الغني في القرآن المكرم
غني
في المعاجم:
غني أصلان صحيحان، أحدهما يدل على
الكفاية، والآخر هو صوت. فالأول هو الغنى في المال. والغناء هو الكفاية. وغنى
القوم في دارهم أي أقاموا. والغانية هي المرأة التي استغنت بمنزل أبويها وقيل
استغنت ببعلها، وقيل استغنت بجمالها عن لبس الحلي، وقيل، بل المرأة التي تُطلب ولا
تَطلب الناس لجمالها. وروضة غناء أي التج عشبها واعتم. وقرية غناء أي كثيرة الأهل
والبنيان والعشب. وغن الوادي أي كثر شجره. وأغن السقاء أي امتلأ ماء. ومغن أي مجز
وكاف. والغني والغاني أي ذو الوفر. والغنى ضد الفقر. وغني أي صار له مال.
والمِغاني أي المنازل التي يعمرها الناس ([1])
الغني
في القرآن:
لو افترضنا أن الغنى هو كثرة المال، فلن يستطيع هذا الافتراض تفسير
كل الآيات التي ورد فيها هذا الجذر، لكن الافتراض الذي وقعنا عليه ونجزم أنه سيفسر
كل الآيات هو التالي:
الغنى: هو الاحتجاب عن الشيء الضار أو السلبي أو السيء.
فهل ينطبق هذا التعريف على كل النصوص؟ لنرى:
لا
يغني من اللهب:
{لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}
[المرسلات : 31]
من المؤكد أن المقصد هنا ليس المال، فهو يتحدث عن ظل في مكان الحشر
والحساب، حيث تحيط بهم النار وترميمهم بشرر هذا الشرر يحمل لهباً يحيط بهم. وبهذا
فإن الغنى لا يعني كثرة المال، بل أمر آخر وهو كما ذكرنا في التعريف هو الحجاب عن
الشيء الضار.
استغناء
الكفار:
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس : 5]
{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق : 7]
من الواضح أن الكفار هنا يستغنون عن الرسول، أي يحتجبون عن سماع
كلامه، لأنه في نظرهم ضار أو مؤذ أو سلبي، ففي سورة عبس يعاتب المولى الرسول أو
غيره من الدعاة الكبار، على تصديهم لهذا الكافر الذي استغنى أي احتجب عن السماع،
وترك وإهمال من جاء يسعى لسماع كلام الله.
شأن
يغنيه:
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس : 37]
تتكلم السورة عن فرار الإنسان من أقاربه، لماذا؟ لأن لديه شأن يغنيه،
فماذا يعني ذلك؟
يعني ببساطة شأن يحجبه عن مشاكل أقاربه،
فكل شخص في مصيبة فهناك كوارث طبيعية هائلة تشخص لها الأبصار، لكن هو في غنى عن
مساعدتهم، أي هو محجوب عن مساعدتهم لأنه مشغول بنفسه، ولأن في مساعدتهم ألم وضرر
كبير عليه.
يغني
من جوع:
{لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}
[الغاشية : 7]
طعام الضريع في النار، لا يسمن آكله ولا
يغني من جوع، أي لا يحجب الآكل من ألم الجوع وضرره، فلو كان يحجب ألم الجوع، لقال
ويغني من جوع، وليس لا يغني.
الغنى
ضد العذاب والضر:
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم : 21]
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ}
[يس : 23]
{ فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا
مِنَ النَّارِ} [غافر : 47]
هذه الآيات الواضحات تؤكد أن الغنى هو الاحتجاب عن الضر والعذاب، وما
هو سلبي وناقص.
لا
تغني الأموال والأولاد:
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل
عمران : 10]
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة
: 28]
أي تلك الأموال التي جمعوها في الدنيا كذلك الأولاد، لن يغنوا عنهم
شيئاً أي لن يحجبوا عنهم الضرر والمتمثل في عذاب النار.
الفئة
تغني:
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ
فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ
مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال : 19]
المولى يحذر الكفار من عداوة المسلمين، وأنهم اذا استمروا سيأتيهم
الفتح، ثم بين لهم أن جماعتهم لن تغني عنهم، أي أن جماعتهم، حتى لو كانت كثيرة
العدد، فلن تغني أي تحجب عنكم شر قوة المؤمنين. كذلك الحال حدث للمؤمنين في معركة
حنين، فلم تنفعهم كثرتهم في تلك المعركة وكادوا يهزمون.
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة : 25]
وهذا يؤكد أن الغنى ليس كثرة المال، إنما هو الحجاب عن شيء مؤلم
وضار.
لا
يغني المال:
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا
تَرَدَّى} [الليل : 11]
أي أن المال لا يحجب عنه النار والعذاب إذا تردى في الحفرة، ذلك لأن
المال يجب الرزق ويجب الأعوان، وكل هذا لن يحدث يوم القيامة.
الظن
لا يغني:
{ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ
شَيْئًا} [يونس : 36]
شرحنا سابقاً معنى الظن وقلنا هو الجزم، وبعضه قائم على الأدلة فهو
ظن حسن وبعضه قائم على التعصب والاعتباطية، هذا الظن لا يغني من الحق، أي لن يحجب الشخص
الظان، عن الضلال والانحراف. والذي يغني الإنسان هو الحق، فهو الذي يحجبه عن
الضلال والانحراف.
غرض
يعقوب:
{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف : 68]
أمر يعقوب أن يدخل أولاده متفرقين، حتى لا يتم الإحاطة بهم، وعلم أن
ذلك الفعل لن ينفع إذا أراد الله أن يتم القبض عليهم، فلا ينفع الحذر مع القدر. ولهذا
استخدمت الآية لفظة "يغني" أي يمنع ويحجب عن الضرر والشر، الذي وقع
عليهم فعلاً وتمثل في سرقة أخيهم لصواع الملك، فدمرهم نفسياً.
أغنى
وأقنى:
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم : 48]
الغنى هو كما قلنا الحجب والوقاية من الضرر وهنا يقصد الحجب من الفقر
والجوع، لكن أقنى أعلى منها، فهو من الاقتناء، فالمولى يغني الإنسان من الجوع
والفقر، أي يحجبه عنهما، كذلك يقنيه أي يجعله أكثر مالاً بحيث يكدس المزيد من
المال ويقتنيه.
دولة
بين الأغنياء:
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ
كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر
: 7]
دولة من التداول، أي يكون المال يتداول بين الأغنياء فقط، الذين هم
في حجب ووقاية من الفقر والجوع، فلا يصح أن ينالوا من مال الفيء، حتى يتزايد عدد
الطبقة المتوسطة ولا تتآكل، وفي هذا نذير شؤم.
لماذا
المال غِنى:
{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى
: 8]
كثير من الآيات تتكلم عن المال باعتباره غنى، وباعتبار صاحبه من
الأغنياء، حتى أن أهل التراث حسبوا أن الغني يعني صاحب المال الكثير، ولكن صاحب
المال الكثير هو مجرد غني عن الفقر والعيلة كما تقول الآية بالأعلى، لكنه ليس غني
في الأمن والسعادة. وسمي الغني غنياً لأن المال يحجب عنه الفقر والجوع والعيلة، أي
يحجب عنه ما يضره من هذه الأصناف.
الله
غني:
{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
[يونس : 68]
ورد نعت المولى أنه الغني 14 مرة ويعني ببساطة أنه في الحجاب عن أي
ضرر أو نقص أو سوء، جل جلاله، بل قالها بعبارة أخرى في ثلاث آيات
{إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ} [آل عمران: 176].
{ لَن
يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ } [آل عمران: 177].
{وَلَا تَضُرُّوهُ شَيۡـٔٗاۗ وَٱللَّهُ } [التوبة: 39].
وقال جل جلاله أنه يتأذى ممن يتطاول على نساء النبي أو نساء المؤمنين
أو حتى المؤمنين، بالبهتان أي اتهام الصحابة المؤمنين ونسائهم بالزنى، بل لعن من
يفعل ذلك
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ} [الأحزاب: 57].
لأن الله جل جلال العظيم الرحيم الودود لا يرضيه أن يتأذى أهل
الطهارة والنقاء بهذه التهم الخطيرة والمدمرة.
الخلاصة:
الغنى ليس كثرة المال، فهذا أحدها فقط، فالغنى هو الحجاب الذي يمنع
عن صاحبه أي ضرر أو سوء أو نقص، فالكافر لن يغنيه جماعته أو صنمه من عذاب الله يوم
القيامة، أي لن يحجب عنه ذلك الضرر والسوء، وصاحب المال غني عن الجوع والتشرد، أي
في حجاب من هذا الضرر، لكنه ليس غني عن عقاب الله أو مصائب الدنيا، والحق يغني من
الضلال، أي يحجب المهتدي عن ضرر الضلال والانحراف على عكس الظن، والله غني عن العباد،
أي لن يضره كفرهم وضلالاهم وعنادهم.
هذا والله أعلم
علي موسى الزهراني
هل لديك نظرة أخرى
أطرحها هنا كي نستفيد من علمك