ما حقيقة " كن فيكون" ؟
يرى الضحاك أن كن فيكون من لغة الأعاجم
وهي بالعبرية تعني أصنع. ويرون أن معنى (إذا قضى أمراً) أي إذا أراد إحكامه
وإتقانه. ويرون أن المقصد من هذه عبارة "كن فيكون" أنه لا يدخله تأخير في الوقت ولا يوجد مانع لأمره، ولا يلحقه به
تعب، ولا يحتاج إلى استعمال آلة ومزاولة عمل
وزعموا أن كن فيكون يؤكد على قدم القرآن
وأنه ليس مخلوق، ولو كانت كن مخلوقة لافتقرت إلى إيجادها. وأن معنى القضاء هو
الإحكام والفراغ منه، ولهذا يقولون للميت قد قضى أي فرغ من الدنيا وفصل عنها ([1])
كن فيكون
في القرآن
لن نناقش ما تكلم فيه أهل التراث، لضعفه وعدم
سبره للنص الكريم وحقيقة كن فيكون. وقد وردت هذه العبارة في ثمان آيات وسبع سور.
ونلاحظ
أن الآيتين التاليتين تناقشان نسبة الولد إلى الله وأن الله ليس في حاجة إلى ذلك.
{ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٖۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓۚ إِذَا
قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ } [مريم: 35].
{ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ }
[البقرة: 117].
فالآيتان تتكلمان عن نسبة الولد لله، فيبين
لهم المولى أنه ليس في حاجة إلى زوجة، بل إنه يخلق (يصنع) بكن فيكون لو أراد، فكما
أبدع السماء والأرض من لا شيء، فإنه يخلق البشر بأمر كن فيكون ومن لا شيء. وهنا نلاحظ
أنه يتكلم جل جلاله عن المعجز العجيب الذي يخالف الطبيعة.
أما معجزة
مريم:
{ قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي
بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ }
[آل عمران: 47].
تعجبت مريم من خلق (صنع) عيسى، الذي
يخالف الناموس والقانون الكوني، فبين لها الروح الأمين أنه أمر الله وأن الله قد
قال كن، وكن تقضي على المستحيلات، فهو أمر خارج عن الطبيعة كما ذكرتي يا مريم.
كن عيسى
وكن آدم:
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ
مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ }
[آل عمران: 59].
كذلك خلق (صنع) عيسى وآدم كان بهذه الطريقة،
فلم يخلقا بطريقة طبيعية عن طريق اتحاد ذكر بأنثى، بل بتدخل من الله بعد أن قضى أمراً
أي قرر خلق عيسى وآدم، فلما قال كن يا عيسى ويا آدم، كانا كحقيقة ملموسة محسوسة. وهذا
النص يؤكد أن آدم كانت له أماً لأنه ذكر المماثلة والتي تعني المطابقة التامة.
السموات
والأرض حق وكذلك كن فيكون حقٌ:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ
وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَ
يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ
ٱلۡخَبِيرُ } [الأنعام: 73].
تتحدث الآية عن الخلق أي التصميم والرسم
على الورق، فقد خلق السماوات أي صممها ثم جعلها حقاً أي صنعها بعد ذلك، كذلك
أوامره يتم خلقها أي تصميمها ثم بعد ذلك تأتي كن فيكون فتجعلها حقيقة ملموسة.
إعادة
الخلق تنشأ بكن فيكون:
{ إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ
كُن فَيَكُونُ } [النحل: 40].
تتكلم هذه الآية وما قبلها، عن إنكار
الكفار للبعث، وأنه يستحيل عقلاً العودة للحياة، فيخبرهم المولى أن العودة للحياة أي
البعث، إنما يحدث بكن فيكون، أي لأنه يخالف السيرورة والناموس الأول الذي يجعل الحياة
مستحيلة مرة أخرى، إلا لمن أنشأها أول مرة، فكما أنشأ الله البشر بكن الأولى، كذلك
سيفعل بكن الثانية، وقد أخبر في آية أخرى أن كن الثانية أهون من الأولى لو كان لديهم
ذرة من عقل
{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِۚ } [الروم: 27].
كوني
يا عظام الرميم:
{ إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡـًٔا
أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ } [يس:
82].
وهذه الآية على منوال سابقتها تؤكد أن إعادة
الخلق (الصنع) أمر هين عند الله وقد بينت الآية السابقة لهذه الآية اعتراض الكفار على
إعادة الخلق الذي يخالف الطبيعة.
قَالَ
مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ 78 قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ
أَوَّلَ مَرَّةٖۖ [يس: 78-79]
الموت
والحياة ليست بكن فيكون:
{ هُوَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ }
[غافر: 68].
خلق المولى قانون الموت والحياة، وهو قانون
مسيطر، فإن بُلي الجسم وتهالك جاء الموت بلا رادع له، وبلا تدخل من الله فقد قرر هذا
القانون منذ إبداع الكون، لكن هذا لا يمنع أنه قد يعجل في موت أحدٍ كالذي مر على قرية،
أو يحيي من مات كالذي أحياه بضرب لحم البقرة، فتلك كانت بكن فيكون، لأنها خالفت الطبيعة
والناموس الأول.
ملاحظة
مهمة:
بينا أن المولى إذا أراد أن يخلق شيئاً،
فإنه يقول له كن فيكون، ولكن الصحيح أن الخلق يسبق كن فيكون، ولكن لكيلا نطيل
المقال تغاضينا عن هذا التفصيل، وإلا فإن الخلق يسبق الإنشاء والصنع كما تشير هذه
الآية التالية
{ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59].
ولم ندرس جذر خلق بعد، ونرجح أنه يعني
التصميم كما يصمم المهندس المنزل على الورق، أو يصمم النحات التمثال لشخص من
الشخصيات، كما كان يفعل عيسى الذي يخلق أن يصمم ويعمل تمثالاً لطير ثم ينفخ فيه {أَخۡلُقُ
لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا} [آل عمران: 49].
فعيسى يخلق أي يصمم تمثال الطير، ثم ينفخ
فيه فيصبح حياً، ونفخه هو كن فيكون خاصته، وذلك بإذن الله وفضله لعيسى. ولهذا نقول
أن كن فيكون يأتي بعد الخلق للشيء أي تصميمه على الورق تشبيهاً، أو صنعه كتمثال، إذا
كان الأمر السماوي في صنع إنسان، كآدم، فإن كان الأمر هو القضاء على قوة قومٍ كالروم
والفرس، مثلاً، فهو أمرٌ بكن فيكون، وينفذه الملائكة المختارون.
الخلاصة:
يمكن أن نضرب مثلاً بطريقة صنع الله، ولله
المثل الأعلى، فهو كمثل رجل دحرج كرة على الأرض، وتركها تسير وفق القوانين الطبيعية،
ولكنه كان يراقبها، فإن وجد حجراً أمامها أزاله، وإن كادت أن تتوقف بفعل الطبيعة تدخل
فسير القوانين التي تجعلها في حركة دائمة.
هذا بالضبط هو كن فيكون، فالمولى صنع الكون
منذ البداية وتركه يسير على قوانينه، دون تدخل منه، فإذا مرض الإنسان فذلك بسبب خطأ
وقع فيه، أو قانون وباء ينظم الحياة الاجتماعية والمعيشية، فإن أراد الله أن ينقذ أحدهم
بسبب دعاء أو بسبب أنه مصلح ونافع للناس، تدخل المولى والذي يتمثل بكن فيكون، والذي
هو ما نسميه بمعجزة أو مخالف للطبيعة.
وتدخل الله البارئ المصور، يدفعه سلوك
البشر، فقد أطلق لهم الحرية التامة، ولكن لسبب ما يتدخل، جل جلاله، فقد يتدخل
لينقذ مظلوماً، أو يتدخل لكي يرحم بشراً، أو يتدخل لكي يقضي على الظلمة، أو يتدخل
لدعاء شديد من عبيده، فتدخله الذي يكون بكن فيكون، لأن هناك بشراً أحراراً يفعلون
السيئات يجب معاقبتهم أو بشراً أخياراً يحتاجون مساعدة، أو أن لديه خطة يريد
نفاذها.
وإعادة إحياء البشر، يوم القيامة، معجزة وشيء
مخالف للطبيعة، لهذا سيعيد صنعنا دفعة واحدة بقوله كن فيكون، جل جلاله. وهو أهون
من الخلق الأول، لكنه يبقى معجزاً وعجيباً.
ولا علاقة بين كن
فيكون وبين العجلة كما يزعمون، فقد أمر الله بالساعة، ولكنها لغاية اليوم لم
تأت، فقد قضى أمرها وهي آتية كما يذكر القرآن، بل كثير من أوامره التي كانت بكن فيكون،
قد تأخر موعدها إلى حين وقتها المناسب الذي قرره الله لها، فقد قرر الله القضاء على
كبراء قريش، لكن لم يحدث ذلك إلا بعد أعوام، وقد قضى الله أن ينتصر الروم على الفرس،
ولكن لم يتم ذلك إلا بعد أعوام، فهو جل جلاله يمهل ولا يهمل، ويقضي، وينفذ، ولكن في
الوقت المناسب.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك