أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 آخر الأخبار
مفردات

بعل في القرآن المكرم

بعل في القرآن المكرم بعل لغة: له ثلاثة أصول: الأول بمعنى الصاحب، ومنها البعال أي ملاعبة الرجل أهل...
تفسير

مفتاح سورة البقرة

مفتاح سورة البقرة   نبذة تاريخية مهمة: حتى نفهم سورة (البقرة) يجب أن ندرس عقائد اليهود التي ...

مفتاح سورة البقرة




مفتاح سورة البقرة

 

نبذة تاريخية مهمة:

حتى نفهم سورة (البقرة) يجب أن ندرس عقائد اليهود التي كانت في زمن الرسول، لأن السورة موجهة إلى اليهود بشكل واضح وصريح.

فقد ركزت السورة على موضوع رئيس، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر والذي نتج عنه فجور وفساد القوم، لأنهم يعتقدون أنهم بلا حسيب ولا رقيب، ولن يكون هناك جزاء وعقاب، فلماذا يعملون الخير؟

فلا يوجد في التوراة ذكر للآخرة والجنة والنار والبعث، لهذا اكتفى القوم بالدنيا ونعيمها، واعتبروا التنعم فيها هو الجنة، نعم يوجد نص في سفر دانيال " وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي " ([1]) ولكن لا يعقل أن تقوم عقيدة كاملة من نص هامشي في سفر غير مهم بالنسبة لهم، هذا لو افترضنا أنهم لم يفسروه وفق هواهم وأنه يقصد الترهيب لا أكثر.

ناهيك على أن القرآن ذكر أنهم لا يظهرون كثير من النصوص للعامة، ولعل منها هذا المفهوم الذي يتكلم عن الآخرة، فقد توجد بعض النصوص، ولكنها مهملة ومكتومة ومخفية كما يقول القرآن.

وقد ظهرت فرق منهم تنكر القيامة صراحة مثل الصدوقيين فالعقاب والثواب في الدنيا فقط أثناء حياة الشخص. أما فرقة الفريسيين فلا يعتقدون بوجود الآخرة وإنما سيتم إحياء الصالحين ليشتركوا مع المسيح في ملكه.

وكل وعود الكتب المقدسة لديهم، لمن يعمل الصالحات، هو الجزاء في الدنيا بكثرة الانجاب ونمو الزرع والنصرة على الأعداء. وعلى العكس فإن العصاة عقابهم في الدنيا فقط من قلة الإنجاب وقلة الزرع وانتصار الأعداء عليهم.

لكن التلمود قد ذكر الجنة والنار فقال: "أن الجنة مأوى الأرواح الزكية لا يدخلها إلا اليهود، والجحيم مأوى الكفار، ولا نصيب لهم فيه سوى البكاء؛ لما فيه من الظلام والعفونة والطين، وأن الجحيم أوسع من النعيم ستين مرَّة" لكن كما ذكرنا فلا نعلم هل هذا من النصوص المخفية عن العامة، أم أن التلمود كتاب لم يكن في حوزة يهود المدينة.

كما تطور الفكر اليهودي عند موسى بن ميمون المتأثر بالفكر الإسلامي فصار الإيمان بالبعث ركن من أركان الدين اليهودي، فيقول: (أنا أؤمن إيماناً كاملاً بقيامة الموتى، في الوقت الذي تنبعث فيه بذلك إرادة الخالق- تبارك اسمه وتعالى ذكره- الآن وإلى أبد الآبدين) وتصريحه هذا يؤكد أن موضوع الإيمان بالآخرة محل جدل عند القوم أو ربما فكرة جديدة بالكلية عندهم.

ويقول صاحب موسوعة الأديان: " وهذا ليس فيه تصريح باليوم الآخر؛ لاحتمال أن يقصد بذلك بعثاً دنيويًّا على نحو عقيدة الفريسيين "  ([2]) وليس عندي اعتراض على اعتقادهم أنهم سيبعثون في الدنيا أو الآخرة، ففي الأخير من يعتقد ذلك سيلتزم أخلاقياً سواء أكان عودة للدنيا أو عودة ليوم آخر، لكن سلوكهم العام يؤكد أنهم يعتقدون أنها حياة واحدة لهذا يحرصون عليها ولو كانت حياة بائسة.

والصحيح أن المقصود باليوم الآخر هو يوم البشر وليس يوم الأرض، أي أن لهم يوم آخر يعودون فيه إلى الحياة، فمهما كانت فكرتهم فالنتيجة واحدة وهي أنهم سيعودون للحساب وهذا هو مقصد الكتاب المقدس وهو تحذيرهم لكي يحسن سلوكهم.

وبناء على هذا التمهيد التاريخي نأتي على دراسة السورة المبجلة التي تسمى البقرة.

مفتاح السورة:

مفتاح السورة كلها في كلمة ريب، فهي كالشمس التي تدور حولها كل معاني السورة، فهذا هو غرضها الأساسي، أي أن السورة تريد مناقشة موضوع الريب الذي عند اليهود.

لهذا كان يفترض أن تسمى سورة الارتياب العظيم أو سورة الرد على الملحدين، وتسمية السورة بالبقرة خطأ عظيم، وقع فيه من فعل ذلك لعله عن غير قصد، فقد شتت الأذهان عن فهم مقاصد السورة، وكأن السورة كلها ليس فيها إلا تلك البقرة التي أحيت ذلك الغلام.

وقد شرحنا معنى الريب وهو الشك في قائل الكلام وليس في الكلام نفسه فقط، فمشكلتهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة ويعتقدون أن الله يخيفهم لكي يرتدعوا ويقوموا بالأعمال الصالحة، وليس هناك آخرة على الحقيقة، أو أن ريبهم في الرسول نفسه سواء أكان موسى أم محمد، وأنه ينشر هذا المعتقد لكي يصلح سلوك الناس فقط، أو لكي يتسلط عليهم ويحكمهم.

وكلما ضرب الله لهم مثلاً من الحياة وكيف تعود من جديد سخروا من ذلك المثل، وقالوا في السورة: ماذا أراد الله بهذا مثلاً. وقد بينت لهم السورة أن الأمثال ليس لها قوة، بكبر الحجم أو قوة الكائن، بل في حقيقة الأمر وتماثله مع حياتهم وأنفسهم { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَٰسِقِينَ }  [البقرة: 26].

وقد ضربت السورة عشرات الأمثلة في عودة الحياة، كعودة الزرع بعد موته وعودة الليل بعد ذهابه وكذلك النهار

فهم يستغربون من كلام الله أو من كلام الرسول أي يشكون في صاحب الكلام وأن له مقصد آخر فهم يرجحون أنه لا توجد آخرة وآيات الآخرة يقصد بها التخويف وليس على حقيقتها.

والآن سنناقش الموضوعات التي ارتاب فيها اليهود والسبب في ذلك الارتياب والدوافع التي دفعتهم لتبني هذا الرأي:

عدم الإيمان بالله:

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]

{ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ } [البقرة: 68]

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } [البقرة: 118]

{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177]

{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } [البقرة: 264]

ولا ندري هل اليهود لا يؤمنون بالله وجوداً أم كانوا لا يؤمنون بقدرة الله أم كانوا لا يؤمنون بعنايته ومراقبته لهم، ومهما يكن المقصد فإن النتيجة واحدة، فالله لا يعني لهم شيئاً – نعوذ بالله من هذا الكفر- ولهذا كانت تصرفاتهم وفق هواهم وشهواتهم، فلا يراعون أي أخلاق حميدة.

ونرجح أنهم خليط بين من لا يؤمن بوجوده أو لا يؤمن بقدرته كالذين قالوا إن الله فقير {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ }([3])  أو أن الله بخيل { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}([4])  أو عدم قدرته على نصرهم {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَا}([5])  نعوذ بالله من كفرهم وفجورهم ونكرانهم الذي يشابه كفر الشيطان نفسه.

فمهما كان اعتقادهم عن الله فالنتيجة واحدة وهو شعورهم بأن الله غير موجود أو مؤثر أو مهتم، لهذا لا ينبغي تكليف أنفسنا بتشريعات لن يحاسبنا عليها أحدٌ. وهنا يجب أن ننوه إلى أنه ليس كل اليهود كذلك فمنهم سابق بالخيرات ومنهم مقتصد ومنهم من سلك طريق الأنبياء.

عدم الإيمان بالآخرة:

{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } [البقرة: 264]

{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177]

ذكر يوم القيامة على صيغة (اليوم الآخر) أو كلمة (الآخرة) 17 مرة في سورة البقرة وحدها. وهو كثير ويدلل على أهمية هذا المفهوم الذي لا يؤمن به اليهود، لأنه سبب في فساد أخلاقهم وسلوكهم، فلا يوجد من سيحاسبهم لأنه لا يوجد يوم للحساب، وهذا هو الريب الثاني الذي كانوا يرتابون فيه.

الحياة بعد الموت (البعث):

في هذه السورة، ذكر المولى قصصاً عن عودة الحياة بعد الموت، فقال {ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }([6])  أو الآية{فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ }([7]) أو إماتة الرجل الصالح مئة عام ثم بعثه {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}([8])  أو إحياء الغلام الميت بواسطة البقرة  {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَىٰ}([9]) أو جدل إبراهيم مع النمرود {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}([10])  أو سؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى يوم القيامة {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}([11])

فهذا التكرار لهذا المفهوم يدلل على أن القوم لديهم ريب عظيم في البعث، فسرد لهم تلك القصص لعلهم يؤمنوا بالبعث، وهي قصص يعلمون بعضها وربما لا يعلمون بعضها الآخر، لكنها في الأخير هزت وجدانهم ومن كان بقلب سليم، فتحول كثير منهم إلى الإسلام أو بقي على دينه لكن المفهوم ترسخ لديه بتأثير المسلمين.

القتلى في سبيل الله أحياء:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]

بل يؤكد هذا النص أن الأموات الذين قتلوا للتو، هم أحياء، ولكن نحن لا نشعر بذلك، بل الله يرزقهم أي يطعمهم ويسقيهم، وربما هم يشعرون بنا ويرون تصرفنا، ولا نعلم الكيفية، فإذا تم قبرهم أي تحولوا من أموات إلى موتى تزول عنهم الحياة التي لا نشعر بها ([12])

فلم يكتف القرآن بتأكيد البعث، فها هو يؤكد أن المقتول في سبيل الله حي يرزق لا نشعر نحن بحياته.

عبادتهم للحياة:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } [البقرة: 86]

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 212]

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]

 نتيجة طبيعية أن اليهود يريدون أن يتشبثوا بهذه الحياة فقد بينا أن معظم اليهود – في زمن الرسول على الأقل- لا يؤمنون بالآخرة والعودة، لهذا يتشبثون بهذه الحياة حتى لو كانت مذلة، لكن من كان يروج لمثل هذه المعتقدات هم من كان يتنعم بالحياة وكان من الأغنياء وقد امتازت بعض جماعاتهم بالغنى مثل الصدوقيين الذين كانوا لا يؤمنون بالآخرة، فما حاجتهم للآخرة وهي حاضرة بين أيديهم.

أحباب الله:

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ}  [المائدة: 18].

وسوف نرى من خلال النصوص أن القوم بعد أن عجزوا عن الرد على مسألة يوم القيامة، فزعموا أنهم أحباب الله والله لا يعذب أحبابه، فيقول اليهود سوف نقر أن هناك آخرة، ولكن لن نُعذب، بل بقية البشر هم المعذبين

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94]

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111]

دفاعات ضد العذاب:

بعد أن آمن بعض اليهود باليوم الآخر بسبب تأثير المسلمين والرسول، أو حتى ببعض القرآن، أو تظاهروا بذلك، لم يتمسكوا بالتكاليف وكانت لديهم مفاهيم مثل الشفاعة والخلة وتقديم القربات يوم القيامة تغنيهم عن الأعمال الصالحة، نعم صاروا يؤمنون باليوم الآخر، ولكن ما حاجتهم للعمل ولديهم مثل هذه الوسائل تنقذهم يوم القيامة. وللأسف انتشرت هذه الثقافة بين المسلمين، بل أسوأ منها فيكفي أن تحب محمد وأن تقول لا إله إلا الله لتدخل الجنة.

وكما ذكرنا فإن الذين آمنوا يقصد به اليهود الذين آمنوا بالآخرة وبالله وليس يقصد به الذين آمنوا بالرسول وتحولوا عن دينهم إلى دين الرسول

{ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ}  [النساء: 136].

فيرد على تلك الأماني التي كانوا يتمنونها ويعتقدونها مثل البيع والخلة والشفاعة.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]

ثم يوجه القرآن الرسول أن يبشر اليهود الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات أن لهم الجنة، حتى ولو لم يتركوا كتبهم المقدسة ومجتمعهم اليهودي، فيتحولوا إلى الإسلام فيكفي أن يؤمنوا بالله والآخرة ويقوموا بالعمل الصالح.

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}[البقرة: 25].

فالسورة كلها تتكلم عن الحريات الدينية ولا يهم تحت أي اسم كان الإنسان المهم هو أن يؤمن بالآخرة ويعمل الصالحات، حتى لو بقي اسمه يهودي أو نصراني أو من أتباع محمد عليه السلام.

{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَٰرَىٰ وَالصَّٰبِءِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }  [البقرة: 62].

عذاب محدود:

{ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }  [البقرة: 80].

{ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَٰتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ }  [آل عمران: 24].

 بعد أن حطم القرآن مفاهيم اليهود في إنكار يوم القيامة وحطم معتقد أنهم أحباب الله ثم حطم مفهوم الشفاعة والوساطات، زعموا كحيلة أخيره، أنه إن عذبنا الله فهي مجرد أيام معدودات أي عشرة فأقل، وكتبهم تعج بمثل هذه الأماني والمزاعم. فلا يهم، حتى لو عذبنا الله يا محمد فلن يعذبنا إلا أيام معدودات، فلا حاجة لنا بتعديل سلوكنا وتصرفاتنا أو الإيمان بدينك.

إهمالهم لكتابهم:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]

{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 93]

وبما أنهم لا يؤمنون بالآخرة فهم ليسوا بحاجة إلى التمسك بالتشريعات، وأن هناك حيل أخرى لو كانت هناك قيامة، مثل الشفاعة ومثل حب الله لهم. وقد لاحظ الرسول استهتار اليهود بالمدينة من التشريعات، فكانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وكانوا يبيحون الظلم والفساد خاصة ضد المرأة والأطفال.

والسورة ابتدأت بجملة (ذلك الكتاب) والذي يقصد به التوراة حتماً، الذي صار القوم يرتابون من بعض عقائده مثل الإيمان بالآخرة. فجاء الرسول ليحثهم ويحذرهم من إهماله وتركه، بسبب ريبهم من بعضه.

إصلاح السلوك والعمل:

بعد أن هيئت السورة نفسيات أهل الكتاب للإيمان بالله واليوم الآخر، وأن الله لا يهملهم ولا يحابيهم ولا يجاملهم وأن المعيار عنده هو العمل الصالح، قدمت لهم بعض التشريعات التي أهملوها أو قدمت تشريعات أخرى توازيها أو تتفوق عليها، تتناسب مع الزمن الجديد. 

هذه التشريعات لم تكن لتُطبق وينفذونها لولا إيمانهم بالآخرة، التي هي دافع قوي جداً لكي يصلح الإنسان سلوكه على مبدأ العصا والجزرة، فهناك من سينال الأجر الطيب لعمله الطيب، وهناك من يستحق العصا لأنه عصى.

من تلك التشريعات الصدقات والقول الحسن والاستماع إلى النصائح. وأيضا الحج وتقديم الأضاحي لأهل مكة. ومنها التوقف عن تحريمات الطعام التي سببت المجاعة للسكان. والوفاء بالعهد والصبر في المعارك، والقصاص في القتلى، والصلاة التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها مما ذكرته السورة.

وهذا العمل الصالح دليل قاطع على تغلغل الإيمان في قلب فاعله، أي الإيمان بالله وقدرته وعنايته بالبشر، والإيمان باليوم الآخر الذي هو يوم الحساب يجعله من المتقين الذين يتوقون أفعال الشر.

التقوى هي الغرض:

{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 281]

بعد كل هذا يتبين لنا الغرض من تحذيرهم من الكفر بالله واليوم الآخر، وهو التقوى أي إصلاح سلوكهم، لهذا كان التشديد وكثرة التذكير بيوم القيامة، لأنه وسيلة ودافع قوي للعمل الصالح، فلولا هذا الإيمان سيسقط الإنسان حتماً.

  الخلاصة:

أن السورة التي سميت بالبقرة عن جهل وكسل، مثل غيرها من السور المدنية الموجهة لليهود الذين احتفظوا بيهوديتهم وتعصبوا لملتهم، وهي لم تطالبهم بمغادرة دينهم والقطيعة معه بالكلية، بل طالبتهم باحترام دينهم وتطبيقه على أرض الواقع فقد صار كتابهم وراء ظهرهم من شدة الإهمال، فأرادت السورة إعادة الاعتبار لدينهم وتبجيله بعد إهمال. وذلك الكتاب يقصد به التوراة.

ثم بينت السبب في ذلك هو عدم إيمانهم بالله أولاً ثم عدم الإيمان بالآخرة ثانياً، وعدم الإيمان بالله، قد لا يعني عدم الإيمان بوجوده، بل قد يعني عدم الاعتقاد بأنه مهتم بهم أو عدم قدرته على نصرتهم، أو عدم رغبته في محاسبتهم.

كذلك الإيمان بالآخرة فهو معدوم، فلما جادلهم القرآن وذكر لهم عشرات الأدلة على عودة الحياة للموتى، انتقلوا إلى فكرة أنهم أحباب الله لن يعذبهم، فلما حاججهم القرآن بأنهم معذبون في الدنيا أشد العذاب، وهذا دليل أنهم مجرد خلق مثل بقية الخلق، انتقلوا إلى فكرة الخلة والشفاعة، فلما جادلهم وفند أفكارهم انتقلوا إلى فكرة أنهم سيعذبون أياماً أقل من عشرة.

ثم سرد لهم الكثير من التشريعات التي انتهكوها وتلاعبهم الشديد على العامة، وجعل الدين أمنيات فلا حاجة إلى العمل الصالح الذي نسميه بالتشريعات، فهم أحباب الله وهم يهود لهم ميزة، وهم سينالون الشفاعة، وكل هذا يجعلهم في حل من الالتزامات الدينية.

بل إن الأحبار يدسون ويكتمون تلك التشريعات والتعليمات، فجاء القرآن لإخراج ما في كتابهم من منسيات، تجاهلها الأحبار، ووجد العامة في ذلك نفع لهم لكي يتحللوا من كل التزام، لهذا نجد العامة يرفضون التخلي عن أحبارهم، ويتمسكون بدينهم المترس بالأمنيات، الفارغ من أي تشريع، خاصة وأنه دين عنصري قبائلي فيه وحدتهم وتكتلهم وقوتهم العنصرية.

وقد كانت حجة الأحبار الأصلية وأن تلك التخويفات من يوم القيامة ليست على حقيقتها (ريب) بل هي مجرد تحذير وهمي لليهودي كي ينضبط سلوكه بتعاليم الدين، وأنه لا يوجد يوم آخر فإن وجد فهم أحباب الله، فإن عذبوا سيعذبون قليلاً.

وبهذا، نجد هذا المفتاح يكشف لنا كل معاني الآيات، وأنها كلٌ متكامل ونسيج واحد، وأن كل القصص والتفريعات تصب في موضوع واحد، وهو الريب من الآخرة، فقد تكلمت السورة عن دوافعه وأسبابه ونتائجه.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني

 

 



([1])  (سفر دانيال) (12/2)

([2])  كل هذا منقول من الموسوعة الدينية https://dorar.net/adyan/247/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AE%D8%B1-%D9%84%D8%AF%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF

([3]) [آل عمران: 181].

([4]) [المائدة: 64].

([5]) [المائدة: 24].

([6]) [البقرة: 56].

          ([7]) [البقرة: 243]

([8]) [البقرة: 259].

([9]) [البقرة: 73].

([10]) [البقرة: 258]

([11]) [البقرة: 260]

([12]) أنظر الفرق بين الأموات والموتى في المعجم.


ali
ali
تعليقات