الجلد والجدل
في القرآن المكرم
الجلد
في القرآن المكرم
الجلد
في المعاجم:
الجلد
يدل على قوة وصلابة. فالجلد معروف، وهو أقوى من اللحم الذي تحته. والجلد صلابة
الجلد. والجلد هي الأرض الغليظة الصلبة. والأجلاد هو الجسم. ويقال فرس مجلد، أي لا
يكترث لضرب السوط. ويقال ناقة مجلود، أي قوية ([1]) .
الجلد
في القرآن:
{تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ
جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ}
[الزمر: 23].
ورد هذا
الجذر 13 مرة في تسع آيات، وكلها كما يظهر لنا تتحدث عن الجلد المعلوم لدينا والذي
يحمي أجسامنا من الأخطار، وإنما أوردناه هنا ليس لصعوبته، بل لأنه يدعم وجهة نظرنا
حول جذر "جدل" فكما أن الجلد يحمي أجسامنا لقوته، فكذلك ابن عمه الجذر
"جدل" يحمينا فكرياً ومعنوياً من خطر السقوط المعنوي.
فلهذا كان
الجلد يحمي أجسامنا، والجدل يحمي أنفسنا وعقولنا، وكلاهما يدفعان الشر عن ذاتنا،
فذلك يدفع شر الجراثيم وغيرها، والثاني وهو الجدل يدفع التهم وغيرها عن ذات
أنفسنا، فهذا إبراهيم كما سوف نرى جادل عن قوم لوط أي دافع عقلياً عنهم لمنع
الملائكة من تنفيذ عذابها.
الجدل
في القرآن المكرم
الجدل
في المعاجم:
أصل
واحد يدل استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام. ويقال
للزمام الممر جديل. والجدول هو النهر الصغير، ورجل مجدول إذا كان قضيف الخلقة من
غير هزال. وغلام جادل إذا اشتد. والدرع المجدولة المحكمة العمل. وجدل الحب في
سنبله أي قوي. والأجدل الصقر. والجدالة الأرض. والجديل حبل مفتول. وجدلت الحبل أي
شددت فتله ([2])
الجدل في القرآن
تبين أن
الجلد يدافع ويحمي الجسم، وهنا سيتبين لنا أن الجدل يحمي فكرة أو شيء، فكما يدفع
الجلد الجراثيم عن الجسم، فكذلك يدفع الجدل الأفكار المضادة عن المعتقد، فالجدل هو
حماية الشيء فكرياً، وذلك بالدفوعات، مثل المحامي الذي يجادل أي يقدم الدفوعات
التي تحمي موكله، فإن كان الجدل حول إنسان أي عنه، فإن الجدل هنا هو دفع التهم عنه
ومحاولة إنقاذه من شر سيناله
الحج بلا جدال:
{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ} [البقرة: 197].
أي الحج
لا جدال فيه، فهو زمن مستغرق لله، والجدال يشغل الذهن عن الصفاء النفسي، حتى لو
كان جدالك على حق، أي تدفع الباطل الذي يريد دحض الحق. كما أن الجدل يؤدي للنفور،
بينما الحج من مقاصده هو تقارب الجماعات البشرية والتعاون بينها.
الجدال عن الخونة:
{ وَلَا تُجَٰدِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ
خَوَّانًا أَثِيمًا } [النساء: 107].
الخيانة
من أعظم الذنوب، لهذا يُمنع حتى الجدال عنهم أي الدفع بالحجج لحمايتهم، فلا يصح أن
ترد وتدفع كل اعتراض عليهم.
الجدال ممنوع يوم القيامة:
{ هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَٰدَلْتُمْ
عَنْهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ
اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ
وَكِيلًا } [النساء: 109].
كذلك
الجدل وهو الدفع بالحجج لحماية شخص من العقاب، لا يمكن يوم القيامة.
أساطير الأولين:
{حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ
يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [الأنعام: 25].
الكفار
يجادلون أي يدفعون عن أفكارهم ودينهم، وذلك بدحض حجة الرسول، فزعموا أنها أساطير
الأولين، فهذا جدلهم أي دفوعهم عن دينهم، فإذا كان كلام الرسول هو خرافات، فهذا
يعني أنهم على الحق لأنهم على الضد من معتقداته.
جدال نوح:
{
قَالُوا يَٰنُوحُ قَدْ جَٰدَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَٰلَنَا
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّٰدِقِينَ } [هود: 32].
تضايق
الكفار من جدال نوح، فهو يرد ويدفع حججهم بحججه، فلما عجزوا عن دفوعاته لمعتقده، طلبوا
منه أن ينزل العقاب كما يزعم، حتى ينقطع جدله.
الجدل في قوم لوط:
{
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَٰهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي
قَوْمِ لُوطٍ } [هود: 74].
لأن
إبراهيم عليه السلام حليم أواه، فإنه صار محامياً عن قوم لوط، يدفع عنهم العذاب
بطلب الفرصة والمهلة لهم.
الشيطان يقدم الاستشارة:
{وَإِنَّ
الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ} [الأنعام: 121].
يعمل
الشيطان مستشاراً عند الكافر، فإذا عجز الكافر عن تقديم الدفوعات، أمده الشيطان
بدفوعات مجادلة، أي حجج ترد أفكار المؤمنين وعقائدهم. وقد يكون المقصد هنا شياطين
الإنس وليس الجن، فهم الأقدر على التفكير والجدل.
الجدال في الله:
{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَٰئِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ
يُجَٰدِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } [الرعد: 13].
أي أن
القوم يدفعون عن الله ما نعته الرسول به، فهم يرون أن الله لا يسمع للبشر ولا
يستجيب ولا يدافع، وربما وصل بهم الحال إلى نعته بأنه فقير أو بخيل -نعوذ بالله من
كفرهم- فالملائكة وهم الآلهة، هم من يكترثون للبشر، لكن السورة تؤكد اهتمامه
بالبشر، ومراقبته لهم وعنايته بالمؤمنين، وله طرق لا تحصى في حفظ البشر أو عقابهم،
لهذا هو شديد المحال، وقال المفسرون أن المقصد هو أنه كثير الحيل باللطف والخفاء
في ضرب الكفار أو مساعدة المؤمنين ([3])
جدل الإنسان:
{
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ
الْإِنسَٰنُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } [الكهف: 54].
تبين
لنا في مقالات كثيرة، أن الإنسان هو واحد من النخبة الذين يرفضون الدين، ويعادونه
إلا قليل جداً من النخب، فإذا استخدم الإنسان الجدل، فهنا يقصد به دفع الإنسان
للحق ورده بالباطل، فالجدل لا عيب فيه، إلا إن كان من هؤلاء النخبة الذين يجادلون،
أي يدفعون الحق ويطردونه.
الجدل عن النفس:
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَٰدِلُ عَن
نَّفْسِهَا} [النحل: 111].
تدفع
النفس عن ذاتها، بما أدت إليه محاكمتها يوم القيامة، فتدفع الأدلة بما لديها من
حجج وتبريرات، تتخيل أنها كافية أو مقنعة.
جادل وادفع:
{وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
{ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ ٱلسَّيِّئَةَۚ} [المؤمنون: 96].
يتبين
لنا هنا بشكل واضح، أن الجدل هو الدفع نفسه، لكن الدفع يكون بشكل مادي، كأن تحسن
بالصدقة على من اعتدى عليك، فتكسب وده وحبه، فأنت دفعت شره بالود والمحبة. وفي
الجدال الذي هو دفع الأفكار بما هو ضدها، لكن يجب أن يكون بالحُسنى، أي بأسلوب
تقبله النفس وترتضيه. فالجدل دفع معنوي بينما الدفع هو للشيء المادي.
الجدل دحض:
{ وَيُجَٰدِلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ
الْحَقَّ} [الكهف: 56].
{وَجَٰدَلُوا
بِالْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}
[غافر: 5].
داحض من
الجذر "دحض" وهو الزوال والانزلاق كما يقول أهل اللغة وابن عمه هو "دحق"
وهو الزوال فدحق الشيء زال ولم يثبت ([4]) وهذا يؤكد معنى الجدل، فهو الدفع، ذلك أنه كما
تقول الآيتان يجادلون كي يدحضوا معتقده، أي يدفعون حججهم كي تدحض حجة الرسول أي كي
تزول وتنزلق.
الملائكة مثل عيسى:
{
وَقَالُوا ءَأَٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ
هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [الزخرف: 58].
معلوم
أن عيسى هو ابن الله كما يزعم النصارى، فكان فرصة لقريش كي يجادلوا الرسول أي
يدفعوا حججه ومعتقداته، فكما أن عيسى ابن الله، فما المانع أن يكون له بنات هن
الملائكة كما يعتقدون، فرغم أنهم لا يؤمنون أن عيسى ابن الله، ولكن كانت فرصة لهم
لكي يجادلوا الرسول أي يدفعوا حجته عن عقيدتهم. والآية تقول للرسول إن جدلهم ليس
بقصد الحق وطلب المعرفة، بل هم خصوم لك، يرونك عدو لهم.
جدل الزوجة:
{ قَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي
زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة: 1].
يشي
النص أن هذه سيدة كريمة جاءت للرسول تشتكي، فالرسول حاول أن يلطف الجو ويخفف عنها
ويدفع عن زوجها، لكنها جادلت الرسول في زوجها، أي دفعت كلام الرسول وحججه
وتبريراته من تصرفات زوجها، وصارت تشتكي إلى الله، لأنها رأت أن الرسول ليس بيده
حل للمشكلة، لأن الرسول لا يستطيع أن يحرم ويحلل من عند نفسه ولا يستطيع أن يصدر
تشريعات، فجاء الحل من عند الله بتوبة الزوج والاقلاع عن الظهار، وإلا فالعقوبة
صيام شهرين متتابعين.
الخلاصة:
الجلد
ابن عم الجدل، فكما أن الجلد يدفع الشرور عن الجسم، فذلك الجدل يدفع سموم الأفكار
عن عقولنا ومعتقداتنا، فالجدل ببساطة هو الدفع لكل ما فيه ضرر وتحطيم لمعتقداتنا، لكي
تزول تلك الشرور وتنزلق وتتلاشى.
والجدل
سلاح ذو حدين، فقد يكون حسناً إذا كنت تدفع المعتقدات الضالة لكي تزول أو تبتعد،
وقد يكون شراً إذا دفعت بالأفكار الصالحة بعيداً، التي جاءت لتحطم الأوهام
والخرافات.
هذا
والله أعلم
علي
موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك