الانقلاب والتقلب في القرآن المكرم
قلب لغة:
أصلان أحدهما يدل على خالص شيء وشريفه،
والآخر يدل رد شيء من جهة إلى جهة. فقلب الإنسان هو أخلص شيء وأرفعه عنده. وقلب كل
شيء خالصه. والقُلاب داء يصيب البعير فيشتكي قلبه. والقلب من الأسورة. والقلب نجم
يقولون إنه قلب العقرب. وقلبتُ النخلة أي نزعت قلبها.
والأصل الآخر هو قلب الثوب قلبا. والقلبُ
هو انقلاب الشفة. وقلبت الشيء أي كببته. وقلبته بيدي تقليباً. وأقلبتِ الخبزةُ إذا
حان لها أن تُقلب. وما به قلبهٌ أي ليست به علة. والقليبُ هو الذئب. والقليب: البئر
لم تُطْوَ. والمقِلب هو المنجل لأنه تقلب به الأرض ([1])
الانقلاب في القرآن:
الانقلاب في القرآن المكرم هو التحول من نقطة
إلى أخرى دون المكوث أو اللبث، فهو مجرد وصول إلى نقطة معينة ثم التحول عنها إلى
نفس النقطة القديمة أو نقطة أخرى. وبهذا سنجد أن الانقلاب يختلف عن الرجوع،
فالرجوع يعني المكوث في النقطة الجديدة فترة من الزمن، كما يعني أنه يعود إلى نفس
النقطة السابقة التي جاء منها. أما الانقلاب فهو بلا مكث ولا يشترط العودة إلى نفس
النقطة السابقة.
ويجب أن ننوه أن هناك انقلاب حسي يتمثل
في انتقال من نقطة جغرافية إلى أخرى، وهناك انقلاب معنوي يتمثل في عدم الثبات على
فكر معين، وخاصة الإيمان بالرسول والدين. فالانقلاب الفكري يشير إلى ذلك الشخص لم
يستمر في إيمانه فترة ولو قصيرة، بل سرعان ما انتكس وعاد إلى معتقده القديم، أو
حتى أي معتقد آخر.
التقلب في القرآن:
الفرق بين التقلب والانقلاب أن الانقلاب
انتقال من نقطة إلى أخرى مرة واحدة، بينما التقلب فهو عدة انتقالات، وله أغراض
كثيرة، وإن كان القرآن قصد تقلب الكفار في البلاد أي تنقلهم عدة مرات من أجل فرض
السيطرة والهيمنة ومن أجل تأكيدها، فسراياهم في كل مكان لترهب الأعداء والخصوم. وهناك
تقلُب ذكر مرة واحدة هو تقلب الرسول عليه السلام في الساجدين وسوف نشرحه في حينه.
ولنبدأ في شرح الآيات
ففي الآية المكرمة:
{ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ
الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً
إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
[البقرة: 143].
ففي هذه الآية يتبين بكل وضوح أن النص
موجه إلى فئة المؤمنين من أهل المدينة، ممن دخلوا في الإيمان قبل قليل ولم يستقروا
فيه بعد، والآية تتحدث عن اليهود الذين يصلون تجاه بيت المقدس، فآمنوا بالرسول
واستمروا في قبلتهم ولم يفرض عليهم الرسول قبلة جديدة، بل كان يصلي تجاه قبلتهم،
لأنه لم يجد أي مانع عقلي أو أخلاقي.
لهذا استخدم الفعل (مِمَّن يَنقَلِبُ) لأنه يتحدث عن هؤلاء المؤمنين الجدد،
الذين لم يمض على تحولهم من اليهودية للإسلام إلا فترة وجيزة. ولو كان النص موجه
إلى مؤمني مكة لاستخدم الفعل رجع، لأن المهاجرين استقروا ومكثوا 13 سنة في
الإيمان.
والآيات التاليات على درب الآية السابقة
تؤكد انقلاباً في الإيمان، والذي وجه إلى من آمنوا قبل قليل ولم يمكثوا في الإيمان
كما المهاجرين.
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِين مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ
عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ
شَيْءًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ }
[آل عمران: 144].
{ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا
الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ فَتَنقَلِبُوا
خَٰسِرِينَ } [آل عمران: 149].
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ
حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْءَاخِرَةَ
ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الحج:
11].
وفي الآيات التاليات يتحدث عن انقلاب حسي جسماني:
{ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } [البقرة:
144].
{
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ
} [الكهف: 42].
{ يَٰقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ
الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ
فَتَنقَلِبُوا خَٰسِرِينَ } [المائدة:
21].
{ وَنُقَلِّبُهُمْ
ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ } [الكهف:
18].
{ يَوْمَ تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } [الأحزاب:
66].
{ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ
} [الملك: 4].
{ يُقَلِّبُ اللَّهُ
الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَٰرِ
} [النور: 44].
فهنا التقلب حسي صريح، وهو لجزء من الجسم
البشري، مثل تقلب الوجه، كناية عن حيرة الرسول تجاه القبلة، أو تقليب الكف كناية عن
الحسرة، وهي حركة طبيعية تلقائية يفعلها كل مصدوم، وتقليب الوجوه في النار، وتقليب
البصر، وتقليب التوصيات لاتخاذ القرارات، وتقليب الليل والنهار. وهذا الأخير من
العجائب فلا يمكث الليل ولو دقيقة فهو في حركة مع النهار، بدون أن يتوقف مطلقاً،
ينتقل من نقطة إلى آخرى، وهذا إعجاز عظيم فكيف عرف به محمد؟
التقلب بمعنى السطوة والقدرة:
{ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَٰدِ } [آل عمران: 196].
{
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ
} [النحل: 46].
{
مَا يُجَٰدِلُ فِي ءَايَٰتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَٰدِ } [غافر: 4].
{ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّٰلِحَٰتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
} [الشعراء: 227].
دولة قريش العظيمة، متسلطة وقوية، جيوشها
تجوب البلاد جيئة وذهوباً، فهذا هو التقلب فجيوشهم وسراياهم تنتقل من نقطة إلى
أخرى دون أن تمكث أو تلبث، لتراقب وتخيف، هذه الحرب النفسية التي توجه ضد المسلمين
وغيرهم، بين المولى أنها مجرد بالون سرعان ما سينفجر ويتلاشى مع بروز قوة الله
التي يمثلها محمد وأتباعه.
تمكن الرسول وأصحابه:
{ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
} [التوبة: 95].
{ بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ
أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ
قَوْمًا بُورًا } [الفتح: 12].
{ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ
مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَٰنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [آل عمران:
174].
في هذه الآيات يتبين أن الرسول خرج
للقتال دون أن يمكث أو يستقر، بل انقلب إلى المدينة مباشرة هو وأصحابه. والتاريخ
يؤكد ذلك ففي معركة تبوك على سبيل المثال، لم يستقر الرسول هناك ولم يتوسع فيها،
لهذا استخدم القرآن جذر انقلب ولم يستخدم جذر رجع أو عاد. أما لو استقر وتوسع
فيسميه القرآن فتح.
وهذا يعني قدرة الرسول ومن معه على البطش
بالمعتدين ومطاردتهم. وقد أمر المولى أن يكون للمؤمنين جيوشاً تتقلب في كل نقطة
وأفضل سيارة تتقلب بهم هي الخيل لهذا أمرهم بالإكثار منه {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم
مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}([2])
وذل وهوان الكفار ظهر باكراً فقد صار انقلابهم
ذل وخيبة وخسارة {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ} ([3]) . وهو يشبه انقلاب سحرة فرعون {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ
وَانقَلَبُوا صَٰغِرِينَ} ([4]) . الذي تحول غرورهم إلى صغار ومهانة وذل. أما انقلاب الرسول وجيشه
فكان بعد انتصار أو هرب من الأعداء.
وفي الآيات المكرمات:
{ قَالُوا إِنَّا
إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } [الأعراف:
125].
{ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } [الشعراء: 50].
{ وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [الزخرف: 14].
يدرك أهل الإيمان أن مكوثهم في الدنيا
لحظات وكأنهم في تنقل دائم وتقلب من نقطة إلى أخرى، لهذا هم منقلبون إلى ربهم، وهم
أيضاً راجعون كما تقول آيات أخرى، وقد شرحنا معنى راجعون في مقال سابق ويقصد به
الرجوع إلى نفس النقطة، ولكن بعد مكث وبقاء. فإن كان القوم قد مكثوا واستقروا وطال
بهم الزمن في الدنيا، فإن شعورهم لا يتفق مع ما عاشوه، لهذا هم يعتقدون أنهم كانوا
في انقلاب دائم، الذي عاد بهم حيث كانوا.
انقلاب إخوة يوسف:
{ وَقَالَ لِفِتْيَٰنِهِ اجْعَلُوا بِضَٰعَتَهُمْ
فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا
إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [يوسف: 62].
وفي هذا النص لم يقل يوسف إذا رجعوا أو
عادوا أو غيرها من الأفعال المعروفة، بل قال انقلبوا، وهذا يؤكد أنهم لم يمكثوا، في
مدينة يوسف كثيراً، فالقوانين لا تسمح للغرباء بالمكوث والبيات، للشعور بالخطر
منهم، والظن بأنهم قد يسرقون، أو يعيثون الفساد بالمدينة، لهذا وجه يوسف بكلمات
دقيقة وهي الانقلاب وليس الرجوع، ليؤكد لعماله ألا يسمح لهم بالبقاء في المدينة أو
ليؤكد المؤكد عند العمال.
ويستحسن أن نسبر كامل النص لكي نعرف
الفرق بين انقلب ورجع، فالسورة تذكر مرة انقلابهم ومرة رجوعهم:
ﵟوَقَالَ
لِفِتۡيَٰنِهِ ٱجۡعَلُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ فِي رِحَالِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ
يَعۡرِفُونَهَآ إِذَا ٱنقَلَبُوٓاْ إِلَىٰٓ
أَهۡلِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٦٢ فَلَمَّا رَجَعُوٓاْ
إِلَىٰٓ أَبِيهِمۡ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلۡكَيۡلُ فَأَرۡسِلۡ
مَعَنَآ أَخَانَا نَكۡتَلۡ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَﵞ [يوسف: 62-63]
فالنص يقول إن يوسف أمر بفعل شيء ببضاعتهم،
لعلهم يعرفون تلك البضاعة إذا انقلبوا إلى أهلهم، وذلك لأنهم لم يمكثوا في مدينة
يوسف طويلاً، ثم قال لعلهم يرجعون، لادراكه أنهم سيمكثون عند أهليهم فترة ثم يمضون
قدماً إلى يوسف، فلهذا قال لعلهم يرجعون ولم يقل لعلهم ينقلبون.
ويبدو أنهم مكثوا عند أهليهم فترة، ثم
رجعوا إلى أبيهم، لهذا قال رجعوا إلى أبيهم ولم يقل انقلبوا إلى أبيهم، فلهذا
يتبين لنا أن بيوتهم متفرقة عن بعضها، لهذا مكثوا فترة عند بيوت أهليهم ثم انقلبوا
إلى بيت أبيهم، لأنهم يعيشون في خيام متفرقة.
وقد يكون مقصد النص شيء آخر وهو الذي أرجحه،
بل أجزم به، وهو أنهم مكثوا في مدينة يوسف، بعد ما حدث لهم مع يوسف محاولين اقناع
يوسف بأن يكيل لهم، لكنه أصر ورفض، ولهذا قال النص أنهم رجعوا إلى أبيهم، ولو أنهم
سافروا من ساعتهم لقال النص: فلما انقلبوا. والذي يؤكد أنهم مكثوا عند يوسف أن بضاعتهم
كانت عند يوسف، فلم يردها لهم كما يظنون، فقد ردها لهم دون أن يشعروا فلما وصلوا
عند أبيهم وجدوها، لهذا من المؤكد أنهم مكثوا لكي يطالبوا بالقمح والشعير، أو على
الأقل ترد بضاعتهم.
انقلاب المترف الغني:
{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن
رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف: 36].
من طبع الأغنياء هو الركون إلى الدنيا
وعدم الرغبة بالآخرة، وهذا الغني في هذه الآية، لا يظن بقيام الساعة أو لا يريد
ذلك، وإن حدث وجاءت الساعة، ورد إلى الله، فإن له حظوة عند الله فمن المؤكد أنه لن
يطيل في الحساب وسوف ينقلب إلى أرض جنان خير مما يملكه في الدنيا، أي لن يطيل
المكوث عند الحساب والمحشر، بل سيُترك لكي يتجه إلى جنته الجديدة.
وفي الآية المكرمة:
{ وَتَقَلُّبَكَ
فِي السَّٰجِدِينَ } [الشعراء: 219].
فهذا كلام عن الرسول كان بدايته:
ٱلَّذِي
يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ ٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ ٢١٩ إِنَّهُۥ هُوَ
ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ [الشعراء: 218-220]
والتراث شرق وغرب في التفسير، فذهب بعضهم
إلى القول: أي قيامك وركوعك وسجودك. ويرى آخرون أن الساجدين هم الأنبياء السابقين
والعرق الطاهر، كان الرسول يتقلب بين أصلابهم حتى ظهر ([5]) وهذا عجيب
والصحيح أنه يتكلم عن دعاء الرسول لله، وحول
ما آلت إليه الأمور مع الكفار، فصار يكثر من الدعاء ويكثر من التقلب في الساجدين، وقلنا
أن التقلب يختلف عن الانقلاب فالتقلب هو تكرار الحركة، فالرسول ينتقل وينقلب من مستضعف
إلى آخر، ومن مؤمن إلى آخر، فهو في تقلب لكي يثبت المؤمنين ويرفع من معنوياتهم.
وقد وصفهم النص بالساجدين، لأنهم من أطاع
الرسول وسلموا له وصاروا تحت تصرفه. وقد كان الرسول يتألم لتألم أتباعه، ويحزن
عليهم بشدة، ولهذا كان يقوم أي يقوم للدعاء لكي يتخلص هؤلاء من هذا العذاب والضغط.
ولهذا قال في الأخير إنه هو السميع العليم.
وفي الآية المكرمة:
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَىٰكُمْ} [محمد: 19].
استخدم الجذرين متقلب ومثوى، ليتبين لنا
أنهما متناقضين في الزمن، فالمتقلب هو المكان الذي نستقر فيه لوقت قصير جداً،
بينما المثوى فهو الذي نستقر به دائماً ويكون كالمقام لنا. وقد يقصد النص المثوى
الأخير وهو الجنة أو النار، وقد يقصد النص أن المولى يراقب البشر في تحركاتهم
وتنقلاتهم وفي مكوثهم وفي مثاويهم أي في ديارهم.
وفي هذه الآية:
{ وَإِذَا انقَلَبُوا
إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ }
[المطففين: 31].
يبين حال الكفار بمكة مع المؤمنين فيقول
النص:
وَإِذَا
مَرُّواْ بِهِمۡ يَتَغَامَزُونَ ٣٠ وَإِذَا ٱنقَلَبُوٓاْ
إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ ٣١
وَإِذَا رَأَوۡهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَضَآلُّونَ ٣٢ وَمَآ
أُرۡسِلُواْ عَلَيۡهِمۡ حَٰفِظِينَ [المطففين: 30-33]
فالقوم مجرد ينقلبون أي ينتقلون من مكان
إلى آخر دون أن يكلفوا أنفسهم سماع الدين الجديد، بل يتغامزون ويضحكون ويسخرون،
وإذا انقلبوا إلى أهلهم ينقلبون فكهين أي ضاحكين مسرورين مما يقولونه عن المؤمنين.
أي النص يبين حقيقتهم وهي عدم المكوث
واللبث لكي يسمعوا الحق، بل يتحركون في سرعة وعجلة وينتقلون من نقطة إلى آخرى دون
الوقوف عند المؤمنين لسماعهم. وهذا هو الانقلاب، وهذا ما تؤكده سور كثيرة، لهذا
جعل المولى في آذنهم وقراً.
وفي الآية المنيرة:
{وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ
أَهْلِهِ مَسْرُورًا } [الانشقاق:
9].
فهذا هو المؤمن يذهب بعد الحشر لكي يتلقى
حسابه، ولكنه لا يطيل المكوث، بل يحاسب حساباً يسيراً فلا يطيل الانتظار لهذا قال
النص ينقلب ولم يقل يرجع أو يعود، لأنه لم يمكث طويلاً لحسابه فصفحته ممتازة.
فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا ٨ وَيَنقَلِبُ
إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورٗا [الانشقاق: 8-9]
الخلاصة:
تأتي مفردة
الانقلاب لتؤكد على الانتقال من نقطة إلى أخرى، دون المكوث في النقطة الأولى
ولو للحظات، فإذا كانت المفردة تقلب، فهي تقصد
انتقال إلى عدة نقاط، ويقصد بها معنى التغلب والسيطرة فالقوم يتقلبون بجيوشهم
وسراياهم إلى كل مكان لكي يثبتوا قوتهم ويرهبوا أعدائهم.
وقد يكون الانقلاب حسياً مثل انقلاب
الوجه أو انقلاب القمر أو الانقلاب الجغرافي بالعودة إلى نفس المكان، وقد يكون معنوياً
ويقصد به عدم المكوث على فكرة معينة، بل الانقلاب عنها إلى فكرة أخرى أو إلى فكرة
قديمة، وهذا ما عابه القرآن على المنافقين الذين سرعان من تخلوا عن الإيمان
وانتكسوا.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك