النشوز والناشز في القرآن المكرم
نشز
لغة:
أصل يدل على ارتفاع وعلو. والنشز المكان
العالي المرتفع. والنشوز الارتفاع. وامرأة ناشز أي استصعبت على بعلها. وبعل ناشز
أي جفا زوجته وضربها. ونشز الرجل في مجلسه أي ارتفع قليلاً. وفي الحديث "كان
إذا أوفى على نشز كبّر أي ارتفع على رابية في سفر" ونشز بقرنه أي احتمله
فصرعه. وعرقٌ ناشزٌ أي عرب يضرب من داء أو غيره. وقلب ناشزٌ أي ارتفع عن مكانه
رُعباً. وأنشز عظام الميت إنشازاً أي رفعها إلى مواضعها.
والحديث: "لا رضاع إلا ما أنشز
العظم" أي رفعه وأعلاه وأكبر حجمه. ورجل ناشز الجبهة أي مرتفعها. ولحمة ناشزة
أي مرتفعه على الجسم. ويقال للدابة التي لا يستقر بها سرج أو راكب بأنها نشِزةٌ.
ونشز القوم في مجلسهم أي تقبضوا لجلسائهم أو قاموا منه ([1])
رأي
أهل التراث:
يرى ابن عباس أن المرأة تنشز أي تستخف
بحق زوجها ولا تطيعه، ويرى مجاهد بن جبر أنه العصيان ويتفق معه قتادة ومقاتل وعبد
الرحمن بن زيد. ويرى عطاء أن نشوز المرأة يعني حبها للفراق. ويرى السُّدّيّ أنه
البغض.
ويرى سعيد بن جبير أن العظة تكون
باللسان، كما يرى أنه بعد العظة يهجرها إن نشزت، واتفق معه مجاهد. وكذلك اتفق
معهما الحسن البصري. ويرى أنه يعظها فإن لم يفلح يضربها ضرب غير مبرح فإن لم يفلح
فيأخذ منها ويخلّيها. ويرى قتادة أنه يعظها فإن رفضت يهجرها، فإن استمرت يضربها
ضرباً غير شائن.
وفسر حماد الهجر في المضاجع بأنه النكاح،
واتفق معه علي بن أبي طالب ومجاهد. ويرى ابن عباس أن الهجر أي لا يجامعها. وله رأي
في رواية أخرى أنه لا يمتنع عن الكلام معها، ولكن تُهجر في المضجع. وفي رواية أنه
يضربها حتى تطيعه في الجماع، فإن أطاعته فلا يضربها. وفي رواية يجب أن توافق على
المضاجعة ولا يشترط أن تحبه ([2])
النشوز
في القرآن:
ورد هذا الجذر أربع مرات في أربع آيات،
وسيتبين لنا أنه يعني الارتفاع كما تقول كتب المعاجم، وهو ليس أي ارتفاع، بل ارتفاع الهيكل العظمي بعد جلوسه، وقريب منه الجذر نشط،
فنشط الدلو من البئر أي جذبها ورفعها بغير بكرة، والأنشوطة هي العقدة يسهل حلها أي
مدها وشدها. والناشط هو الثور يخرج من أرض إلى أرض ([3]) وكذلك الجذور نشر ونشش ونوش، فهي كلها تتضمن الارتفاع، فالنشوز هو
رفع الهيكل العظمي بعد جلوسه وقعوده واستلقائه، فإذا جاء ضمن نصوص القرآن فهو
كناية عن شيء آخر كما سوف نلاحظ، لكنه لا يفقد ذلك المعنى الحسي الواضح.
نشوز
العظام:
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ
خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِ هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ
يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ
وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ
وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا
لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ } [البقرة: 259].
نلاحظ أن عظام حماره لم تذب بالكلية، بل
كانت موجودة. والعظام تعيش ألوف السنين، بينما حمار ذلك الرجل مات منذ مئة عام أو
أقل، ولم تتحلل عظامه، لهذا لا يوجد جمع ولا تكوين جديد كما يزعم بعضهم، بل مجرد
إقامة ورفع الهيكل العظمي للحمار، ثم كُسي اللحم.
لقد بقي الحمار محمياً لم تمسه الضواري
بسوء، وإنما الديدان أكلت لحمه، فبقي الهيكل العظمي لفترة واقفاً ثم سقط بفعل
المطر أو الرياح، ثم لما انتهت المئة عامٍ، شاهد بنفسه نشوز الهيكل العظمي أي
وقوفه من جديد بأمر الله، ثم كسوته باللحم.
ونلاحظ هنا أن نشوز هيكل الحمار، لا يوجد
خلفه أي دافع، فهو بأمر الله فقط، بينما سنجد خلف نشوز الزوجة ونشوز المجالس دوافع
نفسية واجتماعية كما سوف نرى.
النشوز
عن المجالس:
{ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا
قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَٰلِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَٰتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [المجادلة: 11].
التفسح في المجالس معاكس للنشوز كما سوف
نرى، فالتفسح يعني مزيد من التكدس في المجلس والتلاصق، لضيق المكان وهو يشير إلى
الجلوس والقعود بدلاً من الانصراف، وذلك لأن القوم لا يريدون التلاصق للحرج أو لأن
الآخرين لهم رائحة كريهة بسبب طبيعة أعمالهم، ولعدم شعورهم بالارتياح من الملاصقة.
أما النشوز عن المجالس، فيعني رفع
هياكلنا العظمية وترك المكان، وذلك لأحد سببين: فالسبب الأول وهو الذي أرجحه هو لوجود حديث خاص بين الرسول وبين
أحدهم، لا يريد صاحب الشأن أن يطلع عليه الناس، وهذا مناسب للسورة نفسها، فقد جاءت
سيدة إلى مجلس الرسول تشتكي من زوجها، فهو حديث خاص لا تريد أن يسمعه غير الرسول،
خاصة أنه يتعلق بالظهار والجنس.
لاحظ هنا أن النص المكرم طيب خاطر من
يترك المجلس وينشز، لأنه رفع جسمه وخرج، بأن الله سيرفعه ويرفع مكانته درجات، كما
رضي ورفع جسمه وخرج، فهذا يؤكد أن النشوز هو الارتفاع.
ثم تتكلم السورة عن المناجاة، وهي الكلام
الخاص بين اثنين أو أكثر لا يسمعهم غيرهم، فلكي تتحقق المناجاة يجب أن يحدث النشوز
أي يتفرق من هم عند الرسول لكي يستطيع صاحب الشأن مناجاة الرسول، وقد أمر المولى
أن ينفق صاحب المناجاة صدقة قبل أن يناجي الرسول، أنظر سورة المجادلة الجليلة.
نشوز
الأزواج:
{ الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ
بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا
أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَالصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا
حَفِظَ اللَّهُ وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ
فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا
} [النساء: 34].
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ
الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].
شرحنا أن النشوز هو ارتفاع الهيكل العظمي
كناية عن عدم الجلوس في المجلس أو المكان، وقد يكون له دوافع كثيرة، منها إخلاء
المجلس كما رأينا في سورة المجادلة، أما ما بين الزوجين فالأمر يختلف فالزوجة قد
تنشز أي تقوم من مجلس زوجها لأي سبب كان كالنفور، أو الغضب، أو الشعور بالظلم أو
الكراهية أو غيرها من الأسباب، وقد يصل الأمر إلى النشوز من الفراش أي لا تريد
الجنس معه.
وبينت الآية الأولى سبب نشوز الزوجة، هو ضعف
دخل الزوج مما يجعله ينفق القليل على بيت الزوجية، وهي تقوم بعمل مقارنة مع
الآخرين (أنظر كلمة فضل) فعلى الرجل القوامة أي يقوم بأرزاق البيت، على قدر طاقته،
وعليها الرضا وعدم المقارنة.
وحينها تقوم هي بالضغط عليه بعدم مجالسته
أو حتى السماح له بالجنس، فيشعر بالوحدة ويشعر بالكبت الجنسي، فيرشده النص إلى أن
يعظها، كما عليه أن يهجر المضجع، لأنه سيضعف أمامها ويضطر إلى عمل سيء كي يجلب
المال ويرضيها، فإذا هجر المضجع انقلب السحر على الساحر، وصارت هي تبحث عن رضاه،
كي يعود إلى الفراش.
وبالإضافة إلى العظة والهجر فعليه أيضاً
أن يضربها، فهي ليست خطوات متتالية، بل مع بعضها، ونرجح بجزمٍ، أن الضرب هو
الابتعاد وعدم الجلوس في المنزل لفترات طويلة من النهار، مما يجعلها تفتقده بشدة،
فتتوقف عن مطالبها، وقد يعني بضربها أن يشغلها بالأعمال خارج المنزل فتجد منه قسوة
بعد لين، فتضطر للعودة إلى الحياة الطبيعية الجنسية.
أما نشوز الرجل في الآية الثانية، فهو يتحدث عن
رجل (معدد) فهو في غنى عنها جنسياً وعاطفياً، ولهذا عندما تطالبه بحقها ينشز أي
يقوم بعيداً عنها أو يعرض ولا يرد عليها، فحتى هذا النشوز هو بسبب المال وشح
الأنفس كما تقول الآية.
وهنا لا ينصحها النص المبجل بالعظة أو
الهجر أو الضرب، لأن تلك التصرفات ستناسبه لأنه يريد الهجر ويفضله، وإنما تطلب أن
يتدخل الآخرون، فيصلحوا العلاقة.
والمدهش حقاً أن تلك الزوجة التي جاءت
تشتكي زوجها في سورة المجادلة، فهي جاءت تشتكي نشوزه عنها، أي امتناعه عن الجنس لتوفر
البديل، فتعذر بالظهار والإيلاء، فهو مستغني تمام الاستغناء عنها جنسياً.
بل ذكرت السورة في آخرى من سورة النساء
أن بعض الأزواج يترك زوجته كالمعلقة فلا يقربها ولا يمارس معها الجنس، لتوفر الجنس
من الزوجات الأخريات على عكس الفقير الذي لا يجد إلا زوجة واحدة.
{ وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ
النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [النساء: 129].
الخلاصة:
نلاحظ أن النشوز ليس له حالة نفسية واحدة
كما يزعم أهل التراث، فهو من ناحية حسية ارتفاع الهيكل العظمي بعد جلوس وسقوط، وقد
تكون له دوافع نفسية متعددة، فقد تنشز الزوجة من مجلس زوجها نفوراً منه أو غضباً
أو دلالاً أو لكي تضغط عليه للنفقة. وقد ينشز الزوج لعدم رغبته بالإنفاق عليها
ووجد زوجات أخريات يشبعن رغباته.
وقد
ينشز الناس من مجلس الرسول لوجود حديث خاص بينه وبين أحدهم، أو لشدة الازدحام في
مجلسه فيتركون المجال لغيرهم. وقد ينشز عظم الكائن بعد سقوطه في الأرض أي يرتفع
ويعاد بناء اللحم من جديد كما في حمار الرجل المندهش.
ونلاحظ أنه استخدم الجذر نشز دون غيره من
الجذور مثل ارتفع أو قام أو خرج أو ذهب، ليبين أن الشخص كان جالساً ثم قام ، ولم
يتبين السبب النفسي لهذا الوقوف، لهذا استخدم نشز دون أن يبين الحالة لتعدد
الأسباب والدوافع، وقد طلب القرآن من جلساء الرسول النشوز دون غيره من الأفعال
كالقيام والخروج والابتعاد، حفظا لكرامتهم وعزتهم لأن الناشز يفعل ذلك مع حفظ
كرامته فلا يُطرد ويهان، كما أن الزوجة تنشز أي تقوم مع ارتفاع كرامتها على زوجها،
فهي التي تبتعد عنه وليس هو، وكذلك الزوج ينشز وهو في عز وكبرياء.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
([1]) «مقاييس اللغة» (5/ 430) «تاج العروس
من جواهر القاموس» (15/ 353) «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (4/ 2199)
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك