البركة في القرآن المكرم
برك
لغة:
برك
أصل واحد يدل على ثبات الشيء. والبركُ هو وضع البعير وغيره صدره على الشيء يدك به
الشيء تحته، فيقال: حكه ودكه بِبَركه. والبِركةُ ما ولي الأرض من جلد البطن وما
يليه من الصدر من كل دابة، فهو الموضع الذي تبرك فيه. والبركُ هو الصدر.
يقول العرب: هذا أمر لا يَبرُكُ عليه إبلي. أي
لا أقربه ولا أقبله. وابتركوا في الحرب أي جثوا على الركب ثم اقتتلوا ابتراكاً.
وبرك فلان على الأمر وبارك أي واظب عليه. وابترك الفرس في عَدْوِهِ أي اجتهد. قال
الخليل: البركة من الزيادة والنماء. والتبريك أن تدعو بالبركة. وطعام بريك أي ذو
بركة. وبارك على محمد أي أدم عليه ما أعطيته من الكرامة. وقوله: بارك لنا في صاعنا
ومدنا. أي أجل المد والصاع يكفيان الناس في غير العادة من البلاد الأخرى. وقالوا:
بل يقصد زد علينا الأرزاق من كل مكان. وقيل، بل يقصد البركة الدينية أي ما يتعلق
بحقوق الله في الزكاة والكفارة. وبركات الأرض أي خياراتها وزينتها. وبدعوة إبراهيم
لمكة صار فيها بركة في طعامها ومائها ([1])
رأي
أهل التراث في البركة
يرى
ابن عاشور أن البركة في القرآن لأنه يدل على الخير العظيم. وقال: "فكأن
البركة جعلت في ألفاظه" ([2])
وهذا تفسير مبهم، فلم يفصح لنا عن ماهية البركة القرآنية
بالضبط. وهذا حال معظم المفسرين وأهل اللغة.
وترى
الباحثة وفاء الزعاقي أنه تبارك يقتضي ألا تحصل البركة إلا من طرف الله ﷻ وأن
البركة تحصل من ذكر اسمه فقط. "تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام"
ولعلها نقلته عن السابقين ([3])
وللزعاقي رأي قريب من الحق، فترى أن البركة تختلف عن
الزيادة بأنها مخفية ([4])
ويستحسن
أن ننقل هذا الجزء من كتاب ابن القيم الذي نقل معظم الآراء حول البركة ومعناها
وبين رأيه فيها:
«دال
على كمال بركته وعظمها وسعتها وهذا معنى قوله من قال من السلف: "تبارك
تعاظم" وقال آخر" معناه أن تجيء البركات من قبله فالبركة كلها منه"
وقال غيره: "كثر خيره وإحسانه إلى خلقه" وقيل: "اتسعت رأفته ورحمته
بهم" وقيل: "تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله" ومن هنا
قيل: "معناه تعالى وتعاظم" وقيل: "تبارك تقدس والقدس الطهارة"
وقيل: "تبارك أي باسمه يبارك في كل شيء" وقيل: "تبارك ارتفع
والمبارك المرتفع ذكره البغوي" وقيل: "تبارك أي البركة تكتسب وتنال
بذكره" وقال ابن عباس: "جاء بكل بركة" وقيل: "معناه ثبت ودام
بما لم يزل ولا يزال ذكره البغوي أيضا" وحقيقة اللفظة: أن البركة كثرة
الخير ودوامه ولا أحد أحق بذلك وصفا وفعلا منه تبارك وتعالى وتفسير السلف يدور على
هذين المعنيين وهما متلازمان لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل فإنه فعل
لازم مثل تعالى وتقدس وتعاظم ومثل هذه الألفاظ ليس معناها أنه جعل غيره عاليا ولا
قدوسا ولا عظيما هذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه وإنما معناها في نفس من نسبت إليه
فهو المتعالي المتقدس فكذلك تبارك لا يصح أن يكون معناها بارك في غيره وأين أحدهما
من الآخر لفظا ومعنى هذا لازم وهذا متعد فعلمت أن من فسر تبارك بمعنى ألقى البركة
وبارك في غيره لم يصب معناها وإن كان هذا من لوازم كونه متباركا فتبارك من باب مجد
والمجد كثرة صفات الجلال والسعة والفضل وبارك من باب أعطى وأنعم ولما كان المتعدي
في ذلك يستلزم اللازم من غير عكس فسر من فسر من السلف اللفظة بالمتعدي لينتظم
المعنيين فقال: مجيء البركة كلها من عنده أو البركة كلها من قبله وهذا فرع على
تبارك في نفسه وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب الفتح المكي وبينا هناك أن البركة
كلها له تعالى ومنه فهو المبارك ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك ولهذا كان كتابه
مباركا وبيته مباركا والأزمنة والأمكنة» ([5])
ويرى ابن القيم أن تبارك لا يعني الفعل فقط، بل يعني الصفة،
فالله تبارك مثل: تعالى وتقدس وتعاظم، فهي صفة فيه ﷻ ويرفض أن تبارك تعني ألقى
البركة فيقول: " فعلمت أن من فسر تبارك بمعنى ألقى البركة وبارك في غيره لم
يصب معناها " ([6]) وقد أخطأ ابن القيم، كما
سيتبين لنا هنا.
البركة في القرآن:
سنجد من خلال النصوص الواضحة أن البركة هي الاختزال لخيرات
كثيرة في مكون واحد، أو الضم لصفات كثيرة في شيء واحد. مثل اختزال الكلام أو
اختزال المادة. كما يمكننا أن نقول أن البركة هي الضغط مثل ضغط المواد الكيميائية
والتي تعني تكاثفت وتداخلت وتمازجت. فالبركة هي اكتناز واختزال وضغط لعناصر كثيرة
في شكل واحد أو مكون واحد، فلا يرى الناظر إلا ما ظهر منها من خير، ولا يدرك
المخفي منها. وبهذا نفهم معنى برك الجمل، أي قام بعملية ضغط شديد، ومنه أُخذ معنى
البركة، التي كما قلنا هي ضغط واختزال لمعاني متعددة في حيز واحد.
وبهذا ظن أهل التراث واللغويون أن البركة هي الزيادة، بينما
الحقيقة أنه لا يوجد زيادة فيها بل هو تفجير لما فيها من خيرات، فهي في حالة ضغط
واختزال لعناصر كثيرة في مكون واحد. وهذا من بديع صنعه سبحانه.
معنى البركة على:
إذا حلت البركة على شخص، فهذا لا يعني أنه صار مباركاً أي مليء
بالخيرات المكتنزة فيه، بل صار محظوظاً بأن البركة صارت من حوله أي صار هناك خير
كثير في متناول يديه.
وذلك مثل نوح وإبراهيم وغيرهما، فهذا نوح تصبح البركة من حوله
بعد أن أنزلها الله عليه وعلى أتباعه وحتى على الكفار ممن جاوروهم، فتلك البركة
نزلت في الأرض التي استقر فيها، ولم تنزل في ذاته وذات أتباعه.
{قِيلَ يَٰنُوحُ اهْبِطْ بِسَلَٰمٍ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن
مَّعَكَ} [هود: 48].
وحلت البركات على إبراهيم وأهله أيضا وابنه اسحق، مثلما حلت على
نوح، فإبراهيم لم يصبح مباركاً كما سنرى في موسى وعيسى، أو على الأقل لم تذكر
الآيات ذلك، فربما أصبح مباركاً، ولكن نرجح غير ذلك، لأنه كان ملكاً حاكماً لمنطقة
الحجاز، كما أصبح نوح هو الحاكم بعد القضاء على كثير من قومه، فكان لديه من القدرة
والسلطة والخير الكثير، ما يغنيه عن المعجزات التي في البركة، بعد أن أصبح حاكماً.
{ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ
حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } [هود: 73].
{ وَبَٰرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ
إِسْحَٰقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ
} [الصافات: 113].
معنى باركنا فيها:
ونلاحظ أنه عندما يتحدث عن الأراضي يذكر القرآن أنه بارك فيها
ولم يقل باركناها أو جعلناها مبروكة أو مباركة
{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشَٰرِقَ الْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا الَّتِي بَٰرَكْنَا
فِيهَا} [الأعراف: 137].
{ وَلِسُلَيْمَٰنَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى
الْأَرْضِ الَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا
بِكُلِّ شَيْءٍ عَٰلِمِينَ } [الأنبياء:
81].
{ وَنَجَّيْنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا لِلْعَٰلَمِينَ } [الأنبياء: 71].
{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَٰتَهَا فِي
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ }
[فصلت: 10].
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَٰهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا
السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ } [سبأ: 18].
وهذا يعني أن المولى جعل في هذه الأرض خيارات كثيرة مضغوطة
ومكنوزة، فلهذا ليست الأرض مباركة، فلو كانت الأرض مباركة لرأيتها تتسع وتكبر
مثلاً، ولكن ما فيها هو المبارك، أي جعل في جوفها بركات أي كنوز مضغوطة مخفية،
تظهر وتتفجر لاحقاً.
معنى بارك حوله:
قال المولى في هذا
الشأن
{ سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَٰتِنَا
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
[الإسراء: 1].
فهذا المسجد لا يمكن أن يكون مبارك، وإلا لذهب الناس إلى
المساجد ليبحثوا عن تلك البركة المكنوزة والمخفية، ولكن المسجد الذي ذهب إليه
الرسول، كان ما حوله به بركة، أي به خيرات مكنوزة مخفية مضغوطة. ولا ندري ما هي
البركة التي فيه، هل هي خصوبة الأرض أم كنوز عظيمة، لم تظهر بعد؟ ونحتاج أن نعرف
ما هو ذلك المسجد الأقصى لكي نعرف البركة التي كانت حوله. وأرجح أنه مسجد قباء.
معنى مباركة الشيء
ذكرنا بالأعلى معنى بارك على، فتبين أنه جعل للشيء أو الإنسان
بركة له وليست بركة منه. أما لو قال إن فلان أو الشيء صار مبارك فهذا يعني أنه صار
هو البركة وهو المفجر للخيرات المكتنز لها. فهذا موسى حلت البركة فيه فصار مبارك.
{ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ
مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَٰنَ اللَّهِ رَبِّ
الْعَٰلَمِينَ } [النمل: 8].
أي متروس ومضغوط بالخيرات والأشياء العجيبة، فتلك عصاه تتحول
إلى ثعبان وتضرب الجبل فينفجر بالمياه، ويضرب البحر فينقسم إلى نصفين، فكان موسى
مباركاً، مثله مثل عيسى.
{ فَلَمَّا أَتَىٰهَا نُودِيَ مِن شَٰطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ
فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَٰرَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ
أَن يَٰمُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَٰلَمِينَ } [القصص: 30].
وعيسى أخو موسى، صار مباركاً أي متروس بالخيرات، فكان يحيى
الموتى وكان يعالج الأمراض، وكان يكثر الطعام كما يزعمون.
{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ
مَا كُنتُ وَأَوْصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } [مريم: 31].
والكعبة متروسة بالخيرات فهي مباركة أي تصدر الخير المكتنز
والمضغوط. ولا ندري كيف ذلك فهو سر مخفي، ولكن قد يكون المقصد أنه بسبب قدوم
الحجاج والمعتمرين إلى مكة بحثاً عن الكعبة بيت الله، فصارت الكعبة مباركة، لأنها
هي التي تجلب هؤلاء وبما يحملونه من خير ورزق ومال.
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ
} [آل عمران: 96].
وهذا نوح يدعو أن ينزل في منزل مبارك، أي مكان متروس بالخيرات
والأرزاق، وقد تبين لنا بالأعلى أن الله أنزله منزل مبارك أي متروس بالخيرات
والأرزاق.
{ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا
وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ }
[المؤمنون: 29].
والقرآن مبارك أي متروس بالخيرات ومضغوط بها، وهذا واضح كل
الوضوح، فمن نص بسيط تستخرج منها قيم ومبادئ ومعاني وحقائق تاريخية وعلمية، وهذا
لا تجده في أي كتاب، فقد تجد ألوف الصفحات يشرحون آية واحدة أو سورة، مما يدلل على
أنه مضغوط بالخيرات الفكرية والعلمية.
{ وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ
مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ
حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْءَاخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ
صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [الأنعام:
92].
{ وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ
مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأنعام: 155].
{ وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَٰهُ
أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [الأنبياء:
50].
{ كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ
لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَٰبِ } [ص: 29].
والتحية التي من عند الله مباركة أي متروسة بالخيرات، فإذا كان
المقصود بها صيغة (السلام عليكم) فهي تشع السلام والوئام والمحبة بين الناس
والمجتمعات، لهذا حرص الشارع على فعلها.
{فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ
مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمُ الْءَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [النور: 61].
وليلة القدر التي نزل فيها القرآن هي ليلة متروسة ومضغوطة
بالخيرات، لهذا كانت تلك الليلة أفضل من ألف شهر. فما يفعله ألف شهر(قرابة 3000
يوم) من خير للناس، فعلته تلك الليلة وأكثر منه.
{ إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَٰرَكَةٍ
إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ }
[الدخان: 3].
{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ
أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر: 3].
والزيتونة المباركة، مكنوزة بالطاقة والقدرة الاشعاعية لهذا شبه
نور الله أي هدايته للبشر، بنور زيت الزيتون.
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكَوٰةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَٰرَكَةٍ
زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ
وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن
يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَٰلَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ } [النور: 35].
وعندما يهطل المطر، فإن بعضه مبارك مكنوز ومضغوط بالخيرات، وهذا
من العجائب والغرائب فسبحان الله في خلقه.
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَٰرَكًا
فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } [ق: 9].
تبارك الله:
وردت لفظة (تبارك) في عدة آيات عظيمات، وكلها كانت في الله
العظيم، وبهذا يتبين لنا أن تبارك فعل وليس اسم، فالله تبارك أي صنع البركة، ثم
وضعها على شيء من مخلوقاته، على موقع جغرافي أو مخلوق مثل الإنسان أو شجر، أو كتاب
من كتبه أو زمن من الأزمنة. فإذا وضع البركة على تلك المخلوقات صارت مباركة، فالله
تبارك، أي بارك مخلوقاته فصارت مباركة.
{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ
الطَّيِّبَٰتِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ
رَبُّ الْعَٰلَمِينَ } [غافر: 64].
{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَٰلَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان: 1].
{ تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ
جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ
وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا } [الفرقان:
10].
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي
السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَٰجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا } [الفرقان: 61].
{ تَبَٰرَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَٰلِ وَالْإِكْرَامِ }
[الرحمن: 78].
{ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الزخرف: 85].
{ تَبَٰرَكَ الَّذِي بِيَدِهِ
الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
[الملك: 1].
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي
الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَٰلَمِينَ } [الأعراف: 54].
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا
الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَٰمَ
لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ
أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ } [المؤمنون: 14].
ونلاحظ من خلال الآيات السابقة، أنه لكي تصنع البركة، فأنت
محتاج أن يكون لك الملك ولك الخلق ولك الأمر ولك الإجلال ولك الإكرام، كما ذكرت
الآيات السابقات، وهي لا توجد إلا في الله القدير، فلا يوجد كائن قادر على صنع
البركة إلا الله، لهذا فهو تبارك أي صنع البركة وتبارك مثل تعالى، والتعالي هو فعلٌ،
أي ارتفع عن الدنايا.
ملاحظة أخيرة:
قبل أن ننهي كلامنا يجب أن نوضح أن التبرك بالناس أو القبور هو
محض خرافة وبلاهة، فقد بينا أن البركة هي الخير المضغوط من خيرات الدنيا، ولا
علاقة لها بالتوقير والتبجيل والتأليه، فلا يوجد أحدٌ مبارك أي مبجل معظم، ولكن
يوجد أشياء حلت بها البركة، أي صار فيها خيرات فقط، ولم يذكر القرآن أحدً مبارك
إلا موسى وعيسى، وهذا نظراً للظرف التاريخي والاجتماعي الصعب، فكانت لديهما خيرات
وقدرات كبيرة، ولم يكن لديهما ما يدعو لتبجيلهما أو تأليههما، أما بقية البشر فلا
مباركية فيهم، وقد تكون الأرض مباركة أي مجرد مليئة بالخيرات، وليست أرض مبجلة مألهة.
ولا نعلم حالياً، مكان مبارك إلا الكعبة ويقصد بها أنها متروسة بالخيرات
وليس غير ذلك.
الخلاصة:
أن البركة هي ضغط وكبس واكتناز الخيرات في شيء واحد، بطريقة
عجيبة معجزة، وهي خاصة بالله وحده دون سواه، ومن يحصل عليها من خلق الله، يصبح مباركاً
أي يصبح مصدر بعض الخيرات ومنبعها، فإذا أراد الله بقومٍ خيراً أنزل عليهم البركة،
أي أحاطهم بها، أو فجرها من الأرض، أو أرسل شخصاً مباركاً عنده بعض الخيرات، فهم
على البركة، أي البركة حولهم، وهم ليسوا مباركين، أي يستفيدون من البركة وليسوا
مصدرها.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
([3]) «بدائع الفوائد - ط الكتاب العربي» (2/
186): «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية
(الجزء الأول)» (ص754):
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك