النسب والصهر في القرآن المكرم
النسب لغة :
يرى ابن فارس أنها كلمة واحدة قياسها اتصال شيء بشيء. والنسيب الذي
تراه كالطريق من النمل والطريق المستدق كطريق النمل والحية. والنيسبان هو الطريق
الواضح. وأنسبت الريح أي اشتدت واستاقت التراب والحصا.
وتنسب أي أدعى أنه نسيبك.
وانتسب إلى أبيه أي اعتزى، ورجل نسابة أي عليم بالأنساب، وفلان يناسب فلان أي
قريبه ويرى ابن السكيت أن النسبة تكون من قبل الأم والأب. وعندما تذكر نسب فلان
فقد تذكر اسم الأب، أو القبيلة، أو البلد، أو الصنعة ([1]) ومن
ضمن شرحهم للآية الكريمة (وجعلوا بنيه وبين الجنة نسباً) أنه صاهر سروات الجن. ومن
معانيه تزوج وصاهر ([2])
صهر لغة
صهر له أصلان، أحدهما يعني الإذابة، والآخر يعني الختن، فأهل بيت
الرجل أختان وأهل بيت المرأة أصهار، على رأي الخليل. وهناك من خالفه ورأى أن كلا
البيتين أصهار. وختن الرجل أي صهره، والمتزوج فيهم أي أصهار الختن. وهناك من يرى
أن الأصهار هم الأختان والأحماء.
واصطهر الحرباء واصهار أي تلألأ ظهره من شدة حر الشمس. وصهرته الشمس
أي اشتد وقعها عليه. وما بالبعير صهارة أي نقي وهو مخ قصب العظام. وصهر رأسه أي
دهنه بالصهارة. وصهرت الشيء أي خلطته. وصهره وأصهره أي قربه وأدناه ([3])
النسب والصهر في القرآن:
ورد هذان الجذران (نسب-صهر) في أربع آيات:
1. { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ
} [الحج: 20].
2. { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا
} [الفرقان: 54].
4. {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا
وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158].
تفسير آية فجعله نسباً وصهراً:
ورد خلق الإنسان في النصوص التالية:
ﵟوَهُوَ ٱلَّذِي
مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞ وَجَعَلَ
بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٗا وَحِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا ٥٣ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلۡمَآءِ بَشَرٗا فَجَعَلَهُۥ
نَسَبٗا وَصِهۡرٗاۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرٗا ﵞ [الفرقان: 53-54]
ﵟفَلۡيَنظُرِ
ٱلۡإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ ٥ خُلِقَ مِن مَّآءٖ دَافِقٖ ٦
يَخۡرُجُ مِنۢ بَيۡنِ ٱلصُّلۡبِ وَٱلتَّرَآئِبِ ٧ إِنَّهُۥ عَلَىٰ رَجۡعِهِۦ
لَقَادِرٞﵞ [الطارق: 5-8]
فإذا كان الماء المقصود به هو ما يقذفه الرجل من ماء ([4]) يخصب به الأنثى، فلن نستطيع فهم معنى نسب وصهر
في الآية. أما لو كان المعنى أن البشر بداية خلقهم الأول في عالم الذر كانوا
يخلقون من الماء مباشرة كما تشي الآيتان التاليتان:
{وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17].
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172].
فهذا يعني أن خلقنا الأول كان إنباتاً بواسطة الماء مباشرة، ثم بعد
ذلك حول خلقنا بالجعل، فصار يخلقنا بالنسب والمصاهرة! ويسميه ماء ويسميه ماء دافق يخرج
من خلال الصخور والأتربة.
وبهذا يتضح المعنى أي أننا صرنا نُخلق من جديد بواسطة النسب أي جد
فأب فابن فذرية فهذا هو النسب الذي يمتد إلى نسب القبيلة، أي الجد الأول القديم، وهذا
يعني أن النسب هو سلسلة الذكور الممتدة.
كذلك جعله صهراً أي هو سلسلة الإناث أو الأمهات فيتم الصهر في
أرحامهن، فتصهر سوائل الذكور مع سوائل الإناث وتذوب وتختلط في الأرحام، فتتكون العلقة
والمضغة.
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ
خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ} [المؤمنون: 14].
فخلقنا الأول كان انباتاً بالماء مباشرة، ثم صار خلقنا الثاني بالنسب
والصهر، أي بمشاركة الذكر الذي هو الأب الذي يأتي منه النسب. كذلك هو بمشاركة
الأنثى الذي يأتي منها الصهر، فهي تصهر في رحمها أي تذيب وتخلط سائل الأب مع سائلها
فيندمجان لينتج الكائن البشري الجديد.
هذا الخلق الثاني وطريقة انتاج الإنسان بالتوالد سيزول يوم القيامة،
فيعود الإنسان يُخلق الخلق الثالث والأخير، لوحده من جديد مثلما خلق أول مرة، لهذا
قال النص المكرم إن الأنساب تنقطع، بل تنعدم فلا أنساب بينهم أي لا أب ولا ابن في
ذلك الزمان، بل يقول إنهم لا يتساءلون عن هذا الأمر، فهم يخرجون من قبورهم لوحدهم،
كذلك لأنهم فقدوا الذاكرة تماماً، فلا يعرفون أنهم كانوا مخلوقين سابقاً بطريقة
النسب والصهر، أي التوالد.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون: 101].
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94].
{ وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ
جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ
لَكُم مَّوْعِدًا} [الكهف: 48].
والآيات السابقات ترد على الكفار الذين تعجبوا من إعادة الخلق فمن
المؤكد أنهم تساءلوا هل سيولدون من جديد بأب وأم ثم يستمر التناسل والذي أخذ وقتاً
يستغرق آلاف السنين، حتى يولد كل الأموات؟ فكان الجواب أنهم لن يولدوا من جديد، بل
سيخلقون كما خلقوا في الخلق الأول إنباتاً بلا أب ولا أم.
ولأن البشرية بعقلية محدودة وضعيفة، فقد ظنت أن المولى الرب العظيم
له صفات مثل صفاتنا، فهو يتكاثر ويلد ويولد، وأنه هو أب الجنة ([5]) أي
سراة الجن، وبعضهم كانوا يظنون أن الملائكة بنات الله أي علاقته بهم علاقة نسب.
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158].
{
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَٰتِ سُبْحَٰنَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } [النحل: 57].
الخلاصة:
من خلال النصوص يتبين لنا أن النسب يأتي من الذكر، فإليه تُنسب
الذرية، ومن الأم يأتي الصهر، أي هي تصهر في رحمها مكونات الذكر مع مكوناتها،
ليأتي المخلوق الجديد. وفي هذا يبين القرآن أنه آية ومعجزة عجيبة، فقد كان الخلق
الأول يتم انباتنا مباشرة بلا وسطاء، ثم في خلقنا الثاني صرنا نخلق بالوسطاء وهم
الأب الذي منه النسب، والأم التي منها الصهر والتذويب. وأننا في الآخرة سنعود من
جديد نُخلق بلا نسب ولا صهر، بل مباشرة كما خلقنا أول مرة.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
([1])
«مقاييس اللغة» (5/ 423): «الصحاح تاج
اللغة وصحاح العربية» (1/ 224): «تاج
العروس من جواهر القاموس» (4/ 261): «المعجم
الاشتقاقي المؤصل» (4/ 2189):
([3])
«مقاييس اللغة» (3/ 315): «تاج العروس من
جواهر القاموس» (12/ 367): «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (3/ 1264)
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك