الحجة في القرآن المكرم
الحجج
في المعاجم:
الحج هو القصد. وحجه أي قصده. وحججت فلان
أي قصدته. ورجل محجوج أي مقصود. وحج علينا فلان أي قدم. والحج هو الكف. وحجحج عن الشيء
أو حج، أي كف عنه. والحج هو سبر الشجة بالمحجاج للمعالجة. وحجه حجاً أي قدح بالحديد
في العظم. وحج الشجة أي سبرها بالميل ليعالجها. والحجيج من الشجاج الذي قد عولج. والحج
أن تفلق الهامة فتنظر هل فيها عظم أو دم.
والحج الغلبة بالحجة. مثل حديث:"فحج
آدم موسى". وكلام معاوية: "جعلت أحج خصمي". والحج كثرة الاختلاف والتردد.
فحج بنو فلان فلاناً أي أطالوا الاختلاف إليه. وحججت فلان، أي أتيته مرة بعد مرة. وحج
البيت، قيل لأنهم يأتونه كل سنة. والحجة هي السنة وجمعها حجج. والحجة هي الحاجة وهي
شحمة الأذن. والحجة بالفتح خرزة أو لؤلؤة، تعلق في الأذن. والحجة هي الدليل والبرهان
والوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، وسميت حجة لأنها تحج أي تقصد. وأحججته أي بعثته
ليحج.
وحجحج بالمكان أي أقام به. والحجحجة أي النكوص.
وحجحج الرجل أي توقف عن الكلام بعد أن أراد قول شيء. أو لم يبد ما في نفسه. والحجوج
هو الطريق يستقيم مرة ويعوج أخرى. والحجج بضمتين أي الطرق المحفرة. وحجاجا الجبل جانباه.
ورأس أحج أي صلب. واحتج الشيء أي صلب ظاهره ([1])
الحجج
في القرآن:
ورد جذر "حجج" 33 مرة في
القرآن، وهو من الجذور المهمة وإن كان الأوائل قد لاحظوا معناه إلا أن فيه ضبابية
يجب أن نجليها لتتضح الصورة.
وقبل التأمل في الآيات الكريمات، نرجح أن
الحج هو الوصول إلى الهدف بصعوبة، لوعورة الطريق، فإن كان الهدف هو الوصول إلى اقناع
الآخر بأفكارنا، فتلك حجة فكرية، أي رحلة صعبة لإقناع الآخر.
وقد شرحنا معنى القصد وقلنا هو الرحلة الوسط
في طولها وليس في صعوبتها، أما الشق فهي الرحلة الصعبة الشديدة، من أجل الوصول إلى
الهدف. وأما الحج فهو الصعوبة المعقولة.
ولندرس الآيات المبجلات:
الحج
مشقة:
{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن
كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } [الحج: 27].
{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَٰتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَٰنِيَ حِجَجٍ
فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ
أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّٰلِحِينَ } [القصص: 27].
لم يصل الحج إلى درجة المشقة، وقد قلنا إن
المشقة هي الوصول إلى الهدف بصعوبة كبيرة، وأن الشقي هو من يصل إلى هدفه بصعوبة، وأن
الأشقى هو الذي تبلغ الصعوبة معه مداها النهائي.
ولهذا قال الشيخ لموسى حجج، ولم يقل سنوات،
لأن في الأمر صعوبة، فعليك يا موسى أن تصبح أجيراً عندي لكي تصل إلى غرضك وهو الزواج
من ابنتي. وهو أمر صعب وليس هيناً، ولكنه ليس شقاءً، لأن موسى ضمن الزوجة والطعام والمسكن،
فهي حياة معقولة وفيها الكثير من المتع.
وكذلك الحج سمي حجاً لصعوبته، فلم يسمه سفراً،
أو رحلةً، أو ذهاباً، أو غيرها من أفعال الحركة، بل نعته بأنه حج، وذلك لصعوبته.
الحجة
الداحضة والبالغة:
{ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ
فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ
دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ
عَذَابٌ شَدِيدٌ } [الشورى: 16].
{ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ
} [الأنعام: 149].
لأن الحج هو سلوك الطريق الوعر لوصول إلى
الهدف، ولأن الحج العقلي أو الفكري هو الوصول إلى الهدف بصعوبة، كما ذكرنا بالأعلى،
فإن هناك حجة داحضة وحجة بالغة، أي حجة لم تصل إلى هدفها وتم ردها، وحجة قد بلغت مرادها
وهدفها.
ففي الآية الأولى حجة الكفار داحضة عند الله
أي سوف ترد ولا تُقبل، بينما في الآية الثانية فحجة الله بالغة ولا يمكن ردها، لكن
الكفار يستحبون العمى ويضلون الطريق، والله لم يرد هدايتهم لفساد قلوبهم، فرغم تلك
الحجة البالغة، فقد عجزوا عن الاسترشاد بها.
وقد شرحنا أن الجدل هو الدفع بالحجج إلى أهدافها،
ولأن فيها صعوبة فقد أطلق عليها حجة، وهي نوعان حجة
داحضة، أي حجة تردها حجج الآخرين ولا يقبلها العقل
فيدحضها، وحجة أخرى هي بالغة،
لا تستطيع الحجج الأخرى ردها كحجة الله الكريم في اختراق حجج الكفار وإزالتها.
كتم الحجج:
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا
ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا
فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ
رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [البقرة:
76].
فئة من اليهود يطلبون من آخرين عدم إخراج
ما في الكتب المقدسة من تشريعات وعقائد، حتى لا تكون حجة عند الله للمؤمنين بالرسول
منهم، اعتقاداً منهم أن الله لا يسمع هذا الحوار. ومن المحتمل أنهم يقصدون دعاء المؤمنين
عليهم بما لديهم من حجج، وليس الانتظار ليوم القيامة، لأنه كما درسنا في مقالات
سابقة في تفسير سورة البقرة تبين لنا أن اليهود لا يؤمنون باليوم الآخر.
حجة القبلة:
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150].
يبين المولى أنه لا مشكلة حيث اتجهت وقت الصلاة،
لكن لكيلا تكون حجة للكفار على المؤمنين بأنهم فوضويون لا يتمسكون بقبلة واحدة، فعليكم
الالتزام بقبلة الكعبة. فالكفار يحتجون أي يدفعون عقائد المؤمنين بحجة عشوائية اتجاه
القبلة.
الحج
والعمرة:
{ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ} [البقرة: 158].
{ وَأَذَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3].
يؤدي المسلمون الحج أو العمرة، ولم يظهر لنا
الفرق بينهما بشكل جلي، ولكن نرجح أنه الحج فيه مشقة تزيد عن العمرة، لهذا نعته بالحج.
وقد تكون العمرة مكوث في مكة وأخذ راحة، بينما الحج فأداء لطقوسها مباشرة في أيام معدودات
ثم العودة.
كما يبدو أن هناك حجج وليست حجة واحدة، أو
لنقل ذروة الحج، حيث يجتمع فيه أكبر عدد من الناس، لهذا نعته بأنه حج أكبر لكثرة الناس
فيه. ولا يهمنا في هذا الأمر إلا أن نؤكد أن الحج هو قريب المشقة، وأنه انتقال من نقطة
لأخرى بجهد وصعوبة.
ما الفرق
بين الحجج والمجادلة؟
شرحنا أن المجادلة هي الدفع بالحجة ضد دفوعات
الآخر، بينما نجد أن الحجج هي ذاتها الدفوعات التي تشق على الآخر، فيعجز عن الرد عليها.
وقد لا تكون الحجة منطقية كما هي حجج الكفار، ولكن يصعب ردها أو يصعب إقناع الكفار
بعدم صحتها، فتقف عقبة في وجه الناصح الأمين لقومه.
مثل حجة
النمرود مع إبراهيم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَٰهِمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَىٰهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
إِذْ قَالَ إِبْرَٰهِمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِ وَأُمِيتُ
قَالَ إِبْرَٰهِمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا
مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ
} [البقرة: 258].
نعم النمرود بُهت أي سكت وعجز عن الكلام،
لكن هذا لا يمنع أنه كان بإمكانه أن يرد، بأي حجة تجعل إبراهيم عليه السلام يلوذ بالصمت،
ليس لعجزه، ولكن لأن منطق هذا النمرود ضال وبعيد عن الهدى، فالنمرود قدم حجة قوية
كانت كفيلة بإسكات شخص آخر غير إبراهيم الألمعي.
الخلاصة:
إن الحجج جذر يقصد به الوصول ببعض المشقة
المعقولة، فإن كان سفراً للأماكن المبجلة لغرض أداء الطقوس، فهو حج لمشقته
المعقولة، وعمل موسى بالرعي كل اليوم لمدة ثمان سنوات، قد نعته "حماه"
بأنه حجج وليس سنوات، لأن فيه مشقة معقولة على موسى.
والجدال وهو تقديم الدفوعات ضد الآخرين،
هو مشقة معقولة، ولهذا أطلق عليه حجة، لسببين أنه ببعض المشقة، ولأنه رحلة انتقال
وذلك بدفع معتقدات الآخر بقوة دفوعاتنا، فلهذا هي حجة أي دفع لمعتقدنا ليكسح معتقد
الآخرين، بمشقة معقولة.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك