبيعية المقبولة عند الله، فأما بعد ذلك فتطرف في التبجيل والتوقير
والتعظيم، وهي درجات لا يستحقها البشر أو أي كائن، بل هي لله وحدة، حتى الملائكة
لم يصلوا لهذه الدرجة وإنما أقصى ما وصلوا إليه هو التكريم، لهذا استنكر المولى
تعظيم البشر للملائكة وبين أنهم فقط مكرمون.
{
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَٰنَهُ بَلْ
عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [الأنبياء:
26].
لكن
الكرم أيضاً درجات فهناك إنسان كريم وهناك إنسان أكرم منه، أي أعلى تقديراً منه
كما تشير الآية التالية:
{
يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13].
فالتقوى
هي السبب في التكريم وليس الحسب والنسب، والمال والجاه والمنصب. وهذا التكريم هو
عند الله وليس عند البشر، فلله معايير تختلف عن معايير البشر الضالة في تكريم
الناس وتقديرهم، وكلما زادت التقوى زاد التكريم.
والشيطان
كان مكرماً عند الله، لكن الذي أغضبه أن جعل آدم المخلوق من طين أكرم منه، وفوقه
في التقدير، لهذا غضب وعصى ربه. وهذا يدلل على أن هناك من هو مكرم ومن هو أكرم
منه.
والرحمن
هو الوحيد الذي وصف بالكريم، والكريم لا يعني أنه المعطي – كما شرحنا بالأعلى- فقد
ورد هذا الاسم في مكان آخر، ولكن يقصد بالكريم هو الذي يهب الكرامة، أو يمنعها عمن
لا يستحقها،
{وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:
18].
هذا
حتماً لو أراد الله أن يجعله مكرماً عند الناس، أما لو أراد أن يكون مهاناً،
فسيكون كذلك مهاناً. على أنه قد يترك المولى الإنسان في حال سبيله، فلا يكرمه ولا
يهينه لكنه يسمح للبشر بتكريمه، بل قد يصلون إلى التبجيل، لهذا كان المولى هو
الأكرم كما يقول النص الكريم أي الأكثر على بذل الكرامة، فيعطيها من يشاء من البشر.
{ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
} [العلق: 3].
أما
قوله تعالى:
{
يَٰأَيُّهَا الْإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ } [الانفطار: 6].
فتتحدث
السورة عما فعله المولى بالإنسان من حسن خلق له فجعله كريماً في أعين الناس، ذا
تقدير ومكانة. أو بما قدمه له من رزق، فالرزق هو بوابة الكرامة، فلا يوجد فقير
كريم، وقد قلنا إن الإنسان يطلق على كل رفيع من نخبة القوم.
أما
قوله تعالى:
{
لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ } [الواقعة: 44].
فيقصد
به اليحموم، ظل في جهنم وفسروا اليحموم بأنه الدخان وقيل، بل جبل في جهنم ([6])
وأرجح أنه الضباب فالضباب يكون دائماً
بارد، لكنه في جهنم سيكون ساخناً، ولكن يكون كريماً أي لن يطلبه الناس ولا يريدونه
وينفرون منه على عكس ضباب الدنيا الذي يحبه الناس ويقدرونه لجماله وبرودته.
أما
قوله
{
إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ } [الواقعة: 77].
فهو
كتاب موقر ومقدر ومعتبر
لهذا
قال بعدها
{
فِي كِتَٰبٍ مَّكْنُونٍ } [الواقعة: 78].
وقال
عنه أيضاً
{
بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ } [البروج:
21].
{
فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج: 22].
أما
قوله تعالى
{
وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَٰلِ وَالْإِكْرَامِ
} [الرحمن: 27].
فيقصد
بها أنه عنده خزائن الكرامة يهبها لمن يشاء من خلقه.
وقد
ربط الناس بين جذر الكرم وجذر العطاء، حتى استقر في ذهنهم أن الكرم هو العطاء،
بينما هما شيئان مختلفان، ولكن الذي يحدث أن غنى الإنسان وكثرة ماله، تجعله كريماً
في أعين الناس، فيقدرونه وقد يبجلونه، فلهذا ظنوا من خلال القرآن أن الكرم يعني
العطاء، بينما الواقع قد يكون معاكساً، فقد تجد الغني المحتقر، نعم الأمر نادر
وقليل، ولكنه موجود فمن يبخل على الناس بماله يحتقر أشد الاحتقار وإن كان يملك
مفاتيح قارون.
وقلنا
إن الكريم بآل التعريف، لا تطلق إلا على الله أما هذه الآية
{
فَتَعَٰلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [المؤمنون: 116].
فلا
تعني أن العرش هو الكريم، فالعرش ليس بيده شيء، وإنما النص هنا يتحدث عن الله الذي
هو رب العرش والله من صفاته الكرم سبحانه، أي يهب من يشاء الكرامة، وهذا يؤكده
سياق النصوص السابقة لهذا النص، ففي النص السابق يحتقر الله الكفار فيقول لهم
{
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَٰلِمُونَ } [المؤمنون: 107].
{
قَالَ اخْسَءُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108].
فلهذا تسمية الأشياء بالكريم هو خطأ، يجب
تصحيحه فلا يصح أن نقول القرآن الكريم، نعم هو قرآن كريم، يهب لصاحبه بعض التقدير
والتوقير، بما حفظه أو تدبره، ولكن لا يملك كل أبواب الكرامة، فلله كل أبواب
الكرامة، لهذا قال إنه ذو الإكرام أي الذي له كل الإكرامات، يهبها لمن يشاء من
عباده.
أما
قوله تعالى
{ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ
وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا
} [الفرقان: 72].
فقد
شرحنا معنى اللغو -في مقال سابق- وبينا أنه التهديد، فهنا يبين النص الكريم أن
المؤمنين يتعرضون للتهديد ومع هذا يمرون ولا يكترثون، بل ينظر المهددون لهم، بنوع
من التكريم والتقدير، فهم لا يشتبكون مع من يهددهم، فلا يستفزهم الكلام والتهديد،
وهم كرماء أمام أعداءهم لما يحملونه من قيم نبيلة ولما جعل الله فيهم تلك الكرامة.
ولو
عدنا لبعض الحكم والمرويات، سنجد مثلاً قولهم: أن المسامح أو الصافح كريم، وهذا
صحيح لأن الصافح يحترمه الناس ويقدرونه فلهذا صار في نظرهم كريماً، وليس لأنه أنفق
عليهم. وهكذا بقية الحكم والروايات المتعلقة بالكرم فهي تعني التقدير والتوقير.
هذا
والله العظيم أعلم
علي
موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك