كيف واجه الرسول المجاعة في زمنه
بُعث الرسول الكريم، في زمن كان الناس في
أشد الحاجة الماسة إليه، فقد جاء رحمة للعالمين في زمنه، فقد استهلكت الحرب
الكونية بين الفرس والروم طاقة وغذاء العالمين
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ } [الروم: 41].
فلم يكن هناك موقع إلا وتقاتل فيه
الطرفان أو الأحلاف، إلا وسط الجزيرة العربية وخاصة منطقة الحجاز، حيث كانت هناك
حكومة قوية وهي قريش استطاعت أن تقوم بعمل التحالفات مع القبائل القوية لكي توفر
الأمن، بإرادة من الله وتدبيره.
{ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ
نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ
حَرَمًا ءَامِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا
وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
[القصص: 57].
فلما جاء الرسول وبدأت نتائج تلك الحرب
الكونية تظهر، على شكل مجاعات، دفعت الأهالي إلى قتل أولادهم خشية المجاعة، فما
كان من الشارع إلا مواجهة هذه المجاعات بتدابير وتنظيمات توقف هذا الأمر أو تحد
منه.
منع
أكل لحم الحمار، والمركوبات الأخرى:
كتب د سام مايكلز مقالاً عن سر تقديس
اليهود للحمار، وذهب إلى أن ذلك موروث عن ديانة المصريين، الذين يعتقدون أن الحمار
يحمل خطايا الإنسان عنه، وبهذا ينجو ([1]) ففي الثقافة المصرية يوجد كائنات تحاسب الميت على أعماله مثل منكر
ونكير في الإسلام، لكن الحمار يتحمل تلك الخطايا عن صاحبه.
ولا نرجح ذلك، فلم يرد ذلك في كتبهم المقدسة –
حسب علمنا- وإنما له بعض التقدير. ويحرم أكله لأنه لا يملك حوافر مشقوقة ولا يجتر،
حسب معتقداتهم.
تناقض
الأخبار حول أكل بعض اللحوم:
تناقضت الروايات حول منع أكل اللحوم وقت معارك الرسول، فمن ذلك خبر منع
الرسول في معركة خيبر من أكل الحمر الأهلية، فحسب الرواية، تدافع المسلمون إلى
مزارع اليهود وأخذوا الحمير وطبخوها، فجمعهم الرسول ومنعهم، وإليك النص المقصود:
"فَأَسْرَعَ النَّاسُ فِي حَظَائِرِ
يَهُودَ، فَأَمَرَنِي أَنْ أُنَادِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَلَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ إِلَّا مُسْلِمٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ قَدْ
أَسْرَعْتُمْ فِي حَظَائِرِ يَهُودَ، أَلَا لَا تَحِلُّ أَمْوَالُ الْمُعَاهَدِينَ
إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحَرَامٌ عَلَيْكُمْ لُحُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ،
وَخَيْلِهَا، وَبِغَالِهَا، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ، وَكُلِّ ذِي
مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْر" ([2])
والعبارة (لا يدخل الجنة إلا مُسلم) مدهشة، فما علاقتها بحظائر الحمير؟ لكن
العبارة منطقية وفي محلها، وهذا تعريف المسلم الذي لا يعتدي، فهو من السلم
والسلام، وهو لا يعتدي بناء على توجيهات المولى، فيكون حينها مسلماً ومؤمناً، لهذا
نرجح أن الرسول وجه هذا الكلام إلى من كان يقاتل معه في تلك المعركة، من المستجدين
الذين لا يعلمون أسلوب المؤمنين في القتال وهو عدم النهب والسرقة والاعتداء.
والقرآن قد منع الاعتداء على أي جماعة مسالمة ويصفها بالمسلمة، والمقاتلون
يزعمون أنهم يمثلون الله في الأرض، فأي اعتداء منهم على الآخرين يعتبر كفراً، وليس
اعتداء بين جماعتين على خزائن الأرض، بل بين جماعة تزعم أنها تقاتل من أجل الله
وفي سبيله فإذا هي تفجر وتقتل باسم الله، بينما هي تقتل بتوجيهات الشيطان.
وإذا كان المقاتلون قد اعتدوا على حمير اليهود والخيل والبغال، فإن هذا
العمل شنيع، لأن تلك هي المواصلات الوحيدة في ذلك الزمن،
والقضاء عليها يعني القضاء على كل أنشطة المدينة، ومنها توفير الطعام في أنحاء
المدينة والقرى التي حولها، فهو فساد كبير.
وقد زعمت المرويات السابقة تحريم أكل الخيل والبغال، ولكن في مرويات أخرى
فقد أباح الرسول في فتح خيبر أكل الخيل والحمر الوحشية ومنع أكل الحمر الأهلية ([3]) وفي رواية أنه أكثر الناس في أكل الحمر حتى كادت
تُفنى، فبين لهم الرسول أن لحمها رجس ([4]) بل بلغ به الأمر أن أمر بكفء القدور التي فيها لحوم
الحمر رغم كونهم جياع ([5]) وفي رواية أن الرسول سافر إلى خيبر لفتحها على ظهر
حمار، بل كان يصلي على ظهر ذلك الحمار ([6]) وفي رواية صادف الرسول حمار موسوما في وجهه فلعن
فاعله ([7]) فمن الواضح النفس اليهودي في هذه المرويات التي تريد
حماية الحمار وتوقيره دون الخيل والبغال والحمر الوحشية.
لكن هذا لا يمنع حقيقة أن الرسول وقف ضد استهلاك المركوبات، فإذا أباح أكل
الحمر الوحشية دون الأهلية فليس ذلك لقداسة الحمير الأهلية، بل لأنها وسيلة نقل
مهمة داخل المدن والقرى، ولهذا نرجح أن هذا هو السبب الرئيس في منع أكلها، بل نجزم
أنه منع أكل الخيل لأنها في غاية الأهمية في الفتوحات التي يعد لها عدتها للقضاء
على الروم والفرس.
{ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
التنفير
من أكل الجمل:
في الكتب المقدسة اليهودية يُحرم أكل لحم
الجمل ([8]) وقد ساهم اليهود في نشر هذه الثقافة، فكاد أهل الرواية أن يحرموا
لحم الجمل، فجعلوه رجساً يجب الوضوء بعد تناول لحمه أو تناول لبنه، بل حتى مرابضه
لا يجوز الصلاة فيها ([9]) وقد أثر ذلك فعلاً على كثير من المسلمين، فامتنع كثير منهم عن أكل لحم
الإبل.
لا نعرف سبب هذا التحريم اليهودي، فقد كانت بداية يعقوب ويوسف مع تلك الإبل
والتي سماها القرآن العير {وَسْءَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ
الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}([10]) وقد يكون للأمر علاقة بمحاولة منع أكل المركوبات
لفائدتها في التنقل، وقد يكون السبب للعداوة التي بين الأعراب واليهود وأنهم
يعتبرون نجس وأن الجمل يمثلهم ويمثل حياتهم.
الغريب أنه حث على عدم أكل تلك المركوبات
مثل الخير والبغال والحمير، ولكنه لم يمنع من أكل الجمال
{ وَالْبُدْنَ
جَعَلْنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰئِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا
الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَٰهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
} [الحج: 36].
وقد شرحنا معنى البدن، وبينا أن أهل
التراث قالوا هو البقر والإبل، وبينا معنى التسخير وهو الاستفادة من حركة تلك
الكائنات في التنقل والسفر، فلا نجد حثاً على ترك الإبل للتنقل فقط، بل بين أنها
صالحة للأكل، فلعل القوم لم يكونوا يكثروا من أكلها لتأثير اليهود عليهم في تحريم
أكلها، أو لعلهم كانوا حريصين على حياتها لما فيه فائدة كبيرة، لأنها الأكثر صبراً
على السفر ومشاقه، فيصعب السفر بالحمار في الصحراء، فلم يكن هناك إشكال أو أزمة في
إبادتها.
التنفير
من أكل الضب وتحريمه:
أما حديثهم أن الرسول امتنع عن أكل لحم
الضب، فلا نقبله، لأن الرسول يعتبر مشرعاً وعدم أكله للحم الضب يعتبر كالتحريم عند
أتباعه، وهذا عمل لا يتفق مع طبيعة الجزيرة حيث ينقطع الطعام، والقوم في سفر دائم
وجهاد.
ثم يزعم مختلق الحديث أن الرسول امتنع عن
أكل الضب، لأنه غير منتشر في مناطق الحجاز ومكة المكرمة ([11]) فلم يعتد أكله، وهذا باطل فالضب منتشر في منطقة الحجاز ومكة ومعظم
الجزيرة، بل هناك رواية تزعم أن الرسول حرم أكل الضب ([12])
إباحة
أكل الضبع:
والعجيب كل العجب أنهم نفروا من أكل
الجمل والضب والحمار، ولكن أباح لهم الرسول عليه السلام أكل الضبع، كما زعموا، رغم
أنه أقذر حيوان على ظهر الأرض، فهو يأكل الجيف ويتلذذ بها، فناهيك عن كونه مفترس
وكل مفترس حرام، فهو لا يفترس إلا الجيف، وكأن هناك من يعبث بالمسلمين وطهارة
مأكلهم.
واختلف القوم في تحليل لحم الضبع، فقد
نسب جابر بن عبد الله تحليله إلى رسول الله ([13]) أما سعيد بن المسيب فتعجب
كيف يأكله الناس ([14]) وقد أباح ابن عباس أكله باعتبار أن الضبع كبشٌ، كما أحله الشافعي
باعتبار أنه لا يتغذى بالعدوى، بل زعم الشافعي أن لحم الضبع يباع بين الصفا
والمروة. كما أحله ابن حنبل وأبو ثور وأصحاب الحديث، ورأى مالك كراهة أكله وذهب
إلى أنه إثم دون تحريم، وحرمه أبو حنيفة، وكذلك سعيد بن المسيب والثوري ([15]) فالتوجه العام لدى القوم هو
تحليل أكله.
مواجهة
القرآن لهذه التحريمات:
هذه التحريمات اليهودية والقرشية وخاصة
اليهودية، ورد صداها في القرآن المكرم فتعجم في عشرات الآيات كيف يحرمون ما أحله
الله، مما كان يسبب بمجاعات.
ولم يحرم القرآن أكل الخيل والبغال
والحمير، ولكنه بين فائدتها الأساسية، فهي وسائل التنقل الوحيدة في ذلك الزمن، فإن
استهلاكها سيضر بالأمن الغذائي للقرى، ذلك لأن القرى ستكون معزولة، فلا تصل إليها
البضائع ولا تصدر بضائعها للآخرين وهذا فيه فساد كبير وسيؤدي إلى المجاعة، فهو
يبين فائدة تلك المركوبات الأساسية، للتوقف عن أكلها والاستفادة من تسخيرها أي
الاستفادة من حركاتها وتنقلاتها كما شرحنا في معنى الجذر سخر
{ لِتَسْتَوُا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا
سُبْحَٰنَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
} [الزخرف: 13].
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
[النحل: 8].
فالغرض الأساسي من خلق تلك العجماوات هو
تسخيرها أي التنقل بواسطتها، نعم لا يوجد حرمة في أكلها عند الضرورة، ولكن
استهلاكها حتى القضاء عليها تماماً، يعد فساداً يؤدي إلى المجاعة.
وقد وعد المولى البشر أنه سيخلق لهم ما
لا يعلمون، مما سيكون بديلاً عن تلك المركوبات، فكما أوحى الله بصناعة الفلك أي
السفن، فكذلك سيعلمهم صناعات أخرى ونشاهدها اليوم في السيارات والقطارات والطائرات
التي جعلتنا في غنى عن تلك المركوبات
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37].
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي
الْبَحْرِ} [إبراهيم: 32].
الخبائث
والطيبات:
وقد كرر القرآن المحرمات الغذائية بدقة
حتى يتوقف سكان الجزيرة عن تحريماتهم الغذائية فحددها بأربعة فقط وهي الميتة والدم
ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، لما فيها من رجس مادي وفسق معنوي. وتكلم
القرآن بصورة عامة عن الطعام المحرم وهو الخبيث، وحث على أكل الطعام الطيب وهو من
الطيبات
{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ} [الأعراف: 157].
{ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَٰتِ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87].
ثم ضرب بعض الأمثلة على الطعام الخبيث
مثل: الميتة والدم ولحم الخنزير، أو تلك الأطعمة التي يعتبرها فسق مثل الأطعمة
التي تقدم لغير الله.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173].
كما وضح أنواع الميتة، وهي الموقوذة
والمنخنقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، وذلك لأنها كلها ميتة تعرضت للتلوث
البكتيري بسبب بقاء الدم داخلها
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَٰمِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3].
تحريمات
الذين هادوا:
نعت القرآن الذين يحرمون من عند أنفسهم
بالذين هادوا ولم يقل اليهود ولم يقل بني إسرائيل، والذين هادوا هم أقل اليهود
اتباعاً لأمر الله، فهم يسيرون خلف أحبارهم، فعاقبهم المولى بأن سلط عليهم رجال
دين متشددين يحرمون عليهم الطيبات
{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا
إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَٰلِكَ
جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ
} [الأنعام: 146].
{ وَعَلَى الَّذِينَ
هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَٰهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
} [النحل: 118].
فالمولى لم يظلمهم بتلك التحريمات، بل
أذن فقط لرجال دينهم أن يتخذوا هذا المنحى المتشدد، وأن تكون لهم الكلمة عليهم،
فلما جاء الرسول كانت من ضمن مهامه إعادة الصواب لهم والتوقف عن تلك التحريمات.
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ
يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
وقد كانت حجة رجال دينهم أن تلك المحرمات
من توجيهات جدهم إسرائيل، وأنه حرم ذلك قبل أن تنزل التوراة، فجادلهم القرآن، أنه
لو كانت تلك المحرمات قبل نزول التوراة كان يجب أن تشير إليها التوراة، فكيف تترك
أمراً خطيراً دون أن تذكره، وتبين أن إسرائيل هو من حرم على نفسه.
{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰءِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن
تُنَزَّلَ التَّوْرَىٰةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَىٰةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ
} [آل عمران: 93].
وقد قالوا بهذه الكذبة وأن إسرائيل حرم
تلك المحرمات قبل نزول التوراة، لكي يبرروا عدم وجودها في التوراة، فقد طالبهم
الناس بالنصوص التي تحرم تلك الطيبات، فزعموا أنها قديمة قبل نزول التوراة، أي عن
طريق المرويات المزيفة، وقيل وقال عن فلان وعلان. فلا يمكن للنبي يعقوب الذي هو
إسرائيل -كما نتصور- أن يحرم من عنده وما نُسب إليه هو كذب محض.
تحريمات
الوثنيون:
بالإضافة إلى تحريمات أهل الكتاب في
الجزيرة العربية، والذين يشكلون خمسين بالمئة من السكان في ذلك الزمن، فإن
الوثنيين والذين تقودهم قريش، اختلقوا تحريمات من عند أنفسهم، ونسبوا هذا الأمر
إلى أجدادهم فرد عليهم القرآن:
{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا
مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148].
{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ
مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا
مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [النحل: 35].
ومن وقاحتهم لم يكتفوا بنسبة التحريم
لآبائهم فقط، بل أضافوا الأمر لله، فالله لو شاء لما أذن لهم بتحريم تلك المحرمات،
فطالبهم بأن يأتوا بالشهداء الذين شهدوا أن الله قد حرم هذه المحرمات، بل أصروا
على الكذب على الله وافتروا عليه
{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ
أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا} [الأنعام:
150].
{ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ} [النحل: 116].
وقد كانت محرمات المشركين بأشياء عجيبة،
فقد حرموا بعض اللحوم على بعض الفئات، وأنعام ذبحوها لغير الله، وإن كانوا مدركين
أن الذبح يكون لله، فقد كانت بعض ذبائحهم لله وليس كلها للأصنام. كما أن بعض
اللحوم حرموها على الإناث وحللوها للذكور، وأحلوا الميتة للجميع.
{ وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا
مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَٰمٌ لَّا يَذْكُرُونَ
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
} [الأنعام: 138].
{ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَٰمِ
خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً
فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام: 139].
{ ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ
اثْنَيْنِ قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ نَبِّءُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ } [الأنعام: 143].
{ قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ } [الأنعام: 145].
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَٰتِ
مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً
يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 32].
{ قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم
مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَٰلًا قُلْ ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ
} [يونس: 59].
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 115].
لقد سببت هذه المحرمات الكثيرة من قبل
أهل الكتاب ومن قبل المشركين العرب إلى تفاقم أزمة المجاعات، ثم أدت إلى أنهم
أباحوا لأنفسهم قتل أولادهم حتى لا يصبح عدد الأفواه أكثر من قدرة الطعام على سد الجوع.
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ } [الأنعام: 140].
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَٰقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا } [الإسراء: 31].
وهذا هو الإملاق، فالإملاق ليس الفقر،
فقد يكون المجتمع غنياً بالذهب والفضة والقصور، ولكن الطعام لا يفي بحاجة السكان، خاصة
مع وجود تلك المحرمات، فيقوم هؤلاء بقتل الأولاد وهي ظاهرة عالمية تواجد في كثير
من الأمم.
لهذا جاء الدين ليحارب هذه التحريمات
التي دمرت المجتمعات وقضت على الود والرحمة فصار الآباء يقتلون أولادهم وئداً حتى
لا تنشأ المجاعة، خاصة في ظل تلك الحرب الكونية التي قضت على الأخضر واليابس.
تحريم
الصيد والناس حُرم:
{ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ
مَا يُرِيدُ } [المائدة: 1].
ظن المسلمون أن المقصود بالحرم، هو كل من
كان في حج وعمرة، فإن أردنا البحث عن علة التحريم، لن نجد سبباً معقولاً، فإن
كانوا يتصورون أنه نوع من الزهد والورع، فإن الحجاج يذبحون ألوف الأنعام، فليس
المقصود به الورع، والتقشف، والرحمة، والإنسانية.
فما
هي العلة إذاً؟
العلة تتبين عند فهم معنى حُرم، ونزعم
أنه يقصد به الأشهر الحرم الأربعة، التي هي موسم تكاثر الحيوان، فنحن حُرمٌ طالما
كانت الأشهر هي الأشهر الحُرم، وليس المقصود به الحجاج والمعتمرين، فلو كان الأمر
موجهاً إلى الحجاج لكان الخطاب دقيقاً ولقال يا أيها
الحجاج والمعتمرين ولم يقل يا أيها الذين آمنوا، ونحن نعلم أن الذين آمنوا
يقصد بهم أهل الكتاب الذين بدأوا بتقبل الدين الجديد وإن لم ينضموا إليه بالكلية.
{ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:
95].
والحاج في سفر وتعب، ولا يجد وقتاً للصيد
والقتل، وإنما الكلام موجه للبشرية في وقت الأشهر الحرم.
وقد يقول قائل إن هذا المنع للصيد في
أربعة أشهر يناقض زعمك أن هناك مجاعات في الجزيرة بسبب كثرة التحريمات، فنقول إن
هذا المنع المؤقت للصيد، يساعد في التقليل من المجاعات، لأن الطيور والدواب تتكاثر
في هذا الوقت، مما يجعلها تتوفر بغزارة في بقية الأشهر، وبهذا تمتنع المجاعة، فهذا
التحريم الموقت يساعد في القضاء على الإملاق أي المجاعة.
بالإضافة إلى ذلك أنه أباح صيد البحر في
هذه الأشهر الحرم، فلا سبيل إلى المجاعة في تلك الأشهر، وللبحر نظام تكاثر يختلف
عن كائنات البر لهذا أباحه طول الوقت
{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعَامُهُ مَتَٰعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ
مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [المائدة: 96]
لاحظ أن الآية استخدمت المصطلح (ما دمتم)
والذي هو ظرف زمان، أي يتكلم عن وقت محدد والذي هو الأشهر الحرم، ولو قصد الحجاج لقال
ما كنتم حجاجاً أو حرماً للحج.
التعجل
في محاربة الفرس والروم:
بقي أن نبحث أهم وسيلة في القضاء على
الإملاق الذي نسميه المجاعة، هو القضاء على قوة الفرس والروم، فهما السبب الكبير
في تلك المجاعة التي زامنت ظهور الرسول الكريم، وهذا ما نلاحظه في خط سير معاركه
التي كانت تتجه نحو الشمال دون الجنوب، فقد قاد سريعاً جيوشه نحو مؤتة وتبوك ودومة
الجندل وخيبر وغيرها من المناطق الشمالية دون أن يرسل الجيوش جنوباً إلا في فتح
مكة والطائف فقط، ولكي يُؤمن على ظهر المسلمين، حتى أنه جهز الجيوش قبل رحيله،
بقيادة أسامة بن زيد، كما تشير الروايات، وما أن تولى تلاميذه حتى انطلقت جيوشهم
نحو الفرس والروم وقضت عليهم في بضع سنين، وذلك ما وعدهم به الرسول عليه السلام،
فقد كان يعدهم بتدمير الفرس والروم منذ اليوم الأول بل قال أحد المنافقين مندهشاً
أثناء حصار الكفار للمدينة في معركة الخندق
«يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لَا
يَأْمَنُ عَلَى خَلَائِهِ.»([16])
الخلاصة:
ظهر الرسول الكريم، في عصر الفتن
والمجاعات، فقد أرسله المولى رحمة بالناس للقضاء على الجوع والخوف والظلم، فكان
لديه برنامج متكامل للقضاء على الجوع.
فواجه الإسلام مجتمعات تعاني من وباء
التحريم، وتظنه من المزايا في مجتمعاتهم ودينهم، وهذه التحريمات ليست من عند الله،
بل من عند الشيطان لكي يجعل الإنسان يجحد ربه وينكر تحريماته ويعتبرها قسوة، فجاء
الإسلام ليبطل تلك التحريمات لكي يعود الإنسان إلى ربه بحب وتوقير.
وبلغت قسوة نتائج تلك التحريمات أن قتل الآباء
أولادهم بالوأد، كيلا تحدث المجاعة، التي يسميها القرآن إملاق، فأعاد القرآن الوعي
للناس، ولكي يحدث الاكتفاء عندهم من الغذاء بإيقاف تلك المحرمات.
ومن ضمن تشريعاته أنه أوصى بعدم قتل
المركوبات، لأنها وسائل تنقل بين المدن والقرى، ولهذا يتنقل الطعام بين تلك
المناطق فلا تصاب منطقة بانقطاع الطعام، فلو سفك هؤلاء دماء المركوبات لانقطعت
وسائل المواصلات وهذا ما حدث في خيبر، إن قبلنا بتلك المرويات.
كما أنه منع الصيد في الأشهر الحرم والتي
فيها تتكاثر الحيوانات والطيور، وبهذا يتوفر الغذاء بقية الأشهر، فالإسلام أول من
جاء لكي يعمل بما يشبه المحميات، بل جعل كل المنطقة محمية لتلك الكائنات فتتكاثر في
أمان.
كما أنه وجه سيفه نحو الشمال للقضاء على
السبب الرئيس في المجاعات وهم الفرس والروم، لهذا قال الله عنه أنه رحمة للعالمين،
أي رحمة من تلك المجاعات ورحمة من ظلم تلك الأمم.
وبهذا استطاع الرسول إيقاف وئد الأطفال، كما
وفر الغذاء للمجتمعات، وبهذا تفرغ الناس للإصلاح بدلاً من قطع الطريق والنهب لما
يعانيه المجتمع من جوع وفاقة.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك