حبط وبطل ودمغ في القرآن المكرم

 



حبط وبطل ودمغ في القرآن المكرم

نتيجة حدوث خلط ووهم بين حبط وبطل، فيستحسن أن يتم دراسة هاتين المفردتين ليتضح لنا مكان التداخل بينهما وما يختلفان فيه.

 

حبط في القرآن المكرم

 

حبط لغة:

أصل واحد يدل على بطلان أو ألم، فأحبط الله عمل الكافر أي أبطله. والحبط أن تأكل الدابة حتى ينتفخ بطنها. وحبط الجلد إذا كانت به جراحٌ فبرأت وبقيت آثارها. والإحباط أن يذهب ماء الركية فلا يعود. وحبط الجُرحُ أي عرِب ونكس ([1])

حبط في القرآن

في كل القرآن المكرم يذكر الجذر حبط مع العمل، فلا يحبط إلا العمل، وهناك آية واحدة ذكر فيها أن الصناعة هي التي ستحبط، وسيتبين لنا أن الصناعة عمل من الأعمال سميت بذلك لسبب خاص، سنشرحه في مفردة صنع، فحتى هذه الآية تؤكد أن الذي يحبط هو العمل فقط.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود : 16]

وقد وضح القرآن سبب حبوط الأعمال الطيبة، ذلك أن صاحبها قد فعل الموبقات كالجرائم، والظلم، والشرك، والكفر، فكما قيل ليس بعد الكفر ذنب، فعلى سبيل المثال: ما قيمة الطعام من شخص قد نهب كل مالك؟ بالتأكيد لا قيمة لذلك الطعام عندك.

{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة : 217]

ونلاحظ أن الحبوط يحدث في الدنيا والآخرة، فهذه الأعمال ستحبط في الدنيا والآخرة، لأن صاحبها قام بعمل شنيع كالكفر والشرك والظلم، بل مجرد رفع الصوت على رسول الله يحبط العمل؛ لأنه يدل على فساد كبير في القلب.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات : 2]

وحبوط العمل في الدنيا، أي أن ثماره تسقط، فلا تنال أي مثوبة في الدنيا، فلا تنال حسنة في الدنيا ولا الآخرة، وإنما تعيش وفق قوانين الطبيعة، فعلى قدر عملك تنال، وليس لك من توفيق الله شيء.

ونلاحظ أنه بعد حبوط أعمال الإنسان، أن صاحبه صار من الخاسرين، فالحبوط لا يعني الخسارة، ولكنه يؤدي إلى الخسارة، لأن رصيدك من الحسنات صار صفراً.

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَٰسِرِينَ }  [المائدة: 53].

وخير آية تشرح حال الأعمال يوم القيامة هو هذه الآية المكرمة

{وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}[الفرقان:23].

واختلف في معنى الهباء حسب المرويات، ولكن اتفقوا على أنه الشيء التافه الحقير المتلاشي، فهو عند علي بن أبي طالب رهج الغبار يسطع ثم يذهب. وفي رواية عنه هو شعاع الشمس الذي يخرج من الكوة. وفي رواية أخرى عنه هو رهج الدواب. وعند ابن عباس هو الذي يدخل الكوة مثل الشعاع. وفي رواية عنه هو الذي يطير من النار إذا اضطرمت، فإذا وقع لم يكن شيئاً. وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو ما تسفي الريح وتبثه ([2])

ولهذا نرجح أن الحبوط جاء من الهبوط، وأن حبط ابن عم هبط، ذلك أن الهباء يهبط في الأرض، ثم يتلاشى، كذلك الأعمال تهبط بعد قيامها وتشكلها وصلابتها؛ فتصبح لا شي، مثل الرماد أو الغبار الساقط.

فالحبوط للأعمال يعني تحول تلك الأعمال إلى لا شيء ولا قيمة، لهذا فإن المولى لا يقيم لهم ميزان، لأن كل أعمالهم صارت هباء لا وزن لها، فالوزن لأعمالهم وليس وزنهم أنفسهم، فأعمالهم الصالحة صارت بلا قيمة ولا وزن، فلماذا تقام لأجلهم الموازين وأعمالهم هباء؟

{ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِءَايَٰتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَزْنًا }  [الكهف: 105].

 

البطل في القرآن المكرم

بطل لغة:

بطل أصل واحد وهو ذهاب الشيء، وقلة مكثه ولبثه. ويطلق على الشيطان الباطل، لأنه لا حقيقة لأفعاله. كذلك أي شيء لا مرجوع له ولا معول عليه فهو باطل والبطل الشجاع. وبطل الرجل أي صار شجاع. والبطل سمي بذلك لأنه يعرض نفسه للتلف فكأنه يزول. الباطل ضد الحق، وذهب دمه بطلاً أي هدراً. وبطل الأجير أي تعطل فهو بطال. ([3])

البطل في القرآن

دائماً يذكر الباطل مع الحق، ويكون على خلافه، ونعلم أن الحق هو الشيء الموجود فعلاً لا وهماً، فيكون الباطل هو الوهم، فالباطل ليس له وجود، لكنه يتمظهر وينتفخ لكي يبهر الناظر.

العلاقة بين البطل والطبل:

ونلاحظ أن البطل ابن عم الطبل، فكما أن الطبل شيء مجوف ويصدر ضجيجاً وصوتاً ضخماً لا يتناسب مع حقيقته الفارغة، كذلك البطل أي الباطل، فهو شيء مجوف في عالم الأفكار والقيم، يصدر ضجيجاً كابن عمه، ولكنه حقيقة فارغ لا قيمة له ولا حقيقة له.

تحويل الحق إلى باطل:

ويمكن تحويل الحق إلى باطل وذلك بتفريغه من محتواه، فحينها يتم بطلانه أي يصبح أجوفاً لا قيمة له، مثل الصدقات التي هي حقيقة، لكن المن يجوفها فيحولها إلى باطل، أي في الحسنات.

{ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ}  [البقرة: 264].

وهناك من يغطي الحق بالباطل الأجوف، حتى لا يراه الناس، وذلك بإلباسه الباطل، وهذا يؤكد أن الباطل مجوف فارغ من داخله، وكلما حاول الحق الظهور كتموه.

{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ }  [البقرة: 42].

{ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ}  [آل عمران: 71].

وكما أن للباطل قدرة على تغطية الحق، فإن للحق قدرة هو الآخر على تدمير الباطل، فإذا ظهر الحق زهق الباطل.

{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }  [الأنبياء: 18].

لاحظ هنا أن الحق لا يُلبس الباطل، بل يدمغه، والدمغة هي الضربة في الرأس وهي أقواها، لأنها تصل إلى الدماغ فتقتل ([4])  لأن الحق هو القوة والباطل هو الوهم، فهو مجرد تغطية للحق ولا يقدر عليه بينما الحق يسحق الباطل وذلك بدمغه.

{ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }  [الأعراف: 118].

{وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }  [الأعراف: 139].

{ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ}  [الأنفال: 8].

ويتم أكل مال الناس بالباطل أي الوهم والكذب، الذي يتمظهر منتفخاً، فيظن الناظر أنه حق، فأكل المال هنا ليس عن طريق النهب والسرقة والعدوان، بل بالتحايل والخداع والكذب.

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِ}  [البقرة: 188].

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِ}  [النساء: 29].

{وَأَكْلِهِمْ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ}  [النساء: 161].

والسموات والأرض وما فيهما خلق حقيقي وليس وهمي منتفخ، فالمؤمن الصادق يدرك أن ما يراه حقيقة وليس مجرد خيال باطل.

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }  [آل عمران: 191].

       وموسى بين للسحرة، أن ما صنعوه من سحر، سيبطله الله، أي سيفرغه من محتواه، فيظهر بطلانه، أي سيتبين للناس أنه مجرد خداع بصري، وهذا ما حدث فقد ألقفت عصاه ما يأفكون

{ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ }  [يونس: 81].

{ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }  [الأعراف: 117].

 

 الخلاصة:

ونستخلص من هذا المبحث، أن الحبط هو تحول الشيء إلى هباء لا قيمة ولا وزن له، فهو كالغبار والرماد الذي يهبط، كذلك الأعمال تحبط أي تهبط، ولا يصبح لها وجود، فهي مجرد هباء معنوي لا قيمة لها.

فالحبوط مثل الهبوط، فالهبوط للأشياء المادية والحبوط للأشياء الفكرية المعنوية، فكما يهبط التراب والغبار والرماد ويتلاشى، كذلك تهبط الأفكار والقيم والأعمال الضارة المزيفة وتتلاشى، كما يحبط الماء من الركية، أي يزول ولا يعود إليها.

أما الباطل فهو من البطل، وهو تجويف مثل تجويف الطبل، فهو يبدو ضخما مثل الطبل، ويصدر ضجيجاً مثل الطبل، لكن حقيقته لا شيء، فهو مجوف يُلبس الحق ويغطيه، ليس لقوة فيه، ولكن لوجود عين زائغة تبحث عنه، فإن تحرك الحق قضى عليه بدمغه وأبطله.

ونستخلص من ذلك أن الحبط يتعلق بتقييم الأعمال وتقديرها وحسابها، وأن البطل هو لبحث وجود الأشياء من زيفها، فالحبط يجعل الأشياء بلا قيمة ولا مقدار ولا حساب، والباطل يزيف الأشياء ويشوه الحقائق.

وبهذا نفهم الآية التالية

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود : 16]

أن ما صنعوه سيصبح بلا قيمة ولا حساب، وأن ما عملوه كان مجوفاً فارغاً من الحقيقة والنفع، من الأساس.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني

 

 



([1]) «مقاييس اللغة» (2/ 129) «الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية» (3/ 1118) المعجم الاشتقاقي المؤصل (1/ 367)

([2]) «موسوعة التفسير المأثور» (16/ 60)

([3]) «الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية» (4/ 1635)

([4]) «الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية» (4/ 1318)


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -