الذرية في القرآن المكرم
ذرأ وذرو لغة:
لها أصلان وسنكتفي بالأصل الثاني وهو
يبذر ويزرع، وذرأ الأرض أي بذرها. وذرأ أي كثّر. ومنه اشتقت الذرية. والذرية لهم
فيها رأيين أحدهما أنها من الذرء والثاني من الذّرّ بمعنى التفريق، لأن الخالق
ذرّهم في الأرض، وأصلها ذُرُّورة، فقلبت الراء ياء. وذرأت الوضين أي بسطته ([1])
الذرو في القرآن:
في البرامج الإلكترونية اعتبر جذر الذرية
هو الذرر، وليس ذرأ، وما يهمنا هو الذرية وقد ورد جذرها في 36 آية في 21 سورة. وكل
الآيات تؤكد أن الذرية هي ما أنجبه من أطفال ذكور وإناث من أولاده المباشرين أو
ممن جاء بعدهم. وأن الذرية جاءت من الذري أو الترك، لأن الأب يموت في النهاية
ويذرهم في الأرض.
ولننظر للآيات المبجلات:
الذرية ضعيفة:
{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173].
{فَمَا ءَامَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ
مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ} [يونس: 83].
{وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} [البقرة: 266].
{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا} [النساء: 9].
وهنا نفهم من هذه الآيات أن الذرية في
أصلها ضعيفة، لأنها مثل الذر الصغير، أو هي من الذري أي الترك والإهمال، لأن الشخص
يموت ويتركهم ويذرهم في الأرض وحدهم، فلهذا هم من بعده ضعفاء، وحتى لو بقي حياً يرعى
أولاده، فإن من يليهم من أحفاد لا يرعاهم فقد مات.
الذرية ممتدة:
{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَٰنَ وَأَيُّوبَ
وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَ} [الأنعام:
84].
والقرآن يبين أن الذرية ليست الأولاد
المباشرين فقط، بل هي ممتدة إلى يوم القيامة، كما ذكر في هذه الآية عن إبراهيم.
ويبدو أن الذرية هم الأولاد الذين يأتون من صلب الذكور، فإن أنجبت الأنثى التي من
ذرية إبراهيم من ذكر ليس من ذرية إبراهيم، اعتبرت ذريتها ذرية لزوجها فقط وليس
لإبراهيم.
إبراهيم يطلب لذريته الحكم:
{قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ } [البقرة: 124].
وإبراهيم يدعو ربه أن يتكون في ذريته
الإمارة، ويستجيب المولى لدعائه، ولكن بشرط ألا يكون هؤلاء الذرية ظلمة، فحينها
يسقط عنهم العهد الذي مع الله الكريم، ويفعل إبراهيم ذلك ليس لشهوته إلى السلطة،
ولكن لكي يضمن انتشار التوحيد عبر ذريته التي في الغالب لن تترك الدين كما يتصور.
إبراهيم يطلب لذريته الهداية:
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا
إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:
128].
يطلب إبراهيم وإسماعيل الهداية من الله
لذريتهما، وذلك لتبني خط الإسلام، ومعلوم أن الهداية شيء شخصي وقرار خاص، ولا يمكن
التدخل فيه أو إجبار الإنسان عليه، لكن المولى العظيم قد جعل النبوة والرسالة
والكتاب في ذرية إبراهيم، استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل، فإن استجابت الذرية
فنعم ونعما، وإن رفضت فهذا شأنها. ولهذا كان إبراهيم حريص على ذريته ومن يتبعه من
الناس بأن تكون كلمة التوحيد مفعلة لا تخمل { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }([2])
{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ
وَالْكِتَٰبَ} [العنكبوت: 27].
النبوة والرسالة في ذريتي نوح وإبراهيم:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَٰهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَٰبَ
فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ } [الحديد: 26].
ذكرنا سابقاً أن إبراهيم طلب الهداية
لذريته، وبينا أن الهداية مسألة شخصية، لكن المولى جعل النبوة والكتاب في ذريته،
وهنا في هذه الآية تؤكد هذا الأمر وأن النبوة والكتاب يظهران في تلك الذرية، كذلك
الحال مع النبي نوح فقد كانت النبوة والكتاب في ذريته، ولعله دعا الله مثلما فعل
إبراهيم وقد رأينا حرص نوحٍ على نجاة ابنه وذلك لتعلقه الشديد بذريته. وليس في
الأمر تبجيلٌ لتلك الأسر، فلا يفرق المولى بين الشعوب والقبائل والعشائر، وإنما هي
استجابة لدعوة من قبل الأطهار الأخيار الأخلاء، والمولى لا يرد من دعاه من هؤلاء
الأطهار.
ذرية بني آدم:
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا
غَٰفِلِينَ } [الأعراف: 172].
لكي نفسر هذه النص الجليل التفسير
الصحيح، يجب أن نفهم معنى (بني) ومعنى (ظهورهم) حتى نستطيع أن ندرك مقصده، ولكن ما
يهمنا هنا أن المولى قد أخذ ذرية هؤلاء وأشهدهم على أنفسهم بأنه ربهم.
إبراهيم وإسرائيل ليسا من ذرية نوحٍ:
{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ
كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [الإسراء: 3].
{ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ
مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ
وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْرَٰءِيلَ } [مريم: 58].
في الآية الأولى سبقتها آيات تبين من هم
هؤلاء: "موسى وبني إسرائيل" ثم بينت هذه الآية أن موسى وبني إسرائيل
ليسوا من ذرية نوحٍ، بل من ذرية من كان مع نوحٍ. وفي هذا رد على اليهود الذين
يزعمون أنهم من ذرية نوح وخاصة سام بن نوح.
وفي الآية الثانية ذكر المولى جملة من
الأنبياء قبل هذه الآية وهم: إبراهيم، إسحق، يعقوب، موسى، هارون، إسماعيل، إدريس، فأكدت
هذه الآية ما سبق وهو أن كل هؤلاء الأنبياء ليسوا من ذرية نوحٍ، والذي نرجحه أن
قوم عاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم شعيب هم الذين من ذرية نوح، فزعم اليهود بأنهم
من ذرية نوح باطل، وقصة حام وسام ويافث مجرد أكاذيب.
تفرق ذرية إبراهيم:
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37].
إبراهيم لم يُسكن كل ذريته في مكة، بل
بعضها لأنه قال من ذريتي ولم يقل ذريتي. كما يؤكد ذلك مكان سكن يعقوب وهو في
البادية {وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ}([3]) ولا ندري هل هي بادية قريبة من مكة أم بعيدة.
ذرية قوم آخرين:
{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ
مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ
قَوْمٍ ءَاخَرِينَ } [الأنعام:
133].
الذي نفهمه من هذا النص المبجل أن المولى
قضى على قومٍ من الأقوام ربما الأنباط أو ثمود أو قوم شعيب، ونرجح أنهم الأنباط،
وهؤلاء قريش هم من ذريتهم وبهذا زال قوم الأنباط وتغيروا إلى قوم قريش، بعد تشردهم
في الصحراء فترة من الزمن حتى استقروا في مكة، وهو يشبه الحال بعاد الأولى
والثانية، وهناك روايات تزعم أن قريش من الأنباط.
ولهذا نرجح أن قوم لا تعني إلا من قام
بأمر الدولة الجديدة وأسس أركانها، فهو قائم عليها، وفي الغالب يكون هؤلاء القوم
من نسب واحد.
ذرية إبليس:
{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي
وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلًا } [الكهف: 50].
لو صح أن الذرية هم الأولاد والخلفة،
فهذا يؤكد أن إبليس ليس من الملائكة، أو زالت عنه سمة الملائكية، وعاد إلى أصله
الجني القديم. إذ التصور لدينا أن الملائكة لا تنجب، بل تُخلق هكذا، كما خُلقنا
نحن في الخلق الأول هكذا بلا تكاثر. وقد ذهبنا في مقال عن الملائكة أنهم لم يخلقوا،
بل تحولوا، والقرآن استخدم جذر جعل أي تحول، فالملائكة ليست كائنات مستقلة، بل هم
بشر وجن تحولوا إلى الملائكية
فإبليس مثلنا يتكاثر بالذرية، بعد أن
زالت عنه سمة الملائكية، وهذا يعني أن له زوجة، كما تؤكد الآية أنه ليس كل الجن
خبثاء كإبليس وذريته، بل هو من يقوم بالإغواء هو وذريته، أما بقية الجن فلعل فيهم
الصالح كما بينت بعض السور.
ذرية قريش:
{ وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ
فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [يس: 41].
إذا صح أن هذه الآية تتكلم عن قريش، وهذا
ما يبدو بكل وضوح، فهي تشير إلى كبرائهم ووجهائهم، حيث بينت أن لهؤلاء ذرية صاروا
يركبون البحر، وهذا يبين أن الرعيل الأول من قادة قريش الذين عاصروا الرسول لم
يكونوا يركبون السفن، فهم بدو رحل استقروا قبل فترة في مكة، لكن جيل الشباب بدأوا
بغزو البحر للتجارة، فقد توسعت تجارتهم ولم تعد تكفي الرحلات البرية.
ولم يكن لدى هؤلاء الكبار معرفة بالبحر
وكانوا يخشونه، لكن ذريتهم من الشباب غزت البحر، ولهذا ذكرهم المولى بهذه النعمة
التي فتحها عليهم وحفظ ذريتهم من الغرق. ويقول التاريخ أن معاوية بن أبي سفيان أول
من غزا البحر، وهذا يشير إلى خبرة متراكمة في ركوب البحر، فلا يعقل ألا تكون لديهم
أي خبرة في ذلك، وقد أوردت الأخبار أن عمر بن الخطاب رفض الفتوحات البحرية، خشية
غرق المقاتلين، لكن عثمان بن عفان أباح لهم بالمعارك البحرية، وبدأت بفتح قبرص،
وهذا يؤكد أن ذرية سادات قريش هي من بدأت بركوب البحر.
ذرية باقية دون غيرها:
{ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ
} [الصافات: 77].
تشير هذه الآية العظيمة، أنه بعد الطوفان
هرب الجميع من بلدة نوحٍ، إلا ذريته فقد استوت السفينة على الجودي، وهو قريب من
مكان البلدة أو لعله أعلى جبل فيها، وقد هرب من بقي من الكفار كما تذكر آيات أخرى،
كذلك ذهب من كان مع نوحٍ من غير ذريته إلى أماكن أخرى، ولم يبق في المكان إلا
ذريته. ولا تقصد الآية بفناء كل البشرية وبقي فقط ذريته، بل تقصد البقاء في
المكان.
الخلاصة:
ذرية الشخص -وليكن إبراهيم - هم أولاده
المباشرين ذكور وإناث، فإن أنجب الذكور أولادً، كان هؤلاء الأولاد هم ذرية إبراهيم،
وهكذا يستمر إلصاق النسب إلى انقراض كل الأجيال، لكن لو أن إحدى بنات إبراهيم أو
حفيداته أنجبن، فلا تعتبر تلك الذرية من ذرية إبراهيم بل من ذرية أزواج حفيدات
إبراهيم، فالذرية من كانت من إنجاب الذكور دون الإناث.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك