الحليم في القرآن المكرم
حلم
في المعاجم:
حلم ثلاثة أصول: أولها ترك العجلة
والثاني تثقب الشيء والثالث رؤية الشيء في المنام
فالحلم خلاف الطيش، وهو الحليم. وحلم
الأديم إذا تثقب وفسد. والحلم صغار القردان. والحلمة دويبة. وتحلم أي سمن. وبعير
حليم أي سمين. وتحلمت القربة أي امتلأت ماء وقد حلّمتها. والحالوم شيء شبيه بالأقط
([1])
الحلم
في القرآن:
ما يهمنا في بحثنا هذا هو لفظة حليم،
والتي وردت في القرآن 15 مرة، وكلها في ذات الله العزيز العظيم ذو الجلال والإكرام، إلا أربعة نصوص: اثنان منها في إبراهيم، وواحد في إسماعيل وآخر في شعيب، وهذا يعني أن
هناك كثير من الناس يتصفون بالحلم.
وهناك آية من الواضح أن لها علاقة بالحلم
والحليم
ﵟأَمۡ
تَأۡمُرُهُمۡ أَحۡلَٰمُهُم بِهَٰذَآۚ أَمۡ هُمۡ قَوۡمٞ طَاغُونَ ﵞ [الطور: 32]
فلا يقصد بالأحلام هنا هي الرؤيا في
المنام، بل يقصد بها شخصيتهم التي منها سمة الحلم، التي تأمرهم بهذا كما تقول
الآية فما هو هذا الشيء الذي تأمرهم به طبيعة حلمهم؟
إنه في الآية السابقة لهذه الآية وهي:
ﵟأَمۡ
يَقُولُونَ شَاعِرٞ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَيۡبَ ٱلۡمَنُونِ 30 قُلۡ تَرَبَّصُواْ
فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُتَرَبِّصِينَﵞ [الطور: 30-31]
فالآية تقول إن القوم يتريثون على الرسول
حتى يأتيه شيء (ريب المنون) وقد شرحها أهل التراث بأنها الموت، ورجحنا أنها شيء
آخر وهو الجنون، فما علاقة الشعر بالموت، ولكن الشعر له علاقة بالجنون. وبغض النظر
عن معناها، فإن القوم يتربصون أي يتريثون أن يحل بالرسول ما يعضله ويعطله ويقضي
عليه، فهذا هو حلمهم أي التمهل والانتظار على الرسول وعدم الاقتصاص منه على تلويثه
لعقول المكيين، فإن الجنون نهاية كل شاعر قد بلغ المنتهى في الغرابة.
أما بقية آيات الحلم في المنام، فقد يكون
لها علاقة بالحلم والحليم، لأن الحالم يحلم بشيء يتمناه ويريده وينتظره، فعندما
يعجز عن أمر ما، تأتيه الأحلام وقد أنجز رغباته فيها. ولهذا نجد البشر عندما يتحدث
شخص عن أمور مستقبلية وانجازات ستحدث، أو ظروف ستتغير، يقولون له أنت شخص
حالم، وأن ما تحلم به مستحيل.
إبراهيم
حليم:
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ
إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ
لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ
حَلِيمٌ} [التوبة : 114]
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود : 75]
أما الآية الأولى فواضحة، فإبراهيم تريث
على أبيه، أي حلم عليه، أي توقع أنه سيتغير وسيتحول إلى الإيمان، فأبوه ذو عقل
راشد، وأخلاق جيدة، لا تعيقه عن التحول إلى الإيمان، ثم لما تبين له أنه عدو لله،
تبرأ منه، ثم تبين الآية سبب تريث إبراهيم الطويل على أبيه، ذلك لأن سمته الشخصية
هي الحلم وهو التريث على الآخرين، لعلهم يتغيرون، وهي نعوت القادة الكبار.
والآية
الثانية، كان يحلم على قوم لوط، وربما كان يعلم بفجورهم سابقاً، فمسكنه قريب من
ديارهم، وله صلات مع لوطٍ، وقد شرحنا ذلك في مقال عن قوم لوط، بل نرجح علمه بذلك،
لأنه لم يصب بصدمة من كلام الملائكة، فهو كان يتريث عليهم لعلهم يتغيرون، وقد
رأينا محاولات لوط في نصحهم الدائمة. ولن نخوض في معنى "أواه" حتى لا
نطيل في البحث.
لكن نلاحظ أمراً في حلم إبراهيم، وهي أن
عقاب القوم ضمن قدرته، أي أن أباه بعد أن تبين له أنه عدو لله، أقام عليه الحكم
وعاقبه بأن تبرأ منه، فهذا هو الفرق بين الحلم والصبر، فالصبر تنتظر أن ينتقم الله
لك، أو يغير حالك، بينما الحلم فأنت الذي تنتظر وتتريث على الناس، ليس يأساً وضعفاً،
بل محبة وأخلاقاً، فإن تبين لك استحالة التغيير تقضي بحكمك وتنتقم منهم، كما فعل
إبراهيم بالتبرأ من أبيه. كذلك حلم إبراهيم على قوم لوط، فقد حاول إيقاف الملائكة
عن تنفيذ الأمر، فهذا من قدرته لأنه حليم.
غلام
حليم:
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات : 101]
هذه بشارة لإبراهيم، ونرجح، بل نؤكد أنه
إسماعيل وليس اسحق، فإسحاق عليم، وإسماعيل حليم، ولهذا تولى هو الحكم والملك بعد
أبيه، ولأن السلطان يحتاج إلى هذا النعت كي يحكم حكماً صالحاً، وقد تولى حكم مكة فرفع
القواعد وطهر البيت وجعله آمناً.
حلم
شعيب:
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ
أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ
إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود : 87]
أما حلم شعيب فقد كان القوم يسخرون منه، لأنه
قال لهم في آية سابقة ﵟوَإِنِّيٓ أَخَافُ
عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ مُّحِيطٖﵞ ([2]) فكأنهم يقولون له يبدو أنك رجل حليم تتريث علينا ولا توقع
عذابك الذي تهددنا به، لأنك الحليم، فكأنهم يستفزونه لكي يوقع العذاب وهو للسخرية
منه.
حلم
الله ذو الجلال والإكرام:
أما بقية الآيات فهي تتكلم عن نعت الله
العظيم وهو الحلم، فالله هو الحليم، ونشاهد ذلك في أنفسنا، فكم من ذنوب اقترفناها
ولم يعاقبنا الله من فورها، بل تركنا لعلنا نرجع إلى ربنا، فإن رجعنا وتبنا لم
يعرضنا للعقوبة وعفا عنا.
أنظر هذه الآية المبجلة:
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة : 225]
شرحنا معنى اللغو سابقاً وقلنا هو
التهديد، وبغض النظر عن معناه، فهو ذنب يقترف، لكن هناك من يقوم به هكذا دون قصد
وهناك من يتعمد قلبه كسبه أي تنفيذ تهديده، والله يبين أن الله لا يحاسب من لا
يقصده، بينما يحاسب من يتقصد، وحتى هذا الذي يتقصد فإن الله يحلم عليه ويتريث -إن لم
ينفذ تهديده- قبل أن يوقع العقاب لعله يعود، فإن عاد غفر له، لأن التهديد خطير
ومدمر للحياة الاجتماعية، لهذا كان الله غفور حليماً.
في الآية التالية يتبين المعنى بشكل واضح
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
[آل عمران : 155]
فهناك من فر من المعركة، لم يعاقبهم الله،
بل عفا عنهم أي أزال العقاب المؤقت، لذنبهم هذا، ولكن أراد منهم أن يتوبوا فيقلعوا
عنه، لهذا تريث عليهم لأنه حليم، فإن توقفوا عن الفرار فإنه يغفر لهم، أي يزيله من
السجلات بالكلية، فلا عقاب يوم القيامة. وهكذا بقية الآيات التي ورد فيها عبارة "غفور
حليم" وهي أربع أو خمس آيات.
وهناك آيتان عكستا الأمر، فذكرت الحلم
قبل الغفران
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ
كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}
[فاطر : 41]
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ
لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا
غَفُورًا} [الإسراء : 44]
فنلاحظ هنا أنه لم يتكلم عن ذنب محدد،
فلم يتكلم عن الفرار، أو الرغبة السيئة بالنساء، أو اللغو، فهنا الكلام عام وهنا يتبين
نعته (اسمه) جلياً، ففي آيات غفور حليم، تطبيق عملي لنعوته التي هي الحلم والمسامحة،
بينما هنا فهي تنعته وتسميه باسمه، في آية مجردة لم يذكر فيها أي ذنب محدد. هذا هو
الفرق فقط، وذكر الحلم قبل الغفران منطقي، فالله يحلم أي يتريث على المذنب، فإن أقلع
عن ذنبه غفر له.
أما الآيات التي ذكر فيها أمثلة مباشرة،
مثل الفرار، فإنه ذكر الغفران قبل الحلم، ذلك لأن الحلم قد لاحظوه مباشرة، فهو لم
يوقع أي عقاب بعد عليهم، فاسم حليم ظاهر لهم، وإنما المهم في لحظة الآية هو الإقلاع،
فهذا يؤدي للغفران، فالآية تقول لهم أقلعوا لأغفر لكم قبل زوال حلمي عليكم.
ولاحظ أيضاً أنه لو ذكر اسم رحيم فلن
يذكر اسم حليم، فرحيم يعني أنه أوقع عليه العقاب، ولكن أزاله فيما بعد، أي رحمه
بالإزالة -وقد شرحنا معنى رحيم سابقاً- فلم يتريث عليه، لعظم ذنبه، أو ربما أنه
حلم عليه بداية وأعطاه الفرص الكثيرة، فلم يتب، فجاءه العقاب فتاب وفي الأخير رحمه
بإزالة العذاب.
أما عبارة
غني حليم:
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ
صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة : 263]
فهي تريد أن توضح أن الله غني عن صدقاتك،
فأنت تتصدق لأخيك من أجل نفسك فالله لديه خزائن لا تنتهي. وهو حليمٌ عليك، فأن مننت
على الآخرين، فإنه يحلم عليك أي يتريث لعلك تتوب. فإن تصدقت بدون منّ أو أذى، كان
الله شكور حليم كما في الآية التالية
{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ} [التغابن : 17]
وهناك
آية عليم حليم:
وهي ذُكرت مرتان فقط، مرة في أزواج
الرسول، ومرة في الورث
{وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَلِيمًا} [الأحزاب : 51]
{وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء : 12]
والمعنى واضح، فهو ذو الجلال والإكرام
يريد للبشر الصواب من الفعل، لأنه عليم، وهو يتريث على ذنوبهم، لأنه يصعب عليهم الإقلاع
عن الذنوب فجأة، لهذا هو حليم عليهم.
ما
الإمهال؟
{ فَمَهِّلِ الْكَٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا
} [الطارق: 17].
ورد الإمهال قليلاً، وهو يختلف عن الصبر
والحلم، لأن الإمهال مجرد انتظار للوقت، فهو ليس حلماً، فالممهل ينتظر وقت
الانتقام ولا يرجو تغير الآخر المجرم، على عكس الحليم الذي يحلم بتغير حال الآخر
ويرجو ذلك.
ويختلف الإمهال عن الصبر، فكما شرحنا فإن
الصبر أن تنتظر المولى يخلصك من شر الخصوم وتوقن بذلك، بينما الإمهال أنت من تنتظر
الوقت المناصب لتقتص من خصومك، فالله يعد الرسول أنه هو بنفسه سيقتص من خصومه.
الخلاصة:
رأينا أن الحلم عادة وطبيعة عند بعض
البشر، وهي عند الله نعت واسم، فهي التريث على المذنب كي يقلع عن ذنبه، فإن لم
يقلع حل عليه العقاب. وهذا أمر عظيم وحسن إدارة للكون، فلو أن المولى ليس من نعوته
الحلم لهلك البشر من ساعة ذنبهم، وهو يؤكد على عدم الإهمال والترك، فإن أعطاك
المولى مهلة وفرصة، فلن تنجو إن لم تقلع.
ونلاحظ أن الله ليس بصبور حاشاه سبحانه،
لأن الصبر هو أن يوقن الشخص أن الله سينتصر له من خصومه أو يحل مشكلته كما حدث مع
يعقوب وضياع ابنه يوسف. كما نلاحظ أن الصبور عاجز عن فعل شيء فيوكل أمره لله،
بينما الحليم فهو يستطيع أن يضر الآخر الظالم أو المذنب، لكنه يتريث عليه لعله
يعود.
ونجد الإمهال يختلف عن الحلم، في أن
الممهل يعطي الظالم أو المذنب الوقت فقط، لكنه قد قرر سلفاً أن يوقع العقاب على المذنب
وإنما ينتظر الوقت المناسب لفعل ذلك.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك