تفسير آية إلا المودة في القربى
{ ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ
عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّٰلِحَٰتِ قُل لَّا أَسْءَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَ مَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً
نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [1]
رأي أهل التراث في آية المودة:
وردت عدة آراء في تفسير هذه الآية فأحدهم
يقول: «لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة
التي بيني وبينكم»([2]) وأيده آخر فقال «إلا الحفظ لي في قرابتي فيكم. قال: المودة إنما هي
لرسول الله»([3])
وقال ثالث في تفسير الآية: «ألا
تؤذوني في قرابتي؛ أي: تودوا قرابتي حتى أبلغ رسالتي، أو تكفوا عني أذاكم وتمنعوني
من أذى الناس حتى أبلغ رسالتي»([4]) وهناك رأي قريب من الحقيقة فقال صاحبه «المودة في القربى: أي أن
تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم»([5])
الرأي
الصحيح في تفسير الآية:
تفسير أهل التراث بأن المقصود هم قرابة
الرسول فيه عدة علل تسقطه وتبطله، ومن هذه العلل:
• لو
كان يقصد النص الكريم آل البيت لقال آل البيت بدلاً من القربى، لأن قربى الرسول
تشمل المؤمن والكافر فأبو لهب أبرزهم كان كافراً، كذلك بقية الأقارب.
• لو
قصد النص الكريم آل البيت لكانت حجة عظيمة، لكفار قريش كي يطعنوا في الدين
ولقالوا: هذا محمد جاء ليمهد الملك لآل البيت.
• ولو
افترضنا أنه يقصد آل البيت لقال النص حينها إلا الموالاة في القربى وليس المودة،
لأن المودة تجب على الجميع وإن كان الأقارب أكثر أهمية، والمودة هي العلاقة الطبية
الحسنة وليست التسليم بالحكم والخضوع.
• ثلاثة
أرباع القرآن يحث على العمل والعطف والإحسان للأقارب والأرحام، فمن الطبيعي أن
يكون هذا النص على شاكلتها ومتماهياً معها؛ فكلها تدعو إلى التواصل الاجتماعي البنّاء،
ولو التزم كل إنسان بقرابته بداية لزاد تماسك المجتمع وقوته.
العودة
إلى السورة من بدايتها:
لو رجعنا لسورة الشورى التي ورد فيها هذا
النص نجدها تتحدث عن الفقر والغنى وأن الله الكريم هو من يعطي ويفضل:
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}([6])
فهي تتحدث عن إشكالية وجود تفاوت طبقي
كبير في المدينة المنورة، وأن الغنى والفقر اختبار وليس محاباة من الله لأناس دون
آخرين، وقد يكون كثرة الرزق والمال دليل على خطورة وليس دليل على محاباة، فقد يكون
تعجيلاً للخير، وحرمان يوم القيامة.
﴿اللَّهُ
لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
نَصِيبٍ ﴾([7])
والسورة كلها موجهة إلى اليهود أو من آمن
إيماناً ضعيفاً منهم، فلا يعقل أن يخاطب هذا النص كفار قريش وهم لا يؤمنون بالآخرة،
بل لقوم لديهم علم وإيمان بالآخرة وهم أهل الكتاب.
﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾([8])
فمهمة الرسول أن يحكم بينهم بالعدل، وأن
يطالبهم بالرحمة فيما بينهم، ولا علاقة لقريش بمسألة المودة، فقريش لديها أخلاقيات
عالية ولديها مودة فيما بينها، فمجتمع مكة متماسك وقوي، لكن مجتمع المدينة المريض
لم يكن كذلك، ولا يعقل أن يحث الرسول كفار قريش على أن يجعلوه حكماً بينهم وهم غير
مؤمنين به، لكن هذا الخطاب موجه إلى اليهود الذين ينتظرون هذه المخلص، لكي يحكم
بينهم ويحل نزاعاتهم.
وبدلاً من مساعدة اليهود لفقرائهم اتهموا
الرسول بأنه يفتري على الله
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾([9])
وهذا النص ورد مباشرة بعد نص المودة في
القربى.
ويبدو أنهم بدلاً من الانفاق على الفقراء
تساءلوا لماذا لا يجعل الله الناس كلهم أغنياء فيرد الله عليهم
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ
لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ
إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾([10])
ولهذا نجدهم قد بلغت بهم الجرأة أن
يزعموا أن الله فقير وهم الأغنياء
﴿لَقَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ﴾([11])
والنص التالي يؤكد أن مشكلتهم هي الانفاق
﴿وَالَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾([12])
يبقى السؤال لماذا كان النبي محمد هو
الوحيد الذي قال للناس (إلا المودة في القربى) دون بقية الأنبياء الذين ذكروا
لقومهم أنهم لا يريدون الأجر إلا من الله؟
ذكر القرآن الكريم في سورة هود أن نوح قد
بين لقومه أنه لا يريد الأجر، كذلك هود لم يطلب منهم أجراً، بل العجيب أنه حتى
الرسول محمد لم يطلب المودة تلك عندما كان يكلم قومه قريش كما ورد في سورتي
الأنعام والطور، وهذا يدلل على أن قريش لم يكن عندهم تلك المشكلة الاجتماعية، على
عكس أهل المدينة الذين استفحلت فيهم الأمراضِ، فلما نزلت سورة الشورى المدنية ناقشت
هذا الأمر.
فيبدو أن النبيين نوح وهود لما يكونا
يواجهان تلك المعضلة الاجتماعية؛ فقد كانت هناك مودة للقربى، أو أن نوح وهود كانا
مشغولين بأمر الشرك الذي هو أس المشاكل التي يعاني منها مجتمعهما، بينما الرسول في
المدينة لم يكن يواجه معضلة الشرك مع أهل الكتاب خاصة اليهود.
وعلى هذا تؤكد الآية الكريمة أنها نزلت
على اليهود، فاليهود كانوا موحدين في معظمهم، فلم تكن هناك مشكلة لديهم إلا
التشريعات وخاصة الصدقات والإحسان، وخاصة على الأقربين.
فالآية نزلت في سورة الشورى، وهي سورة متأخرة، وأنها نزلت في نفس الزمن الذي نزلت فيه البقرة وآل عمران، وليس كما تقول
المرويات أنها مكية، فكل السورة موجهة إلى اليهود وإلى الذين آمنوا منهم.
وهي تأمرهم بتفعيل الشورى بينهم، في
أمورهم الخاصة والتي لا يتدخل فيها الدين والتشريع، كما تأمرهم بالإنفاق على
الأقارب، ذلك لأن التفكك الاجتماعي قد بلغ مبلغه عندهم على عكس قريش المتماسكة.
والخلاصة:
أنه يستحيل على الرسول الذي جاء ليطهر
المجتمعات من العصبية والشللية والمحسوبية وغيرها من الأمراض الاجتماعية، أن يدعو
الناس الذين لا يؤمنون به، أن يجعلوا المودة لأقاربه خاصة، وإنما طالب مجتمع
المدينة المتفكك إلى مزيد من الترابط الاجتماعي.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك