سخر في القرآن المكرم
سخر
لغة:
أصل مطرد يدل على احتقار واستذلال. ورجل
سخرة أي يسخر في العمل سفن سواخر أي المطيعة الطيبة الريح. وسخرت السفينة أي أطاعت
وجرت وطاب لها السير. وسخرت منه أي هزئت به. وكل ما ذل وانقاد لك فقد سخر لك.
والسخرة ما تسخرت من خادم أو دابة بلا أجر أو ثمن. ([1])
سخر
في القرآن:
ورد هذا الجذر 42 مرة في 21 سورة، وقد
جاء في صورتين، صورة الاستهزاء والضحك من الآخرين وهذا لن ندرسه، وسنتركه مع دراسة
جذور الاستهزاء والضحك، وصورة أخرى والتي تعني الاستعانة والخدمة والفائدة وهذا ما
سوف ندرسه ونبين حقيقته.
وعند التأمل والإحصاء سنجد أن المسخر هنا
في حالة حركة، مثل السحاب والسفن أو الفلك والدواب التي تنقل الإنسان، والشمس
والقمر والنجوم، والليل والنهار، والأنهار، والطير في جو السماء، والجبال لداود
فقط، وسخر الفقراء للأغنياء، وسوف ندرس الآيات لنؤكد أنها كلها يقصد بها الاستفادة
من المسخرات، أثناء حركتها أو من حركتها.
فالسحاب مسخر {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ}([2]) أي يتم الاستفادة منه أثناء حركته، يستفيد منه البشر، كذلك الشمس
والقمر والنجوم {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِ}([3]) فالبشر يستفيدون من حركة الشمس والقمر والنجوم بمعرفة الحساب
والأيام والسنوات {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى}([4]) والأنهار مسخرة{وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْأَنْهَٰرَ }([5]) ففي حركتها فائدة للبشر، بل فوائد كثيرة، فرغم أنها تتحرك لغايتها،
فإن تلك الحركة مفيدة للبشر.
وسخر الليل والنهار {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ
وَالنَّهَارَ }([6]) وذلك من خلال حركتهما فلو كانا ساكنين سرمديين لكانا لعنة على البشر.
وسخر البحر { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}([7]) ففي حركة البحر فائدة للبشر وذلك من خلال توفر اللحم الطازج الطري،
فلو سكن البحر ولم يسخر؛ لتعفنت الكائنات فيه. كذلك في حركة البحر فائدة لكم حيث
تتحرك سفنكم بحركته { اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ
فِيهِ بِأَمْرِهِ}([8])
وسخر الطير {الطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ
السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ}([9]) وقد شرحنا سابقاً معنى الطير وبينا أنهم الملائكة التي تطير في
السماء وتعمل من أجل البشر، كأن تسوق السحاب، أو تقضي على المجرمين لتنقذ الضعفاء،
أو تحمي بعض البشر من الكوارث الطبيعية، وقد سُخرت الطير بزيادة الفائدة لداود
وسليمان {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ}([10]) وكان أشهر هؤلاء الملائكة
هو الهدهد (وهو طير) لسليمان { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ}([11])
وكذلك البدن { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَٰهَا لَكُم
مِّن شَعَٰئِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ
كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَٰهَا لَكُمْ}([12]) وقد شرحنا معناه وبينا أن أهل التراث يرون أنه الجمل أو الإبل، وهنا
يشير إلى أنه ينفع كطعام وينفع للتنقل وهي السخرة، فمن تنقلاته يستفيد البشر.
ويبين أيضاً أن هذا التسخير لتلك الدواب،
بلا سيطرة من الإنسان، فهو ليس قرين لتلك الدابة أي ليس هو يتحكم بعقلها كما يتحكم
الشيطان بعقل الإنسان {وَتَقُولُوا سُبْحَٰنَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا
لَهُ مُقْرِنِينَ}([13]) فإن بدا الأمر سيطرة وتحكم من الإنسان فإن الأمر لا يعدو أن يكون
إلا تسخير من الله بلا حول ولا قوة من الإنسان.
الجبال
تسخر مع داود:
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا
فَٰعِلِينَ } [الأنبياء: 79].
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
} [ص: 18].
ولنلاحظ أن الجبال قد سخُرت مع داود
ولم تسخر له، ونجزم أن الجبال هنا هي نوع من
الملائكة، وأنها في أثناء حركتها تعمل عملاً مفيداً وهو التسبيح خاصة مع تسبيح
داود، فكلما سبح داود بالعشي والإشراق سبحن معه.
تسخير
الريح لسليمان:
{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ
} [ص: 36].
أما سليمان فقد امتاز بميزة، لم يملكها أي
بشر آخر، وهو تسخير الريح له، نعم سُخرت الريح لكل البشر، ولكن تسخير الريح سليمان
يختلف، فهي تنفذ أوامره أثناء حركتها، فتعود عليه بالفائدة التي يريدها، بينما تسخير
الريح للبشر، فهو الفائدة التي ينالونها أثناء حركتها، وهم لا يملكون أمرها فهي
مسخرة بأمر الله لا بأمرهم إلا ما كان لسليمان، فقد صار متحكماً بها.
سخرية
البشر:
ويبين القرآن أن البشر يسخرون بعضهم
البعض
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَٰتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32].
أي أن في حركة وتنقل البشري، فائدة للآخرين
من البشر، وأن في حركة التجار فائدة لأهل المدينة فهو مسخر لهم أي يتحرك ويتنقل ويفيدهم،
ومعظم التسخير يأتي من الطبقة الفقيرة خدمة وفائدة للطبقة الغنية.
المسخرات
كُثر:
وفي آية عامة يتكلم عن السخرة {أَلَمْ تَرَوْا
أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}([14]) فكثير من الأشياء التي تتحرك وتنتقل تفيد أثناء حركتها البشر،
واستخدامه (ألم تروا) بداية الآية ليؤكد أن هناك كثير من الأشياء تنتقل وتتحرك
وتفيد البشر دون أن يعلموا بفائدتها وأثرها.
التسخير
على:
{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ
وَثَمَٰنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ
نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7].
أما لو جاء التسخير على وليس لـ، فإنه
يكون حركة وتنقل بضرر وليس بنفع، كما حدث مع قوم عاد إذ سخر المولى الريح عليهم سبع
ليالِ، فكانت ضدهم وليست لنفعهم، وهذا يؤكد بشكل قاطع أن سخر تعني تنقل الشيء وارتحاله،
ويكون مفيداً للآخرين.
الخلاصة:
لا يعني سخر ذلل أو أهان أو استعبد بقوة،
بل تعني استفاد الشخص من حركة وتنقل الشيء، فحركة الريح هي تسخير أي تنقل مفيد
للبشر، رغم عدم قدرتهم على أمر الريح أو السحاب، وتسخير الشمس والقمر والنجوم، أي
حركتها مفيدة للبشر فيعرفون الأيام والسنين والمواسم، وليس في حركتهم أي ذل أو
إخضاع، وإنما هي كضرب عصفورين بحجر واحد فهي تتحرك لغايتها ويستفيد منها الإنسان
في نفس الوقت.
والملائكة والتي هي الطير، مسخرة في
السماء لفائدة الإنسان أثناء طيرانها، وإن لم يشعر بذلك. وهناك ملايين الأشياء
التي تتحرك لا يعلم عنها الإنسان شيئاً تكون حركتها مفيدة للإنسان دون أن يدري،
وليس كل حركة وتنقل تفيد الإنسان، فحركة الصقر أو الغراب بجوار منزله، لا فائدة
منها فهي ليست تسخير أو سخرة.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك