العالمين في القرآن المكرم
وردت هذه اللفظة 77 مرة في 31 سورة، لهذا
فمعرفة معناها ضرورة، لأنه سيساعدنا في فهم كثير من الآيات المتعلقة بهذه اللفظة.
وهذا ما سنجده في هذا المبحث.
هل
العالمين الإنس والجن؟
ظن بعض أهل التراث أن العالمين هم الإنس
والجن، مثل مقاتل بن سليمان وإسماعيل السدي ([1]) عندما فسروا آية {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}
([2]) .
والعالمين مصطلح في غاية الخطورة والأهمية، فهو
يقصد كل المجموعات البشرية، ليؤكد أن كل البشر ربهم واحد، وهو لن يقبل من جماعة
ظلم ولن يحابي جماعة على أخرى، لقد كانت الجماعات سابقاً تعتقد أن لها إلها يعتني
بها دون بقية الجماعات التي لها آلهة أخرى، فكان مدخلاً إلى الظلم والعدوان، حتى
اليهود الذين جاءهم الدين الحق زعموا أنهم أبناء الله وبقية البشر حمير لهم،
فلازالت فيهم بقية وثنية جاهلية.
بينما نجد أول آية قرآنية تقرر هذه الحقيقة
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ
} [الفاتحة: 2].
فالله صاحب النعوت العظيمة، هو رب للجميع
بلا استثناء ولا واسطة ولا محاباة، وهو يحمل نعوت مبجلة تجعله لا يظلم جماعة أو
يهملها فهو ربهم الذي يعتني بهم جميعاً، فإذا كان رب كل الجماعات البشرية، فلا يحق
لهم ظلم بعضهم، لهذا قال بعدها الرحمن الرحيم، أي الرحمن الذي يعاقب ويحاسب
والرحيم الذي يزيل العذاب والضرر.
وقد فضل الله بني إسرائيل على العالمين
{ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ
} [البقرة: 122].
وسوف نشرح معنى الفضل في مقال آخر، لكن
هنا يبين أن العالمين هم كل الجماعات البشرية، ومن ضمنهم بني إسرائيل، لكنه استثنى
هذه الجماعة بالفضل لفترة زمنية محدودة.
وكل الأنبياء يقرون بهذه الحقيقة وهي أن
الله هو رب البشرية كلها، لكي يؤكدوا أنه لا آلهة متعددة، بل إله واحد. وقد تعجب
فرعون من ذلك فكيف يكون هناك رب واحد للعالمين؟ وفرعون لا يريد أن يقر بهذه
الحقيقة حتى يشرعن لنفسه ظلم واضطهاد بني إسرائيل، فلهم إله غير إلهه، ولهذا كان
هذا المصطلح في غاية الأهمية وإهماله يؤدي إلى الظلم.
{وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَٰلَمِينَ
} [الأعراف: 61].
{وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَٰلَمِينَ
} [الأعراف: 67].
{يَٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَٰلَمِينَ
} [الأعراف: 104].
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَٰلَمِينَ
} [الشعراء: 23].
والمولى وضع القوانين التي تمنع الفساد
في الأرض أي الخراب السياسي إلا لفترة مؤقتة، وهذا فضل من الله للعالمين أي لكل
الجماعات البشرية، وسوف نشرح الفضل لاحقاً، فالتدافع البشري فضل من الله للعالمين
جميعاً.
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ
وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَٰلَمِينَ } [البقرة: 251].
وقد اصطفى الله بعض الناس أي تم وصفهم أو
صفهم أي أخذ قسماً من البشر فجعلهم له من المخلصين.
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى الْعَٰلَمِينَ } [آل عمران: 33].
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَىٰكِ
عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ } [آل
عمران: 42].
ومكة ليست للعرب وحدهم، بل للعالمين، يحق
لهم الحج والعمرة، ولا يقصد أحقيتهم في ملكها، بل هي ملك أهلها.
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ } [آل عمران: 96].
{ وَنَجَّيْنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي
بَٰرَكْنَا فِيهَا لِلْعَٰلَمِينَ }
[الأنبياء: 71].
وحتى هابيل وقابيل يدركان أن الله رب
العالمين، أي رب كل الجماعات، وهذا يعني أن هابيل وقابيل ليسا ولدي آدم مباشرة، بل
بعد أجيال، فلو كانا وحدهما مع أبيهما لما حضر في ذهنهما مصطلح العالمين فلا يوجد
غيرهم.
{مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ } [المائدة: 28].
والرسالة عالمية فهي ذكرى لكل البشرية
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَٰلَمِينَ
} [الأنعام: 90].
ولوط يوضح لقومه أن كل البشرية لا يعملون
الشذوذ إلا أنتم، ويبدو أنهم لم يمارسوا الشذوذ فيما بينهم، بل مع الغرباء، نعم
قوم لوط من العالمين ولكنهم تميزوا بشذوذهم.
{مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَٰلَمِينَ
} [الأعراف: 80].
{ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَٰلَمِينَ
} [الحجر: 70].
{ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَٰلَمِينَ
} [الشعراء: 165].
وحتى أهل الجنة يقرون بهذه الحقيقة، وهي
أن الله رب العالمين، لقد تحقق الأمر فعلاً فكل الجماعات البشرية صارت في الجنة
تحت رعاية الله، وكل الظلمة في النار لأنه ربهم يؤدبهم.
{وَءَاخِرُ دَعْوَىٰهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَٰلَمِينَ } [يونس: 10].
وعيسى وأمه صارا آية لكل البشر، مثلهما
مثل الآيات الكونية العظيمة التي يراها كل البشر، فقد عرف كل البشر هذه المعجزة
وقد انقسم الناس إلى مؤمن وكافر بها.
{وَجَعَلْنَٰهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَٰلَمِينَ
} [الأنبياء: 91].
والرسول رحمة للعالمين وسوف نشرح هذه الآية في مقال مستقل
{ وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ
} [الأنبياء: 107].
وبلقيس أدركت الحقيقة، وأنه لا يوجد إله
إلا الله وأنها دخلت معمل فلكي ليتأكد لها أن الشمس مجرد نجم وليس إله، وأن الإله
هو الله فقط ربٌ للجميع.
{قَالَتْ
رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَٰنَ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ } [النمل:
44].
الخلاصة:
هذا المصطلح في غاية الخطورة، وأنه لو تمكن
من النفوس البشرية لقل الظلم والعدوان، لأن الجماعات ستدرك أنها لا تستطيع العدوان
على الجماعات الأخرى لأن ربهم واحد، لا يحابيهم على حساب الآخرين، فالعالمين هو كل
الجماعات البشرية، والمولى يمد الجميع بالمدد بغض النظر إلى إيمانهم أو كفرهم. { كُلًّا
نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ
مَحْظُورًا }([3]) لأنه ربهم، والرب مثل الأب الذي يعطي كل أولاده، ولا يقبل ظلم أحدهم
للآخر.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك