عيسى وأمه في نظر اليهود
ذكر القرآن الكريم أن اليهود اتهموا مريم
في شرفها، فهل توجد نصوص دينية محترمة لديهم تؤكد هذه الاتهامات؟
وكيف رد عليهم القرآن؟
اتهامات
اليهود لمريم وولدها ([1])
يرى راب حسدا وهو معلم مهم في القرن
الرابع الميلادي أن المسيح له أبوان لأن أمه كان لها زوج وحبيب وكان يسمى المسيح
بابن سنادا نسبة إلى زوجها. واسم آخر هو ابن بانديرا وهو نسبة إلى حبيبها بانديرا.
وذهب بعضهم أن سنادا ليس زوج مريم، بل هو مريم ذاتها. ومعناه في العبرية المرأة
المنحرفة الزانية.
أما الحاخام "مثير" فقد زعم أن
زوجها وهو بابوس بن يهوذا كان يقفل على زوجته الباب لشكه بها وأنه كان لا يمارس
الجنس معها لسلوكها المنحرف. وقد اختلفوا هل بابوس أو ما يسمى بيوسف في كتب
الإنجيل قد كان زوجاً لمريم حين حملت أم كان خطيباً فقط، لكن اليهود يرون أن لا
أهمية لذلك فالمهم لديهم أن مريم حملت بغير زوجها أو خطيبها، وأن زوجها كاد أن
يطلقها لولا أن العناية الإلهية قد تدخلت كما تقول كتب الإنجيل، برؤية رآها في
المنام.
ويرى (سلسوس) أن عشيقها وهو بانديرا كان
رومانياً وليس يهودياً، فلهذا الزعم أن المسيح من نسل داود باطل، فلا يمكن أن يكون
المسيح المنتظر، لأنه من الشروط أن يكون من نسل داود.
ويزعم اليهود أن مريم "دايرة على حل
شعرها" فهي تحل شعرها الطويل الذي هو مؤشر على مجونها، وتستحم مع الناس وتغزل
الثياب في الشارع، ثم يستغرب اليهود كيف لزوجها أن يطيق ذلك وأن يمارس الجنس معها،
فكان يجب أن تطلق، وقد يكون مقصدهم أن زوجها ديوث.
وهناك فيلسوف وثني اسمه سلسوس، كان في
القرن الثالث الميلادي قد جادل النصارى ثم أورد قصة المسيح من لسان أحد اليهود
الذي قال في معنى كلامه:
أن يسوع قد اخترع قصة ولادته من عذراء، وأنه جاء
من قرية يهودية مع أمه التي تعمل في الحياكة، وأن زوجها قد طردها لأنها اتهمت
بالزنا، فصارت تسرح وتلعب حتى انجبت يسوع من الزنا. ولأن يسوع فقير فقد صار عاملاً
في بلاد مصر التي ينتشر فيها السحر الذي تعلمه منهم، فصار مزهواً بنفسه بسبب تلك
القوى السحرية وزعم أنه الله.
المسيح
في القرآن:
لم يكن اليهود في حاجة لكل هذا البهتان
العظيم الذي افتروه على سيدتنا مريم الجليلة، فقد كان يكفي تفنيد عقائد النصارى،
دون الحاجة إلى الفجور في الخصومة، لكنهم قوم بهت، لا يردعهم أي مبدأ أو أخلاق.
لهذا توعدهم القرآن بالنار
{ وَبِكُفۡرِهِمۡ وَقَوۡلِهِمۡ عَلَىٰ مَرۡيَمَ بُهۡتَٰنًا عَظِيمٗا
} [النساء: 156].
ثم بعد أن ذكر أفعالهم ومعتقداتهم الشنيعة
ومنها بهتان مريم، وضح أن مصيرهم للنار
﴿وَأَعۡتَدۡنَا
لِلۡكَٰفِرِينَ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ﴾ [النساء: 161]
حقيقة
عيسى:
{ إِنَّ مَثَلَ
عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ
كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59].
يبين القرآن أن عيسى ليس بدعاً من الخلق،
وإنما هو مثل آدم تماماً، فكما تجمع التراب لكي يُخلق عيسى كذلك من قبله آدم، ثم
أحياه المولى بكن فيكون، فآدم كان بلا أب كذلك عيسى كان بلا أبٍ. ولعل آدم كانت له
أم مثل عيسى، فالآية تقول إنه مثل آدم أي المطابقة التامة.
ونجد من الأشياء التي تفرد بها عيسى أنه
الوحيد الذي ذُكر نسبه دون بقية الخلق في القرآن، فدائماً القرآن يذكر عيسى ويذكر
نسبه وأنه ابن مريم، وفي هذا رد على اليهود الذين زعموا أن اباه هو بانديرا وقالوا،
بل هو سنادا، كذلك زعم النصارى أن أباه هو يوسف، فجاء القرآن ليؤكد أنه من نسل
مريم فقط.
{ قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ} [المائدة: 114].
{وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ
وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۖ } [الأحزاب: 7].
{ وَإِذۡ قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ } [الصف: 6].
وقد صنعت الأناجيل سلسلة نسب عيسى إلى
جده النبي داود، لتؤكد أنه هو المسيح المنتظر والملك المنتظر، لأن من شروط تولي
الملك فيهم أن يكون من نسل داود، كما زعم المسلمون أن المهدي المنتظر يجب أن يكون
من نسل النبي محمد.
ويبدو أنها عقيدة باطلة لا أصل لها، فلم
يكترث لها القرآن، ولم يبين نسب عيسى، ولعله لا ينتسب إلى داود، رغم أن أمه قد
تكون كذلك، لكن وفق دراستنا لمفردة ذرية، تبين لنا أن الذرية يجب أن تكون من جهة
الأب وليس الأم، فذرية إبراهيم هم من أنجبهم الذكور فقط، فحتى لو كانت مريم من
ذرية داود فإن ذريتها لا تنتسب إلى داود.
وقد أكد عيسى ذلك، وبين أن المهدي
المنتظر هو النبي محمد عليه السلام وأنه سيرحل عما قريب، ولن يحصل على الملك اليهودي.
وقد أراد أن يؤكد لهم أن النبوة لن تكون في ذرية داود مطلقاً فها هو قد جاءته النبوة
وهو ليس من ذريته، لذلك سيأتي نبي آخر من قلب الجزيرة ليس من نسل اليهود، فقد شكلت
هذه العقيدة في تقديس الكهنة من ذرية داود معضلة في عودة اليهود للدين الحق.
مجتمع
مريض:
تعلم مريم مدى تغلغل المرض والنفاق في
المجتمع اليهودي، خاصة وأنه مجتمع مهزوم ومذلول، لا يجد قوة إلا على المستضعفين وخاصة
النساء، فيقمع النساء بحجة المحافظة عليهن، كذلك يعيش على النميمة والغيبة
والبهتان، فمن خدشت سمعتها وتم اتهامها، فلا قدرة لديها للدفاع عن نفسها ولا
يتسامح معها المجتمع، حتى لو كانت بريئة.
لهذا أول ما شعرت بالحمل، فرت بعيداً وهي
تنتبذ حملها أي تتمنى الخلاص منه لما سيؤدي إليه من مصيبة لها، وقد شرحنا معنى
النبذ سابقاً.
{ فَحَمَلَتۡهُ
فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانٗا قَصِيّٗا } [مريم:
22].
لهذا
قالت:
{ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي
مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا } [مريم: 23].
لأنها تدرك ما ستؤول إليه الأمور، وقد
حدث هذا فعلاً، فلما رأوا مريم تحمل الطفل اتهموها سريعاً دون السؤال عن الطفل،
فمريم ولدت بمعجزة ولم يستغرق الحمل تسعة أشهر، بل ربما أيام، ورغم كل هذا لم
يكلفوا أنفسهم بسؤالها عن ماهية الطفل.
لكن سوء الطوية طبع فيهم، فهو مجتمع متخلف
وقاسٍ وفاجر، لا يقدر على التفكير.
{ فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ
يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـٔٗا فَرِيّٗا }
[مريم: 27].
ثم
قالوا:
{ يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ
مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا } [مريم: 28].
ورغم أن الطفل كلمهم مباشرة، لكن القوم
لم يقبلوا هذه المعجزة، واستمروا في اتهامها ومن المؤكد أنهم أرادوا قتلها
{ قَالَ إِنِّي
عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا } [مريم: 30].
ونرجح أن معجزة كلام عيسى لهم قد أسكتتهم
قليلاً، أو جعلتهم في حيرة كيف يتعاملون معها، لكن هذا التردد زال بعد إصرار
الفجرة منهم على قتلها أو طردها.
فاضطرت بسبب الاضطهاد والشتم أن تفر إلى
ربوة بعيداً عنهم
{ وَجَعَلۡنَا ٱبۡنَ
مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةٗ وَءَاوَيۡنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبۡوَةٖ ذَاتِ قَرَارٖ وَمَعِينٖ
} [المؤمنون: 50].
ولم يخبرنا القرآن ماذا حل بمريم وابنها
بعد تلك الربوة، ولعل الجيل الذي عاصر مولد عيسى، قد مات بعد أن بلغ عيسى 30
عاماً، فسكت الناس عنها، ولولا خروج عيسى بالدعوة لما تذكرها الناس، لكن مع هذا لا
نجد الأحبار أو غيرهم يواجهون عيسى بذلك البهتان، ونرجح أن مواهب عيسى الهائلة
تثبت بلا أدنى شك أنه ليس من ذرية البشر، بل هو من صنع الله مباشرة، لهذا سكت الأحبار
عنه، كما سكتوا سابقاً عن مريم حين تكلم وليدها.
لكن القوم بعد رحيل عيسى عنهم، عادوا إلى
بهتان مريم، وأنه ابن زنا، كما رأينا في مقدمة المقال، وكثير من المذابح التي صارت
لليهود كان سببها هذا الاتهام لسيدتنا مريم.
في الختام ننوه على أنه يجب احترام
الرموز الدينية، لما قد يسببه من اقتتال بين الطوائف، ولأن ذلك هو سلوك المؤمنين،
الذين يتبعون قواعد القرآن الذي ينصح بعدم الاكتراث للسابقين وما فعلوه، فكل أمة
ستحاسب بعملها لا بعمل السابقين
{ تِلۡكَ أُمَّةٞ
قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّا
كَانُواْ يَعۡمَلُونَ } [البقرة: 134].
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك