الثواب والمثوبة والمثابة في القرآن المكرم
ثوب
في المعاجم:
يرى ابن فارس أن ثوب ذات أصل واحد، وهو العود
والرجوع، فيقال ثاب الرجل إلى رشده، أي عاد إلى عقله، كذلك المكان يطلق عليه مثابة،
لأن الناس تعود إليه. إلا أنه يبدو أن له أصل آخر وهو الجائزة، ومنه الثواب الذي يناله
المؤمن، وقد وردت نصوص كريمة بذلك. ومن معاني ثاب أي امتلأ، فيقال: "ثاب الحوض"
عندما يمتلأ بالماء، والثوب يملأ جسم الإنسان ويغطيه فقد يكون هذا الأمر علة التسمية
للثوب ([1])
ثواب
ومثابة مثوبة في القرآن:
حتى لا نضيع الوقت افترضنا بعد طول تأمل
في الآيات، أن الثواب هو "المكان المطلوب والمرغوب" وسوف نطبق هذا
المعنى على كل الآيات فإن قبلت هذا المعنى، فهو صحيح بإذن الله، فالثواب ليس
الجزاء، بل المكان المطلوب والمرغوب، ولكنه يعتبر في نفس الوقت جائزة أو جزاء،
لأنه لن ينال هذا المكان المطلوب إلا من عمل، فنال الجائزة وهي الثواب أي المكان
المطلوب.
وقد تبين لنا سابقاً، أن المثوى هو
المكان الذي نستقر فيه طويلاً، بينما المأوى فهو المكان الذي نهرب إليه من خطر
حادق، فيكون الثواب والمثوبة والمثابة، هي أمكنة مطلوبة ومرغوبة، وهذا ما سيتبين
لنا هنا. ونرى أن ثاب إلى رشده تعني ذهب إلى أحسن مكان في عقله وهو الرشد.
دار
قارون وثواب الله:
{ وَقَالَ
ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّمَنۡ
ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗاۚ وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّٰبِرُونَ } [القصص: 80].
تمنى فقراء النفس من اليهود، أن يكون لهم
مثل ملك قارون من قصور وحدائق، فبين لهم أهل العلم أن ثواب الله أحسن أي مكان الله
الذي هو الجنة، أحسن من قصور قارون، ولم يقتنع هؤلاء اليهود إلا بعد أن خسف المولى
بداره قارون، وهذا يؤكد أن ثواب تعني مكاناً مطلوباً
ﵟيَٰلَيۡتَ
لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ 79 وَقَالَ
ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّمَنۡ
ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗاۚ وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّٰبِرُونَ 80 فَخَسَفۡنَا
بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَﵞ [القصص: 79-81]
فالسورة تقارن بين مكان قارون في الدنيا
وهو داره وقصوره ومزارعه، وبين ثواب الآخرة الذي هو مكان أحسن وأخير.
ترك
الديار والمقابل هو الثواب:
{ فَٱسۡتَجَابَ
لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ
أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن
دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ
عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا
ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ
ٱلثَّوَابِ } [آل عمران: 195].
تبين الآية الكريمة أن هناك من هاجر وترك
دياره، فما جزاءه؟
إنه حسن الثواب!
أي جائزته أن يدخل في ثواب أي في مكان
مطلوب ومرغوب، بل في مكان أشد الأماكن رغبة وهو حسن الثواب، وذلك بسبب ما قاموا به
من تضحيات من ترك المكان المطلوب وهو ديارهم والموت في سبيل الله، فجزاء من تخلى
عن داره أن ينالاً داراً أحسن منها.
ثواب
الدنيا والآخرة:
{ وَمَا كَانَ
لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَٰبٗا مُّؤَجَّلٗاۗ وَمَن يُرِدۡ
ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن يُرِدۡ ثَوَابَ
ٱلۡءَاخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِي ٱلشَّٰكِرِينَ } [آل عمران: 145].
{
فَـَٔاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا وَحُسۡنَ ثَوَابِ
ٱلۡءَاخِرَةِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ } [آل عمران: 148].
تبين السورة أن حسن المعيشة والمكان في
الدنيا يزاحم قليلاً حسن المكان في الآخرة، لكن هذا ليس شرطاً دائماً، فالمحسنين
والذين يضحون بأنفسهم، ويحسنون إلى الناس، فإن المولى يمدهم بالثواب في الدنيا
وحسن الثواب في الآخرة، أي يمدهم بالمكان المرغوب في الدنيا والأحسن في الآخرة.
الثواب
هو الباقيات الصالحات:
{ ٱلۡمَالُ
وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ
وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ
أَمَلٗا } [الكهف: 46].
{ وَيَزِيدُ
ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ هُدٗىۗ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ
خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٞ مَّرَدًّا } [مريم: 76].
لم ترد عبارة " الباقيات
الصالحات" إلا في هاتين الآيتين، والباقيات الصالحات هي الجنة، قولاً واحداً،
لأنها باقية وتدوم، ففي سورة الكهف قارن بين زينة الدنيا وهي التي لا تدوم،
والآخرة والتي نعتها بالباقيات الصالحات.
ﵟوَٱضۡرِبۡ
لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ
ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ
ٱلرِّيَٰحُۗ ﵞ [الكهف: 45]
وبما أن الباقيات الصالحات هي الجنة،
فإنها مكان ولهذا نعتها بأنها ثواب، والثواب كما قلنا هي المكان المطلوب والمرغوب.
وفي سورة مريم تأكيد أن الثواب مكان، لأنه يقول قبلها بآية أن الكفار سيكون لهم
كان مقابل وهو "شر مكاناً" ويقابله ثواب أي أحسن مكاناً للمؤمنين.ﵟوَإِمَّا
ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا ﵞ [مريم: 75]
وكل هذا الكلام رد على الكفار الذين
سخروا من المؤمنين الفقراء، الذين بينوا لهم أن "مقامهم" أي مكانهم أحسن
ندياً من مقام المؤمنين، فيرد عليهم القرآن أن ذلك لن يدوم، بل سيكون العكس يوم
القيامة.
ﵟقَالَ
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ خَيۡرٞ
مَّقَامٗا وَأَحۡسَنُ نَدِيّٗا 73ﵞ [مريم: 73]
بقي ملاحظة أخيرة: وهي أنه قال عن
الباقيات الصالحات خيراً ثواباً وخيراً مردا. وقد شرحنا الرد وقلنا هي توجيه
الشيء بغير إرادة منه، وتصريف مرد هو مفعل، وهو للمكان مثل متحف أو معبد أو متجر.
فمرد هو مكان، وبهذا نتيقن أن الثواب مكان يُرد فيه البشر بغير إرادة منهم ولهذا
ذكر في سورة أخرى أنه يسوق الذين اتقوا إلى الجنة زمراً.
المثوبة:
وردت آيتين في المثوبة أولها هي:
{ وَلَوۡ
أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَمَثُوبَةٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ
خَيۡرٞۚ لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ }
[البقرة: 103].
فإذا رجعنا بالآيات إلى الوراء يتبين أنه
يتحدث عن مكان
ﵟقُلۡ
إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ ﵞ [البقرة: 94]
فاليهود يرون أن الدار الآخرة هي الثواب
أي هي المكان الذي سوف يدخلونه، لأنه خصهم بذلك كعرق نقي يهودي من ذرية إبراهيم،
فرد عليهم القرآن أنهم لو آمنوا واتقوا لكان نصيبهم هو المثوبة أي الجنة في الدار
الآخرة، فمثوبة كما هو واضح هو مكان يذهب إليه الإنسان
أما
الآية الثانية
{ قُلۡ هَلۡ
أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ
ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ
وَعَبَدَ ٱلطَّٰغُوتَۚ أُوْلَٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن
سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة: 60].
ونلاحظ أن الآيات التي قبلها ذكر المولى
رجوع البشر إليه أي إلى الحساب ثم الجنة والنار وهي كما نعلم أمكنة.
ﵟ
إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا ﵞ [المائدة: 48]
ثم في نفس الآية بالأعلى يتحدث المولى عن
المثوبة وأن هناك مثوبة شراً، وأن هناك "شراً مكاناً" في نفس الآية
والسطر، وهذا يؤكد أن المثوبة هي مجرد مكان، ولكن لها نعوت معينة، يجب أن نكتشفها.
الفرق
بين الثواب والمثوبة:
نرجح أن المثوبة أقل من الثواب، في
قيمتها وجمالها، فهي أمكنة أقل، وهي مجرد للذين آمنوا واتقوا، كما تشير الآية
الأولى، وليس للمؤمنين والصالحين. وتصل في الدنو حتى تصل إلى "المثوبة
الشر" التي ليس فيها جمال وقيمة، وأنها ستكون مثوبة أي مطلوبة ومرغوبة عند من
لعنهم الله، لهول ما يجدونه من أماكن أخرى مهلكة في نار جهنم، وقد شرحنا سابقاً أن
النار أقسام كالسعير والحميم وجهنم والجحيم، وهم في طواف بينها وبين الحميم، فكلما
خرجوا من الجحيم يتلهفون إلى الحميم وتصبح عندهم مثوبة أي مكاناً مطلوباً ومرغوبا
بالنسبة لهم، وهذا لأنهم كانوا في مكان أشد سوءاً وعذاباً.
مثابة:
{ وَإِذۡ
جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن
مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ
وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ
وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } [البقرة: 125].
من الواضح أن مثابة تعني مكان مطلوب كما
الثواب والمثوبة، وهنا ذكرت الآية أن البيت مثابة، وذكرت أن البيت أمن، وذكرت أنه
مقام إبراهيم، أي المكان الذي أقام فيه إبراهيم، فكلها تتحدث عن الأمكنة.
فكيف كانت مكة مثابة للناس؟
لأن الناس وهم علية القوم وشيوخ القبائل
في ذلك الزمن، يعتبرون البيت مثابة أي مكان مرغوباً، إما للتجارة أو للتغذية
الروح.
لاحظ عزيزي القارئ أن الذي جعل مكة مثابة
للناس أي مرغوبة بالزيارة، هو المولى جل جلاله، أي جعل الناس في شغف لزيارتها، كما
جعلها آمنة، وأنها مقام إبراهيم. وهذا توجيه لليهود الذين آمنوا بالرسول وبقوا على
دينهم وتوراتهم، ورفضوا التوجه بالقبلة ناحية مكة، فهي تخبرهم أن مكة مرغوبة لكل
الناس وآمنة وهي مقام جدكم إبراهيم، فلا عذر لديكم.
والحقيقة أن مكة بلد قاحل وجاف، وحار، شبه
صحراوي، فهو ليس ثواب للناس، أي لا يرغب به البشر في حالتهم الاعتيادية، لكن بدعوى
من إبراهيم { رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ
عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ
مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ}([2]) أي أجعل أفئدة الناس، تهوي
"أفئدتها" فتعشق المكان وتبذل الغالي من أجل السفر إليها، فاستجاب
المولى لإبراهيم وجعل البيت مثابة للناس، أي عشقاً به، فصار ثواباً أي صار مكاناً
مرغوبا مطلوباً. وهذا معنى مثابة، فهو المكان الذي يفترض ألا يزوره أحد بسبب جوه،
إذا به يحوله المولى إلى ثواب لهم أي مكان مطلوب بقوة الله وقدرته ومعجزاته.
أثابكم
غم بغم:
{ إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰٓ أَحَدٖ وَٱلرَّسُولُ
يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ فَأَثَٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيۡلَا
تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ
بِمَا تَعۡمَلُونَ } [آل عمران: 153].
كما تبين لنا من مثوبة ومثابة وثواب،
أنها مجرد أماكن مرغوبة ومطلوبة، وفي هذا الآية تبين أن المسلمين تعرضوا للقتل في
معركة أحدٍ كما تقول المرويات، فهنا يهرب قليلو الإيمان إلى الجبال فهم في صعود،
ولا يلون على أحدٍ أي لا يتبعون أحدٍ، بل في حركة فوضوية، ليس هرباً منظماً، بل
فوضوياً، والرسول ينادي آخر هذا الفريق ممن يستطيع سماعه أن عودوا إلى أماكنكم.
لقد أصابهم الرعب فهم قد انتصروا في
معركتين سابقتين على قريش كما يقول القرآن، فما بالهم اليوم يُهزمون. لقد اهتز
إيمانهم وحسبوا أن الله سيقاتل عنهم، فهم جماعات يهودية اسلمت، ولكن بقيت متواكلة.
ومن رحمة الله بهم أن أثابهم أي دلهم على
المكان المرغوب، وهو مكان "غم بغم"، أي فيه الغم مضاعف، وقد شرحنا معنى
الغم وقلنا هو الظلام أو المكان الذي يستطيع الشخص فيه الاختباء، فالله من أوحى
لهم بهذا المكان وحياً خفياً، لكي يدخلوا في ظلام مضاعف، ولهذا غرض، وهو أن تسكن
قلوبهم، وعلم النفس يؤكد ذلك، فإن الجلوس في مكان مظلم أو إغماض العين يساعد في
التخفيف من الخيفة والتوتر، ويعود السبب إلى أن ذلك يقلل من المؤثرات الحسية
البصرية، فقلة تدفق المعلومات المرئية تسكن النفس.
هذا السكون هو غرض المولى لكيلا لا
يحزنوا على الخسائر المادية والبشرية، لأن الرعب والخيفة يولدان الحزن الذي هو ألد
أعداء المؤمن القوي.
وقد نجحت الخطة فتقول الآية التالية إن
الأمن حل في قلوبهم
ﵟبَعۡدِ
ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ
أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ
ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ ﵞ [آل عمران: 154]
وهذا الأمن ظهر دليلة على نومهم، من شدة
الأمن، لكن هناك فريق آخر ظنوا بالله أي جزموا أن الله قد تركهم وأهملهم أو لا
يستطيع القضاء على قوى الشر، نعوذ بالله من الجزم الفاجر.
هذا هو التفسير الصحيح لهذه الآية، وليس
ما تقوله كتب التفسير العجيبة، والتي تزعم أن الغم هو الحزن وأنهم غموا أي حزنوا
لموت الرسول، لكن أهل التفسير لم يدركوا أن الرسول كان ينادي الهاربين الصاعدين
إلى الجبل، والذي يجعلهم يتيقنون بعدم موته. والعجيب أن الآية ذكرت الحزن وذكرت أن
الله يحاربه ويمنعه عن المؤمنين، فكيف يغمهم أي يحزنهم ثم يقول لكيلا تحزنوا.
وقد زعموا أن الرسول كسرت ثنيتاه
ورباعيتاه وتضرر فكه وشفتاه، فهل يستطيع هكذا شخص الوقوف، ناهيك عن الكلام والصراخ
بصوت عال على الهاربين، كما تقول الآية. لا لم يُصَب الرسول مطلقاً في معركة أحدٍ
على الأقل، ولم يصب في غيرها كما نعتقد، فالرسل عليهم حماية من الملائكة مضاعفة
"والله يعصمك من الناس".
ثوب
الكفار:
{ هَلۡ ثُوِّبَ
ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ }
[المطففين: 36].
تقول الآيات التي قبلها أن الكفار سيصلون
الجحيم بسبب التكذيب، والجحيم مكان يدخلونه جزاء أفعالهم، فهم يسكنون جهنم الذي هو
مكان.
ﵟثُمَّ
إِنَّهُمۡ لَصَالُواْ ٱلۡجَحِيمِ 16 ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ
تُكَذِّبُونَﵞ [المطففين: 16-17]
لهذا يسخر منهم المؤمنون، بعد أن ينظروا
إلى مواقعهم، ويقولون: هل حصل الكفار على مكان مطلوب ومرغوب نتيجة تكذيبهم.
الخلاصة:
صحيح أن الثواب هو جزاء للمتقي، وهو حسنة
له، وجائزة، ولكنه ليس أي جائزة أو حسنة، إنه مجرد مكان، نعم مكان، وهو المكان
المطلوب والمرغوب، فإذا أثابك الله فيعني أنه أدخلك المكان المطلوب والمرغوب لك،
والمقصد هو الجنة لأن الجنة مكان مطلوب لكل البشر.
أما المثوبة فهي المكان المطلوب، ولكن أقل
من الثواب، وهو للذين آمنوا وليس للمؤمنين فالمؤمنين لهم الثواب، أما المثوبة فهي
للذين آمنوا والذين أتقوا. وقد تصل درجة المثوبة أن تكون مكاناً سيئاً، في أقل
درجاتها، ذلك أن الكفار لو خرجوا من مكان غاية في السوء إلى مكان فيه سوء،
فسيعتبرون ذلك المكان مثوبة، أي يصبح مكاناً مرغوباً عندهم لأنه أهون من سابقه.
أما المثابة، فهي المكان الذي كان يفترض ألا
يكون مطلوباً ومرغوباً بسبب حالة فيه تنفر البشر منه، ولكن المولى جعل فيه ما هو
سر وخفي، بحيث صار مثابة أي ثواباً أي مكاناً مطلوباً للناس.
وقد يجعل المولى بعض الأماكن المنفرة
جداً، مرغوبة للحظة، لغرض عنده جل جلاله، مثلما حدث مع الصحابة الفارين من معركة
أحدٍ، فقد أثابهم أي رغب لهم مكاناً من الأمكنة، الذي هو "غم بغم" أي
الظلام فيه مضاعف، فهو مكان ينفر منه الناس ويخشونه، لكنه رغبه لهم، وذلك لكي
يدخلوا في السكينة لأن الظلام أدخلهم في السكينة والنعاس فزال عنهم الحزن.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك