القرية في القرآن المكرم
قري لغة:
قري أصل صحيح يدل على جمع واجتماع.
فالقرية سميت بذلك لاجتماع الناس فيها. وقريت الماء أي جمعته. والمِقراةُ هي
الجفنة سميت بذلك لاجتماع الضيف عليها. أو لما جمع فيها من طعام. والقرو حوض ترده
الإبل. والقروُ كل شيء على طريقة واحدة. يقال رأيت القوم على قرو واحدٍ. وقروت
وقريت أي سلكت. والقَرَى هو الظّهرُ. وناقة قرواء أي شديدة الظهر.
وسمي القرآن بهذا الاسم لأنه يجمع
الأحكام والقصص وغيرها، وأقرأت المرأة أي جمعت دمها في جوفها فلم ترخهِ. وقالوا،
بل خروجها من طهر إلى حيض أو العكس. والقرءُ هو وقت، يكون للطهر مرة وللحيض مرة.
وهبت الرياح لقارئها أي لوقتها. والقارئة هي الشاهد، يقولون الناس قواري الله
تعالى في الأرض أي الشهود. والقِرةُ المال. والقِرةُ العيال. والقرية هي المصر
الجامع. وقرية النمل مجتمع ترابها ([1])
القرية في القرآن
إذا كان القرو هو الاستقرار والتجمع كما
تقول المعاجم، فيبدو أن القرية في القرآن قد جاءت بهذا المعنى، والواضح أن المقصد
هو ما نسميه اليوم بالدولة، فهو كان سياسي يقوم على جغرافيا واسعة، تشمل مدينة
كبيرة وضواحيها وملحقاتها وقد تشمل عدة مدن، فإذا كانت كبيرة جداً سميت خلافة.
وفي الآيتين المكرمتين
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا
قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِ هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259].
{ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا
وَ هِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَ بِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ
مَّشِيدٍ } [الحج: 45].
ذكرت الآيتان العرش والقصر، ولا يُذكر
العرش دائماً إلا ليدل على عظمة صاحبه، كالملوك والمولى العظيم سبحانه. فهذا رجل
لم يمر على ريف يتكون من بضع بيوتات هنا وهناك، بل مر على مدينة متهدمة كانت عاصمة
لقرية أي دولة، فقد شاهد هذا الرجل الصالح، رمز الدولة
قد تهدم وهو العرش، مما يعني زوال ملك تلك الجماعة البائدة، فتعجب، فأماته الله
مئة عام. كذلك الآية الأخرى تتحدث عن قصر في القرية، ولا يوجد قصور في الأرياف
لقلة المال عند سكانها.
وفي الآية التالية يحث القرآن الذين آمنوا من ضعاف النفوس على المشاركة مع المؤمنين في
الجهاد ضد الدول الظالمة التي تمنع شعبها من الدخول في الدين الجديد، فأمرهم
بالقتال ضد تلك الدول للدفاع عن المستضعفين، فلو كانت القرية هي الأرياف الصغيرة،
لما احتاج القرآن حث هذه الفئة الكسولة، فقليل من المؤمنين يكفي لردع تلك القرى،
لكن القرى هنا يقصد بها الدول القوية التي تضطهد مواطنيها.
{ وَ مَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ
اجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَ اجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا
} [النساء: 75].
وأخوة يوسف عندما تخلصوا من يوسف وشك
فيهم أبوهم، اقترحوا أن يسأل القرية عن يوسف، هل كان معهم، فلو كانت القرية هي
الريف لما جاءه الجواب، لأن الريف لا يكترث لمثل هذه الأمور، بينما الدولة ففيها
نظام ضبطي شُرطي، يحصي الداخل والخارج، فسوف تخبر الشرطة يعقوب، أن هناك عدداً معيناً
دخل القرية أي الدولة ثم نقص منهم واحد. كذلك العير التي استأجروها للتنقل ستخبره أن
من خرج من القرية كان كذا وكذا وينقصهم يوسف.
{ وَ سْءَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا
فِيهَا وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَ إِنَّا لَصَٰدِقُونَ } [يوسف: 82].
ولو كانت القرية هي الريف كما نظن
حالياً، لوجدت في كل قرية كتاب مقدس كما قال المولى، ولكن النص يتحدث عن الدول
العظيمة، فبعد نزول كتابها ورفضهم له، يأتيهم الدمار في عاصمتهم. ولو أن القرى
يعني الأرياف، لما وجدت ريفاً واحداً قائماً، بل كله قد تهدم. بينما نجد بعض
الأرياف لها آلاف السنين.
{ وَ مَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا
وَ لَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [الحجر:
4].
ولو أن القرية تعني الريف لما وجدت فيها
المترفين، لضعف اقتصادها، فلا تستطيع الوصول إلى هذا المستوى من الغنى، ولكن
القرية هي الدولة العظيمة.
{ وَ إِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا
تَدْمِيرًا } [الإسراء: 16].
ولو كانت القرية هي الريف، لما قال النص
التالي أنه سيستبدل القرية بقومٍ آخرين، فالنص يقول إنه سيتبدل تلك الدولة القوية
التي يديرها قومٌ من الأقوام بقومٍ آخرين
{ وَ كَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ
ظَالِمَةً وَ أَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ } [الأنبياء: 11].
ولو كانت القرية هي الريف فكيف يقول
القرآن (لا يرجعون) وإنما يقصد القرآن أن القرية هي الدولة التي تنهار، ويقتل
كبرائها، ويهرب عامتها، فهؤلاء لا يستطيعون العودة لإعادة إنشاء الدولة من جديد في
نفس المكان.
{ وَ حَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا
أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } [الأنبياء:
95].
وقد طلب الكفار أن يظهر نبي من القريتين،
وقد فسرنا في مقال سابق، أن القريتين هما الفرس والروم، أي دولتين عظيمتين، وحتى
لو سلمنا بأن المقصود مكة والطائف، فهما ليستا ريفين، بل دولتان قويتان، لكن
الصحيح أنهم طلبوا نبي من الروم أو الفرس، لأن أثره سيكون هناك أقوى من أثر الرسول
في مكة.
{ وَ قَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
وملكة سبأ عندما تحدثت عن خطر سليمان على
مملكتها استخدمت مفردة قرية ولم تقل مدينة أو بلدة، مما يؤكد على أن قرية يعني
دولة.
{ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوهَا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } [النمل: 34].
وعندما تفرق أهل سبأ بعد سيل العرم، بين
المولى أنهم توزعوا في الأرض، فمروا على قرى ظاهرة أي دول ظاهرة، أي دول قوية
متمكنة {يَٰقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَٰهِرِينَ
فِي الْأَرْضِ} ([2]) تبسط الأمن والسلام لمن يسافر من خلالها، فالمولى مهد الأمن لهؤلاء
حتى يصلوا إلى القرى المباركة وشرحنا معنى مباركة وبينا أنها المترسة بالخيرات
المخفية.
{ وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى
الَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَٰهِرَةً وَ قَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا
فِيهَا لَيَالِيَ وَ أَيَّامًا ءَامِنِينَ }
[سبأ: 18].
وقد بعث الله الرسول للعالمين، لهذا أخبر
أنه يجب عليه أن ينذر أم القرى أي معظم القرى أي
معظم الدول وما حولها، والتاريخ يقول لنا أنه أرسل رسائل تحذيرية كثيرة للملوك. وهذا
تؤكده نصوص كثيرة {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}([3]) بل أكدته السورة نفسها بآية
قبلها ﵟإِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ
لِلۡعَٰلَمِينَﵞ([4])
ﵟوَلِتُنذِرَ
أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚﵞ [الأنعام: 92]
وشعيب لم يكن يسكن الريف، بل كان يسكن في
مدينة مدين، فلما هدده قومه، لم يقولوا نخرجك من مدينتنا، بل قالوا نخرجك من القرية
أي الدولة كلها. وسوف نكتفي بهذا القدر من الآيات المكرمات
{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ
يَٰشُعَيْبُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَٰرِهِينَ } [الأعراف: 88].
الخلاصة:
إن القرية مصطلح معروف في زمن الرسول،
ويعني الدولة بما تحويه من مدن وأرياف، لها نظام حكم واحد، ويترأسها ملكِ أو نخبة.
والقرية تختلف عن المدينة التي هي العاصمة لهذه القرية، وتختلف عن البلدة التي هي
مجرد مناطق زراعية غنية بالمياه والأمطار. وتختلف عن الأرض التي هي المنطقة
الجغرافية التي تقام عليها القرية أي الدولة.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك