فرض وقسم وفصل في القرآن المكرم
درسنا هذه المفردات
سوياً لوجود علاقة بينهم، فعند هذه النظرة الشاملة سيتضح لنا معنى كل مفردة بمنتهى
الدقة.
فرض في القرآن المكرم
الفرض
لغة:
الفرض أصل يدل على تأثير الشيء من حز أو غيره. والفرض هو الحز في
الشيء، والفراض فهوة النهر. ويقولون: ما عليه فراض، أي ما عليه ملابس.
والفرض جنس من
التمر. والفرض الترس. والفرض ما أوجبه الله وسمي بذلك لأن له معالم وحدود. والمفرض
الحديدة التي يحز بها. والفريض السهم المفروض فوقه. والتفريض التحزيز. وفسروا "سورة
أنزلناها وفرضناها" أي فصلناها. وفرضة النهر أي ثلمته التي منها يستقى. وفرضة
البحر محط السفن. والفرض الترس. وفرضت الرجل أي أعطيته. والفرض العطية المسمومة.
وفرضت البقرة أي
طعنت في السن. والفارض الضخم من كل شيء. والفريضة ما فرض في السائمة من الصدقة. والفرض ثقب الزند في الموضع الذي يقدح منه. والمفرض الحديدة
التي يحز بها. والفرض ما يفرضه الحاكم من نفقة للزوجة. والفرض ما أعطيته من غير
ثواب.
والفرض يختلف عن القرض في أن القرض عطاء باسترداد. وأفرضت إبل
فلان أي وجبت زكاتها. والفريض جنس من التمر. وفرائض الله حدوده. وبقرة فارض أي
ضخمة. وكتب المعاجم تقول إن فرص مثل فرض، أي اقتطاع شيء من شيء. ([1])
الفرض في
القرآن المكرم:
لا علاقة للفرض بالتشريعات الدينية أبداً، إلا من ناحية العدد
والمقدار، فالصلاة ليست فرض، لكن عددها هو الفرض، فالدقائق التي تأخذها من يومك
لأداء الصلاة هي الفرض وليست الصلاة نفسها. والصيام كذلك والحج، وإنما الفرض هو
اقتسام جزء من كل، فلو قسمت جزء من التفاحة وليكن ربعها، فهذا فرض، وهذا يتفق مع
ما تقوله المعاجم وهو الاحتزاز.
وفي آية الحج {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَٰأُولِي الْأَلْبَٰبِ} ([2])
فالحج ليس فرض، بل تشريع أو شرعة، لكن تخصيص أيام من أشهر الحج
هو الفرض، لأنك اجتزأت جزءاً من كل؛ فالحج أشهر معينة معلومة عند الناس، فمن اقتسم
من تلك الأشهر بعض الأيام لكي يحج، فقد فرض، أي اقتطع جزء من أشهر الحج هو أيام.
{وَاذْكُرُوا
اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَّعْدُودَٰتٍ فَمَن
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ} ([3])
أما آيات المهر والمتعة:
فنلاحظ ابتداء أن القرآن أطلق على ما يقدم للمرأة بصداق
ثم وصفه بأنه نحلة، كذلك أطلق عليه في آيات أخريات، أنه أجر ووصفه بأنه فريضة، وفسر
أهل اللغة أن النحل هو العطاء بلا مقابل، ونحلت فلان أي أعطيته عن طيب نفسٍ ([4]) ونلاحظ عدم قدرتهم على فهم معنى نحلة.
كما أن أهل التفسير اختلفوا في معنى نحلة، فينقلون عن أمنا
عائشة أن نحلة يعني واجبة، كذلك اتفق معها عبد الرحمن بن زيد، بينما يرى ابن عباس
أن نحلة يعني المهر. ويرى قتادة ومقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان وابن جريج أن
نحلة يعني فريضة، ويرى ابن السائب الكلبي أن نحلة يعني عطية وهبة ([5])
{ وَءَاتُوا النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا
فَكُلُوهُ هَنِيءًا مَّرِيءًا } ([6])
{ لَّا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ
عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَٰعًا بِالْمَعْرُوفِ
حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } ([7])
{ وَإِن
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا
تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }([8])
{وَالْمُحْصَنَٰتُ
مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَٰلِكُم
مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ
فَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
فَرِيضَةً وَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ([9])
ولو تأملنا هذه الآيات بعمق، سنجد أن نحلة يختلف عن الفريضة، في
أن النحلة يعني دفع الصداق مرة واحدة. والسورة تتحدث عن الأرملة التي مات زوجها
وترك لها أطفالاً، ففي هذه الحالة يصح الزواج بها ودفع صداق، نحلة أي لمرة واحدة،
وهذا على عكس الزواج بقصد التمتع، والتمتع هو الاستخدام، سواء أكان استخدام جنسي
أو خدمة، فالجنس خدمة من الخدمات، فإن هذه الزوجة تستحق الأجر فريضة!
أي تستحق الاستمرار في الدفع لها، طالما هي توفر له الخدمة بكل
صورها، ويمكن لها أن تتنازل له عن بعض ذلك الأجر أو كله، لكن يشترط الشارع أن يتم
الإقرار بالفرض ما قبل الزوج، حتى إذا حدث سوء تفاهم بينهم طلبت فرضها الذي هو
لها.
وبهذا نجد أن نحلة يعني عطاء منقطع لمرة واحدة، بينما الفريضة
هو عطاء مستمر ودائم، طالما هناك خدمة تؤديها الزوجة لزوجها.
لاحظ هنا أن الرجل الأول تزوج تلك الأرملة لكي يبر في أولادها
الذين هم في الغالب قرابة له كأبناء أخيه، ولم يكن له غرض خدمة أو جنس، وإنما لكي
يسهل دخوله وخروجه في بيتها، بينما الرجل الثاني فتزوج لكي تخدمه أو توفر له
الجنس.
أما تقسيم الورث بين الورثة، فهو فرض
أيضاً، أي لكل شخص جزء من هذا المال، وفق نظام وقانون وليس تقسيماً اعتباطياً.
{ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ
الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ
الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}([10])
وتقسيم الورث بين
الورثة بهذه الطريقة هو فريضة من الله أي قسمة الله، وهي أحكم التقسيمات، فهي
فريضة الله أي قسمة الله، التي لا مثيل لها.
{فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } ([11])
والشيطان يزعم أنه سيأخذ قسمته من البشر، فإن كان البشر كلهم
لله، فهو سيأخذ قسمة منهم ونصيباً، وفق قانون، فعدد من سيضل معروف لديه.
{وَقَالَ
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا } ([12])
والصدقات هي فريضة بين أصناف من البشر، مثل الفقراء والمساكين
والعاملين عليها، أي لكل صنف منهم قسمة من الصدقة، فالصدقة فرضها الله أي قسْمها
بين هؤلاء الثمانية أصناف، فهي مقدرة ومتكررة لا تنتهي.
{إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي
الرِّقَابِ وَالْغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ}([13])
وفي سورة النور:
{سُورَةٌ
أَنزَلْنَٰهَا وَفَرَضْنَٰهَا
وَأَنزَلْنَا
فِيهَا ءَايَٰتٍ بَيِّنَٰتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ([14])
فرض المولى أي قسم الله بعض الأحكام، كما أنزل فيها آيات كونية
عظيمة لتذكير الإنسان بخالقه. ومن تلك الفرائض (الأنصبة) مئة جلدة للزاني، {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَٰحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ([15]) وثمانون جلدة للذي يرمي المحصنة، {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَٰنِينَ جَلْدَةً} ([16]) وألزم لتأكيد الزنا أربعة شهود { لَّوْلَا جَاءُو
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ([17]) كذلك الحلف بين الزوج والزوجة
فقد حدده بخمس مرات{
وَالْخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَٰذِبِينَ }([18]) كما حدد وقت دخول الخدم والأطفال بثلاث أوقات {يَٰأَيُّهَا
الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتَءْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَٰثَ مَرَّٰتٍ} ([19]).
فكلها أرقام مقسمة، فالزاني له مئة والرامي (ويسميه
أهل التراث قاذف وهذا خطأ) له ثمانين، ولإقرار الزنا أربعة شهود، كذلك عدد اللعنات
أو الحلف الذي ينطقه الزوجان لكي يثبتا صدقهما. واجتزأ الشارع من اليوم ثلاثة
أوقات مسموح فيها بدخول ملك اليمين ودخول الأطفال.
وتقول المعاجم إن فارض هي الضخمة، كما في قوله تعالى:{إِنَّهَا بَقَرَةٌ
لَّا
فَارِضٌ وَلَا
بِكْرٌ} ([20]) والمعنى معقول،
فمن شدة ضخامتها صارت كأنها مقسمة إلى أجزاء أي كل جهة فُرض لها فرض، على عكس
البكر الصغيرة التي تظهر ككتلة واحدة صغيرة. أو لعل المقصود التي تُحلب كل يوم
بفرض معين، أي بمقدار معين من اللترات.
أما الآية التالية فتحتاج إلى بيان وتركيز:
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ
لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ
هُوَ فِي ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ } ([21])
فهذا أولاً ليس كلام الله تعالى، بل كلام الكفار، يسخرون من
الرسول الذي نزل عليه القرآن فرضاً أي مقسماً في سور، فهذا في نظرهم ليس علامة
نبوة أو قوة، بل علامة ضعف فهذا الإله عاجز عن إنزال الكتاب دفعة واحدة.
وثانياً، هذا التشويش ليس مصدره عقول أهل بمكة فلا خبرة لهم
بالكتب المقدسة، بل تلقوه من رجال الدين اليهود، الذين لديهم مثل هذه الشبهات،
فهذا موسى نزل عليه الكتاب دفعة واحدة، كذلك عيسى، فلماذا لم ينزل على محمد دفعة
واحدة:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً
وَٰحِدَةً}([22])
والذي يؤكد هذا الكلام، أننا نجد في نفس السورة ذكرت هذه الشبهة
منذ بداية السورة في الآية {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا
أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ} ([23])
فهم يريدون المطابقة التامة، فكما نزلت الألواح على موسى، ونزل الكتاب دفعة
واحدة وليس مجزءًا (فرض) كذلك يجب أن يحدث مع محمد. وكلامهم يقصد كما ذكرنا
السخرية: فربك يا محمد عاجز عن أن ينزل كتاب كاملاً دفعة واحدة، فكيف سيردك إلى
معاد أي سيردك للحياة يوم القيامة؟!
ونلاحظ أن كلامهم هذا والقرآن لم ينزل كله، فقد نزل بعضه،
وكلامهم هذا قالوه قبل نزول هذه السورة وهي سورة مكية، فلم يكن قد اكتمل القرآن،
بل فرض له بعض السور من اللوح المحفوظ، لهذا استخدموا المفردة فرض وليس غيرها.
وقد فرض الله
للرسول نصيباً وقسماً من النساء، مثل غيره من الأنبياء السابقين {مَّا كَانَ عَلَى
النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ
لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
قَدَرًا مَّقْدُورًا } ([24]) فقد فرض الله أي قد قسم له نصيبه وهنا يتحدث عن نصيبه من النساء.
{ يَٰأَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا
أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَٰجَكَ الَّٰتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ
يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ
عَمَّٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ الَّٰتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ
وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ
النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَٰجِهِمْ
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَّحِيمًا}([25])
وفي الآية
المكرمة:
{ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}([26])
يبين المولى أنه قد فرض سابقاً، أي قد حدد مقدار تحلة الإيمان،
في سورة سابقة، وهي في سورة المائدة ذكر مقدار كفارة الحلف، وهو الفرض أي القسمة
التي تؤخذ من ماله وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، أو صيام
ثلاثة أيام.
{
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَٰنَ فَكَفَّٰرَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمَٰنَكُمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }([27])
والخلاصة أن الفرض لا يعني الواجب أو
التشريع، ولكن يعني القسمة المقدرة والنصيب، فأيام الحج هي فرض أي قسمة واجتزاء
أيام من شهور الحج، وما فرضه المولى في سورة النور أي ما قسمه وذكر عدده، وهو عدد
الجلدات وهي نصيب الزاني ونصيب الرامي للمحصنات. والمولى فرض القرآن على الرسول أي
جعله مقسماً إلى سور في أزمنة مختلفة وليس كتلة واحدة، وهكذا هي بقية الفرائض في
القرآن فهي مجرد قسمة واجتزاء.
القسم في القرآن المكرم
القسم لغة:
قسم أصلان صحيحان يدل أحدهما على جمال وحسن والآخر على
تجزئة الشيء، فالقسامُ هو الحسن. وفلان مقسم الوجه أي ذو جمال. والقسِمةُ هو الوجه
وهو أحسن ما في الإنسان.
أما الأصل الآخر فالقسم مصدر قسمت الشيء قسماً. والنصيب
قِسمٌ، واليمين قَسَمُ. وأصل ذلك عندهم من القسامةِ وهي الأيمان تُقسمُ على أولياء
المقتول إذا ادّعوا دم مقتولهم على ناسٍ اتهموهم به. وأمسى فلان متقسماً أي
مهموماً كأن الخواطر تقسمه.
والقسيم ما تصيب الإنسان من حظ ونصيب. وحصاة القسم هي
حصاة لتقسيم الماء بين الناس المسافرين. وقسمت الشيء جزأته. وتقسموا الشيء أي
قسموه بينهم. ([28])
والذي أرجحه أن القسم لها أصل واحد فقط وليس أصلين، كما
ظن ابن فارس، فمقسم الوجه الذي يعنون به جميل الوجه، هو من تقسيم الوجه على نحو
يظهر جماله ويسميها أهل الاختصاص «بالنسبة الذهبية» وقدروها بـ (1.618) فهي
ميزان تقسيم الوجه الذي يؤكد جماله.
القسم في القرآن:
في القرآن يكون معنى القسم هو التفتيت والتجزئة ظاهراً
مثل قوله تعالى:
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا
الْقُرْبَىٰ} ([29])
{وَأَن تَسْتَقْسِمُوا
بِالْأَزْلَٰمِ} ([30])
{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَٰبٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ
جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } ([31])
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ}([32])
{ فَالْمُقَسِّمَٰتِ أَمْرًا } ([33])
{ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ
ضِيزَىٰ}([34])
{ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ
بَيْنَهُمْ} ([35])
فمن الواضح أن القسمة والفرض يشتركان في شيء أو أن
أحدهما جزء من آخر. فما الفرق بينهما؟
من الواضح أن الفرض نوع من القسمة، فما هي خصوصية الفرض
التي تميزه عن بقية التقسيمات الأخرى؟
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا
الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا } ([36])
نجد في النص السابق أنه لم يقل إذا حضر الفرض، رغم أنه
يسميها في نفس السورة باسم الفرض والفريضة. ذلك لأن هؤلاء الفئة في هذا النص، ليس
لهم فرض ثابت وقانون، فلهذا قال ارزقوهم منها، ولم يقل افرضوا لهم فريضة.
فيختلف الفرض عن القسمة في أن الفرض يكون
بمقدار معلوم، ثابت ودائم؛ على عكس رحمة الله مثلاً أو المعيشة، كما في قوله
تعالى:
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} ([37])
فإنه ليس لها قانون ثابت، فلا يوجد قانون يقسم الرحمة
فيعطي مثلاً القبيلة الفلانية مزيداً من الرحمة على عكس قبيلة أخرى أو جماعة،
وإنما لها علاقة بالمشيئة الإلهية التي لها قوانين لحظية متكيفة مع حقائق الناس في
فترة معينة.
خذ على سبيل المثال هذا النص الكريم
{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَٰبٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ
جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } ([38])
فإن لكل باب قسمة، وذلك لسببين، لأنه أولاً لا يوجد
قانون يحكم هذه القسمة، فليس هناك قانون يقول إن الباب رقم واحد يحصل على ضعف
الباب رقم اثنين. ثم ثانياً لأن الأمر لا يتكرر فهو ليس قانون دائم، فمن سيدخل
الباب سيدخله لمرة واحدة، فلا يدخل بعدهم أحد.
على عكس الفرض فهو متكرر ودائم وقانون، فالذكر دائماً
يأخذ مثل حظ الانثيين، والأب يأخذ السدس والأم كذلك، والحج دائماً ثلاثة أيام من
شهور الحج، والجلد دائماً مئة جلدة.
القسم بمعنى الحلف:
وهناك نصوص كثيرة، تبين أن القسم يعني الحلف والإيمان، وأصله
هو التقسيم والتفتيت والدمار، فإن الشخص الذي يقسم بالله وغيره، أي يدعو على نفسه
بالتقسيم والدمار لو كان كذا أو كذا.
{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا
اعْتَدَيْنَا} ([39])
{ وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ} ([40])
{ وَقَاسَمَهُمَا
إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّٰصِحِينَ } ([41])
{ أَهَٰؤُلَاءِ
الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} ([42])
{ وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} ([43])
فإذا كان القاسم هو الله العظيم، فهو يعني دمار الشيء،
الآن أو في المستقبل، فإذا قال إنه لا يقسم بالشيء، فيقصد تأخير ذلك القسم
(التدمير) ليوم آخر وغالباً يتأخر القسم إلى يوم القيامة.
مثل هذه الآيات:
{ فَلَا أُقْسِمُ
بِمَوَٰقِعِ النُّجُومِ} ([44])
{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ
عَظِيمٌ} [45])
فالمولى يخبر قريش أنه لن يدمر مواقع النجوم التي في
السماء في وقتكم هذا، ولكن سيتم تدميرها أو تغييرها يوم القيامة.
وهكذا يستمر القسم أي التدمير أو التغيير الهائل، سواء
تم تقديم التدمير أو تركه ليوم القيامة، فسيتم تدمير ما يبصرونه وما لا يبصرونه،
كذلك سيتم تدمير يوم القيامة لتحل الساعة، كذلك سيتم التنكيل بالنفس اللوامة يوم
القيامة التي تلوم نفسها على ما فعلت بالدنيا، وكذلك الخنس وقد شرحناه، كذلك
بالشفق في السماء، كذلك سيدمر المولى مكة لحظة الساعة، أو يحدث فيها أمر هائل.
{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } ([46])
{ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَٰمَةِ } ([47])
{ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ } ([48])
{ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } ([49])
{ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ }([50])
{ هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ
لِّذِي حِجْرٍ } ([51])
{ لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } ([52])
وقالوا إن حرف الواو مع الشيء يعني قسم الله بذلك
الشيء، فإذا كان كلامهم صحيح، فهذا يعني أن الله يتوعد بتقسيم ذلك الشيء وتدميره،
أو أحادث أمر عظيم فيه، مثل: والشمس وضحاها، ومثل والليل إذا سجى، ومثل والفجر
وليال عشروغيرها، التي توعد الله بتدميرها أو إحداث أمر هائل فيها.
أما الآية الكريمة:
{ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَٰرِقِ
وَالْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ } ([53])
فهذا قسم مثل قسم البشر بالله، فهو قسم الملائكة بالخالق
التي لديها القدرة والقوة، التي أمدها المولى بها لكي تحدث التغيير بإذنه عز وعظم،
فهي تقول إنها قادرة على تغيير تبديل قريش بغيرها إذا أذن الله.
والخلاصة أن القسم والتقسيم، هو توزيع الشيء أو تفتيت الشيء أو تدميره،
وأنه يختلف عن الفرض في أنه عشوائي ولمرة واحدة على عكس الفرض الذي هو بقانون
ويتكرر.
الفصل في القرآن المكرم
الفصل لغة:
الفصل هو الحاجز بين شيئين. والفصل كل ملتقى
عظمين من الجسم. والفصلُ من الجسم هو موضع المفصل. والفصل الحق من القول. والفصل فطم المولود،
وفصل المولود عن الرضاع وافتصله إذا فطمه. والفصيل هو ولد الناقة. والفصل هو القطع
وإبانة أحد الشيئين عن الآخر. والفصل هو اقتطاع بعض من كل. وفصل بينهما يفصل
بالكسر. والفاصلة هي الخرزة التي تفصل بين الخرزتين. وفصل الوشاح أي جعل بين كل
لؤلؤتين مرجانة أو شذرة. والفيصل هو الحاكم. والمفصل هو اللسان والمفصل ما بين
الجبلين. ([54])
الفصل في القرآن:
الفصل والتفصيل في القرآن لا يعني الشرح كما يعتقدون
وليس له علاقة بهذا الأمر، وهو ليس التقسيم والتجزئة، وإنما هو عزل وإزاحة أشياء
كانت متجاورة متلاصقة في المكان أو الزمان، فتم فصلهم عن بعضهم.
الفصل المادي:
طالوت فصل بالجنود عن غيرهم من الشعب في مكان منعزل،
لكي يخطب فيهم { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} ([55]) كذلك عندما
فصلت العير عند وصولها إلى مقر يعقوب { وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ} ([56]) ويبقى الطفل في بطل أمه تسعة أشهر ثم يظل ملتصق بها
مدة، وقد جعمها القرآن بثلاثين شهراً.{وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ
ثَلَٰثُونَ شَهْرًا} ([57]) أو فصال الرضيع عن رضاع أمه إذا بلغ السنتين {وَفِصَٰلُهُ
فِي عَامَيْنِ} ([58])
وللفصل حكمة عجيبة ودراية غريبة، فالمولى فصل بين تلك
الآيات الكونية تفصيلاً خاصاً هو أدرى بحكمته وسره، وإنما نحن نتحسس قليلاً هذا
العلم.
{ وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ
فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً
لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَٰهُ تَفْصِيلًا } ([59])
تفصيل العقوبات:
وعندما نزلت المعجزات (العقوبات) على قوم فرعون نزلت
مفصلة، أي كل واحدة منفصلة في الزمان، فهي متتالية زمنياً، فكلما نزلت آية (عقاب)
طلبوا من موسى أن يزيل ذلك العقاب، فيزال، ثم يعودون إلى حالهم من الإجرام، فتأتي
آية آخرى(عقاب) فيعاودون الطلب من موسى أن يرفع عنهم العقاب وهكذا، فتلك العقوبات
كانت مجتمعة في السماء، ففصلت عن بعضها زمنياً، عندما نزلت إلى الأرض.
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ
وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَٰتٍ مُّفَصَّلَٰتٍ
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ } ([60])
تفصيل المحرمات:
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } ([61])
يؤكد المولى أن المحرمات محدودة وقد فُصلت في القرآن أي
ذكرت في عدة نصوص محدودة، منفصلة عن باقي نصوص القرآن الروحانية والإيمانية
والتاريخية، وبين أنها انفصلت عن بقية الآيات والتصنيفات، حتى تكون واضحة وصريحة،
فلا يأت شخص ويضيف من عنده محرمات جديدة وهذا ما كان يحاربه القرآن بشدة.
فصل الله:
والرسول يخبر الكفار أنه سيحدث انفصال بينه وبينهم،
لكنه ولم يحدد الزمن، فالحكم لله، وهذا ما حدث فعلاً، فقد انفصل الرسول عنهم، بأمر
الله.
{ قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي
وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا
لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَٰصِلِينَ
} ([62])
الفصل يوم القيامة:
ومن أسماء يوم القيامة ما بعد الساعة، يوم الفصل، فكل
إنسان يحشر مع أهل زمانه، ثم ينفصل عنهم فيذهب إلى أهل الشمال أو أهل اليمين،
وبهذا ينفصل عن جماعته إذا كان مخالفاً لهم.
والآيات في هذا كثيرة، ولكن سنذكر ما قد يفهم منه تصور
آخر، فمن تلك الآيات التي قد تبدو مبهمة:
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}([63])
فالمولى سيفصل بين الناس بناء على معتقداتهم. والذي
يعني أنه سيجتمعون مع أهل زمانهم ثم ينفصلون كلٌ حسب مذهبه.
وفي هذا النص الكريم يبين حدوث فصل ثم جمع {هَٰذَا
يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَٰكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} ([64]) فالإنسان ينفصل عن جماعته التي عاصرها وعاش معها،
لينظم إلى الجماعة التي انتمى لها عقائدياً، فيصبح في زمرته العقائدية فلهذا يجتمع
بالسابقين له واللاحقين، وينفصل عن أهل زمانه إذا كان يخالفهم في العقيدة.
{ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَٰدُكُمْ
يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ([65])
فيجتمع الأرحام والأولاد الأقارب يوم القيامة، لكن الله
سيفصل بينهم، ولا ينفعوا بعضهم البعض، فكل سيتجه في طريقه مع فئته الجديدة.
ويذكر القرآن جملة من المذاهب التي سيفصل الله بينها
يوم القيامة
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّٰبِءِينَ وَالنَّصَٰرَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ
اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ } ([66])
تفصيل الآيات:
في المصحف الشريف، تم وضع آيات عظيمة، فليس كل المصحف
آيات معجزة، وإنما فيها الكثير من الآيات، وقد فصلت عن بعضها البعض بطريقة عجيبة
وفريدة، لا نعلم سرها حالياً، ويحتاج الأمر إلى بحوث وبحوث حتى نكشفها، لهذا وجهنا
القرآن إلى ذلك وبينه لنا لكي نركز في هذا الأمر والنصوص في ذلك كثيرة
{ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ
الْءَايَٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }([67])
{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي
أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَٰبَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
} ([68])
{ وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا
الْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}([69])
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي
الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ
الْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ([70])
{ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا
الزَّكَوٰةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ
الْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ([71])
{ وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن
دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ
الْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَٰلَمِينَ} ([72])
{ الر كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ([73])
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي
الْأَلْبَٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ } ([74])
فصل الآيات الكونية:
والآيات الكونية مفصولة بعضها عن بعض، لكي يتدبر
الإنسان ويؤمن ويعرف، فأنت مثلاً، تشاهد آية النهار العجيبة، كيف تخرج الكائنات من
سكونها، وتبحث عن رزقها، على عكس آية الليل حيث السكون التام.
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ
نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ
الْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ([75])
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ
لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا
الْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ([76])
{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا
الْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } ([77])
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ
أَنزَلْنَٰهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ
النَّاسُ وَالْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا
وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَا أَتَىٰهَا
أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ
بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ([78])
{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ
عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ
الْءَايَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ
تُوقِنُونَ } ([79])
{ ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم
مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَٰكُمْ فَأَنتُمْ
فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ
الْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ([80])
فصل الخطاب:
وفصل الخطاب من الهبات التي وهبها الله لسليمان، فلعله
ما نسميه اليوم بالبلاغة والفصاحة والمنطق، فكان لديه قدرة على فصل الخطاب بعضه عن
بعض، بحيث تتضح المعاني عند السامع بجلاء.
{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَٰهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ
الْخِطَابِ } ([81])
قرآن عربي وأعجمي:
ومن ضمن تشغيبات الكفار، أنهم قالوا لو نزل هذا القرآن
بلغة أعجمية مثل لغة الفرس والروم لكان أكثر انتشاراً بدلاً من لغة العرب التي لا
يعرفها سواهم، فبين القرآن أنه لو نزل أعجمي، لطالبوا بأن يكون عربي وأعجمي،
فجدلهم لا ينتهي، كما يريدون أن يكون العربي مفصول عن الأعجمي أي صفحة أعجمية
مقابلها صفحة عربية مترجمة للأعجمية.
{ وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا
لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي
ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ
بَعِيدٍ} ([82])
كتاب موسى:
والتوراة نزلت مفصلة، فهناك المواعظ وهناك التشريعات
وهناك تراتيل، وهناك وصايا، وهكذا. أو أنها مفصلة عن بعضها بطريقة أخرى لم ندركها،
ولكن القرآن ذكر أنها مفصلة عن بعضها البعض بطريقة مدهشة ومفيدة.
{ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم
بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} ([83])
{وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٍ فَصَّلْنَٰهُ
عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ([84])
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ
مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ
قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَٰسِقِينَ}([85])
والخلاصة أنه يتضح لنا أن الفصل هو عزل الأشياء أو الأفراد الذين تجمعوا
بطريقة معينة، إذ أن تلك الأشياء والأفراد لهم خصائص ولهم الفرادة، فكل عنصر يختلف
عن الآخر في كينونته، ولكنه يتفق معه في صفة أو سمة معنية، سمحت باجتماعهم ثم
انفصالهم.
خلاصة البحث:
يختلف الفصل عن الفرض عن القسمة، في أن الفصل هو تقسيم لأجزاء
لها ذات مستقلة عن الأجزاء الأخرى، فعند فصل زيد عن عمر فنحن لا نقتسم، بل نفصل
بين زيد الذي هو له كينونته المستقلة عن عمر.
فالفصل ليس التوضيح أو الشرح كما يتصورون، وإن كان الفصل قد يؤدي
إلى الوضوح، فعند فصل الأشياء عن بعضها تتضح لك الصورة، فهو نتيجة من نتائج الفصل
وليس أصل الفصل، الذي هو عزل الأشياء عن بعضها.
وعلى عكس الفرض، فهو اجتزاز من كل متطابق، ففرض الورث هو اجتزاز
من كل ما تركه الميت، بينما الفصل فهو نزع ألف عن باء عن جيم من الأشياء، التي
جُمعت بجامع معين.
فمثلاً طلاب الثانوية هم تجمع لأفراد كلٌ له شخصيته وفرادته،
تجمعهم الدراسة والتلمذة، وهذا يحدث فيه الفصل، بينما كيس القمح فهو تجمع لكائنات
متطابقة وهذا يحدث فيه الاقتسام والفرض.
وتبين لنا الفرق بين القسمة والفرض، في أن الفرض هو قسمة، ولكن
خاصة، فهو منتظم ومتكرر وله قانون، على عكس القسمة التي هي فريدة ولا تتكرر وليس
لها قانون، فإن تكررت وصار لها قانون سميت فرضاً.
هذا والله
أعلم
علي موسى
الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك