أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 آخر الأخبار

تفسير سورة العاديات




تفسير سورة العاديات

{ وَالْعَٰدِيَٰتِ ضَبْحًا ١ فَالْمُورِيَٰتِ قَدْحًا ٢ فَالْمُغِيرَٰتِ صُبْحًا ٣ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ٤ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ٥ إِنَّ الْإِنسَٰنَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ٦ وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ ٧ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ٨ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ٩ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ١٠ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ١١ }  [سُورة العاديات].

نظراً لما قرأته من تفسيرات بعيدة عن المعنى، فقد تفرغت لتفسير هذه السورة، أريد به الحقيقة ووجه الله، فإن أصبت فمن الله وإن أخطئت فمن نفسي والشيطان

رأي أهل التراث:

زعموا أن الرسول بعث سرية إلى منطقة ما وتأخر خبرها، فنزلت السورة تطمئن المؤمنين وترد على المنافقين. وحاروا في مكانها فقالوا في تهامة وقال آخرون، بل جهة فدك وقال ثالث، بل جهة عرفة. وحاروا في أمر العاديات فقالوا هي الإبل، وقال آخرون، بل هي الخيل. بل وحاروا في المقصود فقالوا هي الغزو وقالوا، بل العاديات في الحج، فالعاديات هي الإبل في الحج. وذهبوا إلى أن الموريات قدحاً هو المكر ضد المشركين .ويرى ابن عباس أن إثارة النقع يقصد بها حوافر الخيل تثير الغبار. وقال آخر هي الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم. ويرون أن الضبح هو الصوت الذي يصدره الخيل وقيل، بل الكلب وقيل، بل الثعلب وقالوا هو: أح أح " ([1]) والخلاصة أن ابن عباس يرى العاديات هم الخيل في الغزوات، بينما يرى علي بن أبي طالب أن العاديات هم الإبل في معركة بدر.

تفسير الرازي:

ويستحسن أن ننقل كلام المفسر الرازي لأنه عرض كل الأقوال السابقة؛ فالموريات قدحاً أي الحوافر ترمي بالحجر من شدة العدو، فتضرب به حجراً آخر فتوري النار. أو يكون المعنى الذين يركبون الإبل وهم الحجاج، فأوقدوا نيراهم بمزدلفة. والمغيرات أي سرعة السير يوم النحر إلى منى، فأثرن به غباراً بين مزدلفة ومنى. ثم وسطن به جمعاً يعني مزدلفة لاجتماع الحجاج بها. والإيراء هو إخراج النار والقدح هو الصك، فنقول قدح فأورى. وذكر الرازي رأي من قال إن الموريات هي الألسنة توري نار العداوة لعظم ما تتكلم به. وأورد رأياً نُسب إلى ابن عباس وهو أن أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة.

 أم النقع فيرى بعضهم أن الغبار يثار من الخيل، ويرى آخرون أن النقع هو الصباح. والكنود هو الكفور، وقال الحسن: " الكنود اللوام لربه يعد المحن والمصائب، وينسى النعم والراحات" وقد توقف الرازي عند لفظة "ما في القبور" فكان يفترض أن يقال من في القبور، لأن من في القبور هم بشر عقلاء، فلا يستخدم معهم إلا لفظة من وليس ما.

أما تحصيل ما في الصدور فقد نقل الرازي أقوال السابقين، فيرى الليث أن الحاصل من كل شيء ما بقي وثبت وذهب سواه. وحُصل أي جمع في الصحف، وهناك قول آخر يرى أن كثيراً ما يكون باطن الإنسان بخلاف ظاهره، فيوم القيامة تنكشف الأسرار وتنتهك الأستار، ويظهر ما في البواطن. ويدل عليه قوله تعالى: يوم تبلى السرائر. أما لماذا قال حصل ما في الصدور ولم يقل حصل ما في القلوب فيرى الرازي أن القلب مطية الروح بينما الصدر فهو محل النفس ولهذا قال عن الشيطان: يوسوس في صدور الناس ([2]) .

أقوال المعاجم:

الضبح في المعاجم:

 أصلان أحدهما الصوت والآخر تغير لون من فعل النار. فضبح الثعلب أي أصدر صوته. وضبح العاديات هو صوت أنفاسها إذا أعيت. وقيل، بل أصله ضبع وهو نوع من العدو للخيل. والضباح هو الصهيل. أما الأصل الثاني فيرون أن الضبح هو إحراق العود أو اللحم بالنار من أعاليه. والضبح هو الرماد. والحجارة المضبوحة هي قداحة النار التي كأنها محترقة. والانضباح تغير اللون إلى السواد والضبحاء هي القوس وقد عملت فيها النار. والقدح هو السهم الذي يقذف بالقوس ([3]) .

القدح في المعاجم

قدح أصلان أحدهما يدل على شيء كالهزم في الشيء والآخر يدل على غرف شيء. والقدح هو تآكل يقع في الشجر والأسنان. والقادحة الدودة تأكل الشجرة. وقدح في نسبه أي طعن.  والقدح هو السهم بلا نصل ولا قذذ. والقدح الواحد من قداح الميسر. وقدح الفرس تقديحاً إذا ضمر حتى يصير مثل القدح. وقدحت العين أي غارت. وقدحت العين أخرجت ماءها الفاسد. والقديح ما يبقى في أسفل القدر فيغرف بجهد. وقدحت القدر أي غرفتما فيها. والقدح من الآنية لأنه به يغرف الشيء ([4])

نقع في المعاجم:

نقع أصلان أحدهما يدل على استقرار شيء كالمائع في قراره، والآخر يدل على صوت من الأصوات؛ فالأول ‌نقع الماء في منقعه: استقر. واستنقع الشيء في الماء. والمنقع هو القديرة للصبي يطرح فيه اللبن. والنقيع شراب يتخذ من الزبيب. والنقيع الحوض ينقع فيه التمر. وماء ناقع أي استقر قراره. والنقيع هو البئر الكثيرة الماء. ونقع الماء في المسيل أي اجتمع. واستنقع في الماء أي ثبت في الماء يتبرد. وكل ما ألقي في الماء فقد أنقع. ونقع الماء غلته أي أروى عطشه. والنقيع هو الصراخ. ونقع الصوت أي ارتفع ([5])

كنود في المعاجم:

وكند في المعاجم أصل واحد يدل على القطع. وكند الحبل أي قطعه. والكنود الكفر بالنعمة، لأنه يكند الشكر أي يقطعه. والأرض الكنود التي لا تنبت.  وسمي كندة بذلك لأنه كند أباه أي فارقه ولحق بأخواله. وكنده أي قطعه ([6])

التفسير الصحيح للسورة:

لا يعقل أن تتكلم السورة عن أمور عادية يعرفها كل إنسان، فالمعارك يعرفها كل من جربها، فما الإعجاز في الحديث عنها. وكذلك إسقاط الآيات على الحج، فهو بعيد جداً، فماذا في الحج معجز لكي تشرحه السورة، لكن التفسير الصحيح هو ما ذهبنا إليه بإذن الله وهو التالي:

العاديات هم الملائكة التي تعتدي على الكفار، وقد أُنثت لأن الكفار يحسبون أن الملائكة إناثاً، بينما هم في الحقيقة ليسوا ذكوراً ولا إناثاً، ولهذا نجد مرة يذكرهم مؤنثين ومرة مذكرين. والعاديات مثل الصافات ومثل الذاريات وغيرها، من الأعمال التي تقوم بها الملائكة.

فقد ذكر القرآن بعض القصص عن هذ الهلاك، فتتم الاستعدادات مساء، فإذا جاء الصبح بدأ القصف كما في قصة قوم لوط الشهيرة.

وهذه العاديات لا تقاتل بالسيوف ولا تدخل بالخيول والجمال، بل بالضبح، وقد تبين لنا من المعاجم أنه الضبح هو السهام، أو السهام التي اشتعل أعلاها، فتبين السورة أن تلك الجيوش العادية لا تدخل أرض المعركة وإنما تضرب من بعيد.

وهذا يتفق مع فعل الملائكة التي ترمي بحجارة من سجيل، كما في قصة لوط وقصة أصحاب الفيل، ولهذا قال بعدها فالموريات قدحاً، ووجدنا من معاني القدح هو السهم والإيراء هو إشعال الشيء، فهذه السهام التي هي حجارة التي يسميها قدح، يتم إشعالها قبل رميها على الأعداء

{ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ }  [الفيل: 4].

{ فَجَعَلْنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ }  [الحجر: 74].

{ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }  [العنكبوت: 34].

فالعاديات ضبحاً التي تعتدي من بعيد دون أن تدخل المعركة، فالموريات قدحاً أي تجعل السهام مشتعلة، فالمغيرات صبحاً أي تنتظر الصباح لكي تبدأ المعركة.

{ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ }  [القمر: 38].

{ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ }  [الحجر: 66].

ثم بعد ذلك أثرن به نقعاً، وقالوا النقع هو الغبار، فإذا صح أنه الغبار فكأنه يتحدث عن معركة قوم لوط، التي ثار فيها غبار عظيم سبب مقتل من هرب منهم، وكانت امرأة لوط منهم فقد كانت من الغابرين { فَأَنجَيْنَٰهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَٰبِرِينَ }([7])  ونجد القرآن دائماً يذكر قريش بقوم لوط، وذلك لقرب مكانهم من مكة كما شرحنا في قصة لوط، فلو أن قريشاً بذلوا بعض الجهد لعثروا عليهم.

أما وسطن به جمعاً، فهو أحد احتمالين إما أن الملائكة حملت الجثث المترامية ووضعتها وسط المدينة المدمرة، أو أن الغبار أحاط بالقوم فجعلهم بدلاً من الهرب يعودون إلى وسط المدينة لعلهم ينجون من الاختناق، وهذا هو المرجح عندي.

إن الإنسان لربه لكنود

وإنه على ذلك لشهيد

وإنه لحب الخير لشديد

النصوص المبجلة السابقة إما أنها تقصد الإنسان في الدنيا أو تقصد الإنسان في الآخرة، فلكل تفسيره ومعناه، لكن اختصاراً للوقت نرجح أن المقصود هو الإنسان في الدنيا  

والإنسان ليس كل البشر، بل علية القوم وكبرائهم والطبقة الأثرياء، وكل من لف لفهم، أما العامة فهم الإنس، فكل مشاكل الأمم هي من هذه الطبقة التي تبحث عن مصالحها على حساب الحق والعدل، لهذا الإنسي الذي من علية القوم هو الكنود أي العاصي لربه والمخالف

   فيكون المقصد شهيد على أفعاله في الدنيا، وهذا يعني أنه يفعل الفعل بوعي كامل وعن عمد وترصد، وليس في غيبوبة أو سكرٍ، بل هو في وعي وإدراك لهذا سوف يحاسب ويعاقب فلا عذر له، وإن كان يفعل ما يفعله ويقدم لنفسه المبررات.

﴿یُنَبَّؤُا۟ ٱلۡإِنسَٰنُ یَوۡمَئِذِۭ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ۝13 بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِیرَةࣱ ۝14 وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِیرَهُۥ ﴾ [القيامة: 13-15] 

أما حبه للخير فيقصد به حب الدنيا وما فيها على حساب الآخرة

﴿وَتَأۡكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكۡلࣰا لَّمࣰّا ۝19 وَتُحِبُّونَ ٱلۡمَالَ حُبࣰّا جَمࣰّا﴾ [الفجر: 19-20] 

{ أَلْهَىٰكُمُ التَّكَاثُرُ }  [التكاثر: 1].

فهذه مشكلة الإنسان، شغفه بالدنيا على حساب الأخلاق والقيم، وقلنا الإنسان هو من النخبة، فهو مشغول بالجمع والتحصيل.

بُعثر ما في القبور

حصل ما في الصدور

ذكرنا سابقاً ملاحظة الرازي، فكيف يستخدم حرف ما للعقلاء الذين في القبر؟

 والصحيح أن هذا الحرف مناسب تماماً كما شرحنا في كتابنا دار السلام، فقد بينا أن البشر كلهم فاقدون للذاكرة لا يعرفون من أين جاءوا وإلى أين يذهبون، فهم في جهل مطبق، وكأنهم بلا عقول. فكان استخدام ما مناسباً لحالهم تلك، حتى يستعيدوا الذاكرة لاحقاً.

لكن نرجح أكثر أن البعثرة لا تكون للبشر، بل للتراب، فكأن البعثرة هو تقليب التراب حتى يجد الملك الجثة البشرية لكي يفسح لها المجال للخروج والبعثرة عندهم هي جعل الشيء أو التراب أسفله أعلاه ([8])

 أما تحصيل ما في الصدور، فمعظم الآيات تتحدث عن الصدر بأنه مكان مغلق عصي لا يعرف أحدٌ سره إلا الله، ولهذا نرجح أن ما في الصدر من نيات وخواطر لا تُسجل في كتاب الإنسان فما يسجل فقط إلا أعمال البشري، التي يراها الملك الموكل بالتسجيل، فيأتي يوم القيامة فتحصل تلك النيات التي في الصدور وتتعرض للاختبار

﴿یَوۡمَ تُبۡلَى ٱلسَّرَاۤئِرُ﴾ [الطارق: 9] 

لهذا قالت الآية التالية

إن ربهم بهم يومئذ لخبير

وخبير تختلف عن عليم، ولم ندرس هذا الجذر بعد، ولكن من خلال المطالعة المستمرة نرجح أنه يعني الذي لديه قدرة على الاستشراف للمستقبل، وهنا لدى المولى القدرة على معرفة المستقبل الذي سيسلكه الإنسان، وهو يشبه خبرة المربي بالأطفال وما سوف يتخذونه من قرارات أو المعالج النفسي كذلك، فالمعالج يدرك ما سيقوم به الإنسان من سلوك بناء على شخصيته، ولله المثل الأعلى.

هذا والله تبارك وتعالى أعلم

علي موسى الزهراني


([1]) أنظر هذه الصفحة وما بعدها «موسوعة التفسير المأثور» (23/ 472):

([2]) أنظر هذه الصفحة وما يليها: تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (32/ 258)

([3]) «مقاييس اللغة» (3/ 385): «تاج العروس من جواهر القاموس» (6/ 562): «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (3/ 1268):

([4]) «مقاييس اللغة» (5/ 67):

([5]) «مقاييس اللغة» (5/ 471): «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (4/ 2250):

([6]) «الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية» (2/ 532):مقاييس اللغة» (5/ 140):

([7]) [الأعراف: 83].

([8]) «تفسير الطبري» (24/ 175):

ali
ali
تعليقات