تفسير سورة البلد
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ
حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ
فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ
مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ
(8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ
فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا
مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
المقصد
العام :
في زمن الرسول بدأت تستفحل ظاهرة التفاوت
الطبقي، وبدأ كبراء قريش في العيش ببذخ وترف، وصاروا يحرصون على التباهي والتفاخر،
مما يجعلهم يسعون إلى مزيد من الغنى ولو كان على حساب طبقة الفقراء والمساكين
والطبقة المتوسطة، وذلك بأساليب قذرة كالربا والاحتكار والإغراق ورفع الأسعار، وغيرها
من الأساليب التجارية المعروفة.
هذا الظلم الشديد كان يوجب على أهل مكة
العذاب، ولكن يعطله المولى لسببين هما: وجود الرسول، وأنهم يستغفرون. ثم ذكرت
السورة أفضال الله على الأغنياء فهم بصحة جيدة وأموال هائلة وعيش نعيم في كبد، مهدت
لهم هذا الغنى.
ثم تنصح السورة هؤلاء المترفين بالإنفاق
على الفقراء، والمساكين والأقارب والمديونين، باعتباره حق من حقوقهم.
لفظ الإنسان:
قبل أن نبدأ الشرح يجب أن نفهم الألفاظ،
فهذا اللفظ مفرد وجمعه الناس، ويقصد به الغني المترف ذو السلطة والجاه، فإذا جاء
اللفظ في السور القصيرة فهو يتحدث عن أحد عظماء قريش، فالقرآن الكريم لا يذكر الأسماء
والألقاب مطلقاً، ويترفع عن ذلك، ولكنه يشير إلى الحدث والقصة، ويلقب هؤلاء بلقب الإنسان
باستثناء أبي لهب وحتى هذا الشخص لم يذكر اسمه، بل ذكر نبزه.
لا أقسم
:
أي لن أعاقب هذه الديار (مكة) طالما أنت حال
بها أي مقيم {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}([1]) ولكن لو أخرجوك فسينالون العقاب، وهذا طلب قريش الدائم {وَقَالُوا رَبَّنَا
عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}([2]) وقد توعدهم الله لو استفزوا الرسول أنهم سيلقون حتفهم، فالرسول هو
المانع من عذابهم {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ
مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلًا } ([3])
البلد:
اتفق
أهل التراث على أن البلد هو مكة ([4]) وقد شرحنا معنى البلد في المعجم القرآني وبينا أنه أي أرض زراعية،
فقد تحولت مكة بعد دعوة إبراهيم من أرض جرداء {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}([5]) إلى بلد أي أرض زراعية منتجة{اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَٰتِ}([6]) والمقصود هو مكة وقد ذكر
أنها بلد أي أرض زراعية وهذا من رحمة الله بأهل مكة. ليؤكد لأهل مكة مدى عطاء الله
لهم، كما تشير بقية النصوص في السورة.
وأنت
حل بهذا البلد:
أي لن يصيب مكة وأهلها العذاب طالما أنت
فيهم يا محمد، وهذا تؤكده آية أخرى{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ
وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}([7]) وقد فسر أهل التراث هذه
الآية عجباً، فقالوا إن الحل هنا يعني أحل له القتال بمكة دون غيره من البشر ([8]) لكن الصواب هو ما ذهبنا إليه من أنه العذاب، وهذا يؤكد أن القسم هنا
هو العذاب أي يقسم قسم عذاب عليهم، ولكنه يعطله لوجود الرسول بمكة ولأنهم
يستغفرون.
وتذكر النصوص القرآنية بأنهم طالبوا الرسول بالعذاب{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}([9]) إذا كان صادقاً في نبوته، بل إن بعض المعاندين منهم فضلوا العذاب على
أن يسلموا أمرهم للرسول الكريم.
ووالد
وما ولد:
ذهب بعضهم إلى أن الوالد هو آدم وقيل، بل
إبراهيم. وما ولده هو ذريته، وذهب آخرون إلى أن ما ولد يعني العاقر ([10])
وتفسير الوالد بأنه إبراهيم
معقول، ذلك لأن إبراهيم دعا كثيراً لهذا البلد بالأمن وتوفر الغذاء، فلن يقسم الله
بهذا البلد أي لن يعذبه بسبب وجودك يا محمد وبسبب دعوة إبراهيم. فإذا صح المقصود
بالوالد هو إبراهيم فإن الولد هو إسماعيل، الذي دعا أيضاً بنفس الدعوات لهذا
البلد.
كبد:
من المستحيل أن كبد تعني أي الشقاء والعناء،
لكن قد تعني الاستواء كما قال بعض المفسرين (وَالْكَبَدُ: الِاسْتِوَاءُ وَالِاسْتِقَامَةُ.
وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ سَوِيًّا مُسْتَقِيمًا)([11]) وذهب بعضهم إلى أن المعنى أنه خلق الإنسان منتصباً معتدلاً، وقيل،
بل شدة وطول([12]) وقيل، بل شدة خروج أسنانه ([13]) وقيل في السماء أي آدم خلق في السماء ([14])
والذي يتجلى لي بأن كبد هنا تعني نعيم، فالنص
هنا يتكلم عن رجل من صناديد قريش ذو غنى فاحش، فهو كبد النعيم، أي في جوف الأرض الغنية
وهي مكة حيث هي كبد التجارة العالمية في ذلك الوقت أي وسط النعيم.
فهذا
القرشي لا فضل له، بل الله الذي تفضل عليه بأن خلقه في كبد طرق التجارة العالمية في
ذلك الوقت. هذا القرشي، يجادل الرسول الكريم، بشأن انفاقه الأموال الكثيرة على المحتاجين،
ربما في موسم الحج والعمرة، ربما ينفقها في إقامة الولائم لأهل مكة، فيرد عليه القرآن
الكريم بأنه يعرف سره الحقيقي، والقرآن لم يوضح؟ لكن في الغالب فإنه كان ينفقها رياء،
كما ذكر القرآن الكريم في نصوص كثيرة، ولم تُدفع تلك الأموال إلى أصحابها
المستحقين.
والنص واضح كل الوضوح، فالإنسان يعني
الغني المترف خُلق في وسط الغنى والترف، فالنص يحدد مكاناً جغرافياً، والآية تشبه
الآية الثانية {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}([15]) وقد شرحناه سابقاً وبينا أنه يعني في أحسن مقام ومستقر. ألا ترى
عزيزي القارئ، كيف أنه بعد آية الكبد ذكر غرور هذا الإنسان، وتفاخره بإنفاق
الأموال؟ فهل يقول هذا من كانت حياته في كبد أي معاناة كما يزعمون؟!
النجد:
التفسير
الأول لمعنى النجدين:
يتحدث المولى عن القدرات التي وهبها لذلك
الشقي من كفار قريش، وهو العينين يرى بهما ويدبر بهما أموره الاقتصادية ولسان وشفتين
يستخدمهم في البيع والشراء، ثم في الأخير هداه النجدين. فإذا كان النجدان طريقان
في الدنيا، فيعني أن النجدين هما طريقا الشام واليمن فهما طرق التجارة التي أغنت ذلك
القرشي المتعجرف الفخور بنفسه، الزاعم أن تلك الأموال قد حصلها بذكائه. وقد ذكرها المولى
في سورة قريش بشكل واضح.
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ
مِنْ خَوْفٍ } [قريش: 1 - 4]
وقد يقول قائل: إن النص يفترض به أن يكون
عام وشامل لكل زمان ومكان، فكيف تحصر النجدين بطرق تجارة قريش في تلك الفترة؟ والجواب
إن النص الكريم يضرب الأمثال، ويحكي القصص والأحداث، ثم يطالبنا بعد ذلك أن نستخرج
القانون العام الشامل لكل زمان ومكان، فكما كان يحكي قصص الأنبياء للعظة رغم أنها محدودة
وخاصة بزمن معين وأناس معينين، فإن الحكم المستخرجة منها كونية وعالمية، كذلك النجدين
هنا، فالآية تحكي فضل الله على قريش، وأن لهذه النعم ضرائب يجب تأديتها وإلا زال ذلك
النعيم، وقد رأينا كيف زال بعد إخراج الرسول من تلك البلاد فقطعت طرق التجارة وصارت
المدينة هي المركز التجاري الكوني العظيم. والحق أن تجارة قريش كانت إحدى الآيات الكونية
في تلك الفترة، فقد عصفت حروب كونية وظهر الفساد في البر والبحر كما قال المولى، ومع
ذلك بقيت مكة آمنة يُتخطف من حولها.
والتفسير الثاني لمعنى
النجدين:
والتفسير الثاني الذي نرجحه أكثر من
الأول، لأنه يفسر أيضاً معنى العقبة، هو أن النجدين هما نجدا يوم القيامة، أي
طريقان، طريق أصحاب الميمنة وطريق أصحاب المشئمة، ذلك لأن البشر يهربون من النيران
الزاحفة تجاههم إلى النجود المرتفعة، وسيجد كل إنسي نجدان كبيران أحدهما أصحاب
الميمنة، وبه عقبة وسيجتاز الجميع تلك العقبة ولكن الكافر لن يدخل ذلك المكان الذي
هو الأعراف لأن الملائكة تمنعه.
العقبة:
زعم أهل التراث أن العقبة هي عقبة بين
الجنة والنار، وقيل، بل هي النار، وقيل، بل هي جبل زلال في النار. وقيل، بل هي
الصراط الذي يضرب على جهنم ([16]) وهذه التفسيرات معقولة وتتفق مع ما وصلنا إليه، فالعقبة هي عقبة
فعلية جغرافية ونظن أنها تسبق منطقة الأعراف التي لن يستطيع دخولها الكفار كما
شرحنا في آية الأعراف.
وهناك آيات تؤكد ذلك
ﵟكَلَّآ إِذَا
بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ 26 وَقِيلَ مَنۡۜ رَاقٖ
27 وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلۡفِرَاقُ 28 وَٱلۡتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ 29 إِلَىٰ
رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمَسَاقُ 30 فَلَا صَدَّقَ وَلَا
صَلَّىٰ 31 وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ 32 ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ
أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ 33 أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ 34 ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ
فَأَوۡلَىٰٓ 35 أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ
سُدًى ﵞ [القيامة: 26-36]
فتلك العقبة هي التراقي وتسأله الملائكة
من الراقي أي الصاعد، فتعرف أنه غير مؤمن فتمنعه من دخول الأعراف، رغم تجاوزه
العقبة، فيتخذ طريق آخر وللزحام الشديد تلتف الساق بالساق.
مسغبة
ورقبة:
يقول أهل الرواية أن فك رقبة
أي فك رقابنا بالتوبة ([17]) ويقولون إن المسغبة هو شح الطعام في ذلك اليوم ([18]) فمسغبة هو مجاعة أو جوع. ونرجح أن الرقبة هي رقبة الشخص المديون.
الصبر والمرحمة:
ويتحدث النص أيضاً بعد الإنفاق، بصفات خلقية
مكملة، وهي الصبر والمرحمة، والصبر هو الصبر على الفقراء والمديونين والصبر على
أيام المسغبة. أما المرحمة فهو إزالة الضرر، عن هؤلاء، فكل من تعسر وتضرر أشد الضرر
جاءت رحمة الأغنياء بالفقراء. أي يجب بعد أن تقوم بعمل الخير، وأن تدعو الناس لعمل
الخير وتحثهم وتوصيهم بالصبر على الفقراء ومنع الضرر عن هؤلاء المساكين.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك