الرجوع في القرآن المكرم
رجع لغة:
رجع أصل كبير مطرد منقاس، يدل على رد
وتكرار. تقول رجع أي عاد. والرجعة هي أن يراجع المرأة طليقته. والراجعة هي الناقة
تباع ويشترى مثلها. والمرأة الراجع هي التي مات زوجها فرجعت إلى أهلها. وترجيع
الصوت هو ترديده. والمرجوع ما يرجع إليه من الشيء. والرّجاعُ هو رجوع الطير بعد
قطاعها. وأرجعت الإبل إذا سمنت وحسن حالها. والراجعة هو الغدير يتردد فيه الماء ([1])
الرجوع في القرآن:
الرجوع في القرآن حسي ومعنوي، فالحسي هو العودة
إلى نفس المكان الذي كان فيه الشخص، والمعنوي ويقصد به الرجوع من طريق الضلال إلى
طريق الهداية أو العكس.
والرجوع يشتمل على عنصر مهم، وهو أن
الشخص أو الشيء كان في تلك النقطة ثم انتقل منها ثم رجع أو عاد إليها، فالرجوع يجب
أن يعني العودة إلى نفس النقطة التي كنّا فيها.
كما يجب أن يكون الرجوع بعد مكوث في
النقطة الجديدة، فأما لو كان المكوث في النقطة الجديدة قصيراً جداً ولا يحسب،
فنسميه انقلاب، وقد شرحنا ذلك في مفردة انقلاب. فإن مكث في النقطة الجديدة فترة،
ثم قرر العودة إلى نقطة الأولى فنسمي ذلك رجوعاً.
وإليك الأدلة القرآنية:
الرجوع الحسي الحركي:
سوف نجد أن الرجوع يختلف عن العودة،
فالعودة هو الرجوع في السلوك والفعل، أما الرجوع فهو الرجوع الجسماني للإنسان إلى
نقطة كان بها، فلو افترضنا أنه كان في مدينة جدة ثم انتقل إلى تبوك، فإن انتقاله
من جديد إلى جدة يعتبر رجوعاً، طالما هو استقر فترة في تبوك، فإن لم يستقر في تبوك
وإنما قضى فيه وقت قصير جداً، فنقول إنه انقلب إلى جدة، لأنه لم يمكث في تبوك، وقد
شرحنا ذلك في مفردة انقلاب وتقلب.
والآيات في الرجوع الحركي كثيرة نكتفي
بهذا السرد فقط للتأكيد:
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ} [الأعراف: 150].
{يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ}
[التوبة: 94].
{وَلِيُنذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
{لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}
[يوسف: 46].
{إِذَا انقَلَبُوا
إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [يوسف: 62].
{ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ} [يوسف: 63].
رجوعنا إلى الله يوم القيامة:
عشرات النصوص تؤكد على رجوع البشر إلى
الله يوم القيامة، وقد شرحنا ذلك في مقال، وقلنا بأننا كنّا في حياة سابقة عند
الله في زمن آخر حيث تلقينا التعليمات من الله والوصايا، ثم أحيانا المولى من جديد
في زمن آخر جديد هو زمن الدنيا، حيث يتم اختبارنا في تلك التعليمات والوصايا، ثم
بعد ذلك سنعيش مرة أخرى عندما يحيينا مرة ثالثة ونذهب من قبورنا إلى المحشر وهو
الرجوع إلى الله فقد كنّا عنده في الزمن الأول ثم سوف نرجع إليه في الزمن الثالث
الذي هو يوم القيامة وإليك بعض النصوص التي تؤكد الرجوع.
ونلاحظ في كل الآيات وعددها 19 آية، أنها
بُنيت للمجهول، فنحن نُرجع ولا نَرجع، أي هناك من يدفعنا إلى الرجوع كالملائكة
واللابات البركانية والغازات والكوارث، ولهذا يطلق عليها القرآن في نصوص أخرى
بأنها رد أي سيردنا إليه وسوف نشرح معنى الرد في حينه.
{إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ
} [العلق: 8].
{وَاتَّقُوا
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281].
{كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
} [العنكبوت: 57].
{ اللَّهُ
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
} [الروم: 11].
الرجوع المعنوي:
في الآية المكرمة
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } [البقرة: 18].
كان المنافقون على الإيمان، ثم انتقلوا
إلى النفاق والضلال، واستقروا في هذا النفاق، فطبع الله على قلوبهم وختم، فلم يعد
هناك مجال لرجوعهم من طريق الضلال إلى طريق الهداية.
وقد وردت سبع آيات بصيغة (لعلهم يرجعون) وكلها تشير إلى الرجوع المعنوي من طريق الضلال
إلى طريق الهداية أو العكس، فالمولى قد يرسل العذاب لعل القوم يرجعون عن ضلالهم، أو
قد يفصل الآيات أي يقسم الآيات عن بعضها في فترات زمنية، سواء آيات عذاب أو آيات
إعجاز، لعل القوم يرجعون عن ضلالهم، وهناك أهل الكفر والنفاق يعملون بعض الكيد
والمنكر لعل المؤمنين يرجعون عن الإيمان إلى الكفر.
وقد حرص إبراهيم على بقاء ملته وعقائده،
لا تُنسى، يرددها عقبه، لعل ذلك يوقظهم من الضلال لو صار هناك جيل ضال، مثل القرآن
الذي يردده المسلمون، فقد يأتي جيل يتبنى ما فيه ويرجع عن الضلال.
{وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ
الْءَايَٰتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:
174].
{وَأَخَذْنَٰهُم
بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:
48].
{وَبَلَوْنَٰهُم
بِالْحَسَنَٰتِ وَالسَّيِّءَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
} [الأعراف: 168].
{ءَامَنُوا وَجْهَ
النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
{ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً
بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
} [الزخرف: 28].
الأمور تُرجع:
وقد وردت سبع آيات في أن الأمور قبل
تنفيذها تُرجع إلى الله، فالأمور تُرجع إلى الله، أي يقوم الملك المسؤول عنها
بإرجاعها إلى الله، فالمولى من يأذن بها أو يمنع تنفيذها لسبب ما، أو يستثني أحداً
من ذلك الأمر، فإذا أذن بها المولى وقضى بها، نفذها الملك الموكل بها.
ونكتفي بسرد ثلاث آيات في هذا الشأن.
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن
يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَٰئِكَةُ وَقُضِيَ
الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
} [البقرة: 210].
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الأنفال:
44].
{وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ
كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123].
غموض بعض الآيات:
مثل هذه الآية:
{وَحَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَٰهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } [الأنبياء: 95].
شرحنا سابقاً معنى الهلاك وهو الفناء
التام، لأهل القرية دفعة واحدة، ويستثنى بعض العامة الذين يشردون في الأرض. وشرحنا
كذلك معنى القرية وقلنا هي الدولة، فالهلاك هنا أصاب الدولة برموزها وليس عامة
الشعب، ولهذا نفهم لماذا قال النص لا يرجعون، فهو يقصد بقية الشعب وبقية رموز
الدولة، ممن لم يكن لهم عمل شنيع مباشر مع المستضعفين، لهذا فالمولى يؤكد أنه لن
يرجع هؤلاء من جديد ليؤسسوا الدولة التي يسميها القرية.
يتراجعا:
{ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا
تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا
أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } [البقرة:
230].
بيت الزوجية صار خالياً منهما، ولأنهما
يريدان الرجوع إلى منزل الزوجية، فإنه لا يتم حتى يتفقا على الرجوع، أي يحث كل طرف
الآخر على الرجوع إلى المنزل، فلا يمكن أن يرجعا من ذات نفسهما دون قبول الآخر،
خاصة الطليقة. والمنزل هنا لا يقصد به الدار التي تسكن، بل يقصد به المنزل المعنوي
الذي يربط بينهما.
مرجعهم إلى الجحيم:
{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات: 68].
قد يستشكل الأمر، كيف يكون مرجعهم إلى
النار، وهم لم يسكنوها بعد؟ أو هم فيها، فكيف يرجعون إليها؟
قبل أن نشرح يجب أن نركز على أن النص
يقول مرجعهم إلى الجحيم. والجواب قد شرحناه في كتابنا دار السلام، وبينا أن النار
ليست قسماً واحداً، بل أقساماً، فمنها الجحيم، وجهنم، والحميم، والسموم. فقبل
دخولهم إلى الجحيم ينزلون في منطقة الحميم
ﵟفَنُزُلٞ مِّنۡ حَمِيمٖ ٩٣ وَتَصۡلِيَةُ جَحِيمٍﵞ [الواقعة: 93-94]
وهم يطوفون بين الحميم والجحيم، لهذا هم
يرجعون كل حين إلى الجحيم بعد المكوث في الحميم، فقد يكون الحميم المكان الذي فيه
تُبدل جلودهم.
ﵟهَٰذِهِۦ جَهَنَّمُ
ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٤٣ يَطُوفُونَ بَيۡنَهَا
وَبَيۡنَ حَمِيمٍ ءَانٖﵞ [الرحمن: 43-44]
ﵟإِذِ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ
أَعۡنَٰقِهِمۡ وَٱلسَّلَٰسِلُ يُسۡحَبُونَ ٧١ فِي ٱلۡحَمِيمِ
ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسۡجَرُونَﵞ
ترجيع الكلام:
{
يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ
إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ} [سبأ: 31].
{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ
لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89].
والمقصود به رد الكلام والجدل الحوار
والإجابة، فالحوار في كلا الآيتين غير مثمر، فهو مجرد ترجيع. فأصحاب النار
يتحاورون بلا فائدة فهو مجرد ترجيع الكلام. وفي الآية الثانية فتتحدث عن عجل
السامري أنه لا يرجع القول، أي حتى الصدى لا يستطيعه، وما قيل إن له خوار يعني
يصدر صوتاً، فلا نقبله، وقد شرحنا معنى الخوار في مقال سابق.
الخلاصة:
أن الرجوع يقصد به العودة إلى نقطة
البداية، فإن كان الرجوع حسياً فهو يقصد الرجوع الجغرافي إلى النقطة القديمة التي
كنّا فيها، وإذا قصد به الرجوع المعنوي، فهو يقصد الرجوع عن الأفكار والمعتقدات.
فإن أشارت الآيات إلى الرجوع إلى الله
يوم القيامة، فيقصد به ما كنّا عليه سابقاً فقد كنّا عند الله في أول الخلق ثم
صرنا في الحياة الدنياً، ثم سنعود إلى الله في الآخرة.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك