الركض في القرآن المكرم

 



الركض في القرآن المكرم

الركض لغة:

ركض أصل واحد يدل على حركة إلى قُدُمٍ أو تحريك. وركض الرجل دابته بضربها برجليه لكي تتقدم، فصار يقال ركض الفرس، لكثرة الاستعمال. وارتكاض الصبي اضطرابه في بطن أمه. ودم الاستحاضة هو ركضة من الشيطان. والركض هو مشية الرجل بالرجلين معاً. وفسر الصاغاني (اركض برجلك) أي أضرب بها الأرض ودسها بها. وأصل الركض هو الضرب بالرجل والإصابة بها. والركض الدفع. والركض الهرب وركض الرجل أي فر وعدا. والركض العدو والإحضار. وركضت الخيل ضربت الأرض بحوافرها ([1])

الركض في القرآن

لم يرد الركض إلا ثلاث مرات مرة مع النبي أيوب ومرتين مع كفار وقع عليهم العذاب

{فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء : 12]

{لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا} [الأنبياء : 13]

{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ  هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص : 42]

لنبدأ بقصة أيوب، فالتراث يروي قصة أيوب وهي أن الله أمره بأن يركض برجله ولم تبين القصة معنى الركض، فلما ركض، نبع الماء من عين فعاد شبابه وزاد جماله، ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء ([2]) ولكن هذه القصة معيبة، والحقيقة من خلال النص أن الماء موجود من قبل أن يركض أيوب، ولم يكن عينان، بل ماء واحد وقد ركض إليه أيوب مسرعاً.

 ومن خلال الرواية يتضح أن الراوي يرى أن الركض كان يعني ضرب الأرض بالقدم حتى انفجرت منها العيون. ثم ضربها ثانية فانفجرت عين أخرى.

ومن خلال آية أيوب يتضح أن هناك ركض بالرجل كما فعل أيوب وركض بغير رجلٍ وإلا لما حدد ذلك مع أيوب، فمع الكفار جعل الركض عاماً غير مخصص، ومن المحتمل أن الركض في الغالب يكون بالخيل، لهذا لم يبين حال أولئك الكفار فهو بائن، أو ربما لأن ركضهم قد تنوع بين ركض بالرجل وركض بالخيل وركض بغيره.

ويفسر الطبري مقصد الآية فيرى بأن القول لا تركضوا يعني لا تهربوا ([3]) وقال أبو عوسجة أن اركض برجلك تعني اضرب بها الأرض ([4]) ويرى ابن فورك أن الركض هو دفع الرِجل من أجل الإسراع ([5])

ولم تحدد السورة الأخرى من هؤلاء القوم، وكيف كان عذابهم، والغالب أن الذي حدث لهم هو ثوران بركان أو زلزال أو طوفان. وفي المرويات أن سبب ركضهم هو هربهم من بختنصر الذي غزاهم ([6])

وقد ذكر القرآن حركة مشابهة للركض، وهي السرعة ومعظمها جاء للحديث عن السرعة المعنوية، إلا في موضع سرعة البشر نحو المحشر خشية من كوارث يوم القيامة. وسنجد أيضاً جذر الجري وهذا الجذر سيتبين لنا لاحقاً، أنه لا يصح استخدامه مع البشر

{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ}  [المعارج: 43].

 وأرجح أن الفرق بين الركض والسرعة يكون في مقدار السرعة، فالركض أعلى من السرعة، لأن البشر يوم القيامة لا يستطيعون الركض لشدة الازدحام، أو وعورة الأرض، ولكن يستطيعون السير السريع الخطوات.

وهذا ما حدث مع الكفار، فإنهم لقرب العذاب منهم -مهما يكن هذا العذاب- قد ركضوا وقد اختار القرآن هذا الجذر لأن ما فعلوه كان ركضاً وليس مشياً، أو سعياً، أو إسراعاً، أو جرياً. ولم يذكر النص أنه هربٌ، بل كررها وذكر أنه ركضٌ، وطلب منهم الرجوع وهو من باب السخرية بهؤلاء المترفين الظالمين.

الرأي الذي اعتقده:

لو بحثنا في الكلمات القريبة من ركض من ناحية الحروف سنجد ركع وركب وركم، وكلها يجمعها أصل واحد وهو الرك والرك هو التجمع. ونلاحظ أنه عند الركض ينحني الشخص للأمام قليلاً كأنه يتجمع على نفسه، وذلك حتى يسهل عليه الاسراع، فإذا زاد من انحنائه تحول إلى ركع (ركوع)، وهذا تجمع أكبر لكنه لا يؤدي إلى حركة.

فتحول معنى الركض بعد ذلك ليشير إلى السرعة في الحركة، ويحدث هذا الركض عندما يركب الإنسان الخيل، فيحث الخيل على السرعة بتلك الانحناءة، كذلك يحث جسمه على الحركة عند انحناءة جسمه، لكي تسرع رجله في حركتها.  

وعندما أمر المولى أيوب بالركض برجله، فذلك لأن فيه بداية الشفاء، ولم يأمره بضرب الأرض بقدمه، فهو غير مجبر على هذا الشقاء، وهناك أدوات لضرب الأرض واستخراج الماء منها، فكان يمكنه أن يستخدم فأساً أو معولاً.

لكن الآية وجهت أيوب إلى الركض برجله كنوع من الاستشفاء بداية ثم يليه التوجه نحو العين التي فيها مغتسل بارد وشراب، ولا ندري ما سر ذلك العلاج، لكنه من المؤكد أنه طبيعي ينجح مع أي شخص مصاب بداء أيوب. ويبدو أن العلاج واضح فأمره المولى أن يركض وبهذا يسخن جسمه، ثم يفاجأ جسمه بأن يغتسل بماء بارد ويشرب منه، فتصيبه البرودة من الخارج والداخل، وبهذا تحدث صدمة للجسم فيشفى من مرضه.

ولهذا أمره بالركض برجله وليس بخيله، أي أن يركض حافياً، حتى تصاب القدم ببعض الوخز والذي يساهم في العلاج، فعلاجه من الطبيعة وليس أمراً خارقاً. وقد وجهه المولى إلى ذلك العلاج، وعلى الأطباء العارفين تأكيد هذا الكلام أو نفيه فهم أعلم بهذا الخصوص، لكن يجب علينا معرفة ذلك المرض الذي أصاب أيوب.

أما الكفار فقد ركضوا بخيلهم كما يبدو فهم أغنياء مترفون، وسرعة الخيل أضعاف سرعة الإنسان. والركض بالرجل في هذا الموقف يعتبر حمقاً وغفلة. ولم يذكر طريقة ركضهم لأنه كما يبدو أن الركض المتعارف عليه عند القوم زمن الرسول، يعني ركوب الخيل والانطلاق بها سريعاً.

وبقي السؤال لماذا لم يقل النص أركض بقدمك بدلاً من رجلك، وهذا يحتاج إلى مقال آخر للتفريق بين القدم والرجل.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني



([1]) العين (5/ 301) مقاييس اللغة (2/ 434) تاج العروس (18/ 355) معجم الصواب اللغوي (1/ 409)

([2]) «موسوعة التفسير المأثور» (14/ 614)

([3]) «تفسير الطبري» (18/ 417 ط التربية والتراث)  ونسب هذا الرأي إلى مجاهد.

([4])  «تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة» (8/ 635)

([5]) «تفسير ابن فورك» (2/ 290 بترقيم الشاملة آليا)

([6]) «التفسير البسيط» (15/ 28)


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -