الهجرة والمهاجر في القرآن المكرم

 





الهجرة والمهاجر في القرآن المكرم

هجر لغة

هجر أصلان أحدهما يدل على قطيعة والثاني يدل على شد شيء وربطه. فالهجر ضد الوصل وكذلك الهجران. وهاجر القوم من دار إلى دار تركوا الأولى إلى الثانية. وتهجر الرجل تشبه بالمهاجرين. والهجير نصف النهار. وسميت الهاجرة بذلك لأن الناس يستكنون في بيوتهم كأنهم تهاجروا. والهجير يبيس النبت الذي كسرته الماشية وسمي بذلك لأن الراعي يهجره. وهذا أهجر من هذا أي أكرم. والهجير هو الحوض الكبير سمي بذلك لأنه يُقتطع للماء. والهجار حبل يعقد في يد البعير. والهجر الذي يمشي مثقلاً ضعيفاً متقارب الخطو ([1])

هجر في القرآن

لماذا استخدم القرآن مفردة الهجرة بدلاً من السفر، أو الترحال، أو الانتقال أو البعد؟

من خلال الآيات المكرمات يتبين لنا أن الهجرة تعني انفصال بين طرفين نتيجة غضب أو كراهية أو سوء تعامل

{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}  [النحل: 41].

وهذا ما حدث بين إبراهيم وأيبه

{لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا }  [مريم: 46].

وهذا ما حدث مع إبراهيم وقومه بعد ذلك

{وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي}  [العنكبوت: 26].

كذلك هجرة الزوجات في مخدع الزوجية

{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}  [النساء: 34].

كذلك كفار قريش هجروا القرآن، فلم يكتفوا بترك القرآن وعدم سماعه والانشغال عنه، بل قاموا بمعاداته والرد عليه وتنفير الناس منه، والابتعاد عنه نفوراً ومقتاً له.

{إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا}  [الفرقان: 30].

وعلى هذا يمكن فهم بقية الآيات المكرمات، بل على هذا الفهم للمفردة يمكن إدراك حقائق هائلة كما سوف نرى.

فعندما تعذر الكفار بعدم اتباع الحق بأنهم مستضعفين، استخدمت الملائكة مفردة الهجرة دون مفردات أخرى كالسفر والبعد، لتؤكد أن الهجرة تعني الفراق بين خصمين أحدهما يتعرض للعدوان والظلم.

{ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}  [النساء: 97].

وبهذا المعنى يتضح لنا بجلاء، أن السفر إلى المدينة المنورة أو غيرها من المدن لم يكن مكتوباً على كل المؤمنين، بل على من تعرض للظلم، فالقرآن طالب هؤلاء بالهجرة، ولو طالب كل مؤمن بالسفر إلى المدينة لاكتظت بالمؤمنين حد الانفجار، لكنه أراد فقط، سفر من هو مظلوم أو تعرض للضغط، حتى لا يكون لديه عذر في عدم إيمانه وطاعته لله والدين الجديد، فإذا كان المؤمن مستقراً في بلاد قومه، ولم يتعرضوا له بسوء وقبلوه بدينه الجديد، فلا هجرة واجبة عليه.

وبهذا نفهم الحديث الذي ينسبوه إلى الرسول: "لا هجرة بعد الفتح" ذلك أن الفتح خاصة فتح مكة، مكن للمؤمنين، في كل بقاع الجزيرة العربية، التي خضعت لدولة الرسول، وأن المؤمن في تلك القرى والبلدات لن يتعرض للاضطهاد بعد اليوم لأن الدولة قادرة على أن تصل إليه وتحميه، فلا حاجة للهجرة وهرب الشخص بدينه.

لكن قبل الفتح والتمكن، كان لزاماً على المؤمن المضطهد أن يهاجر، فإن لم يهاجر، فلا نصرة له إذا كان بين دولة الرسول وقوم ذلك المظلوم معاهدة سلام.

{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }  [الأنفال: 72].

{فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}  [النساء: 89].

هجرة الرسول كانت في وضح النهار

ولأننا نعرف معنى الهجرة، وهي ترك الديار بسبب العداوة مع العشيرة، فإن الرسول انتقل إلى المدينة على مرأى ومسمع من الكفار، وهم فرحوا بذلك، ولو انتقل الرسول إلى المدينة خُفية لقال النص الكريم أنه هرب أو استخدم فعل أسرى، والتي تعني انتقل في خفاء، لكنه بدلاً من هذا قال إنه هاجر.

{وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ الَّٰتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}  [الأحزاب: 50].

بل لم يكتف النص بذكر أن الرسول هاجر، فقريباته هاجرن معه، أي سافرن في نفس الرحلة معه، وهن مؤمنات، فحدث نفور بينهن وبين أهلهن أو بينهن وبين أزواجهن، بسبب الإيمان، لهذا هن مهاجرات ولسن مسافرات، ومن المرجح أنهن كن متزوجات من كفار، وفضلن الفراق والهجرة على عش الزوجية.

وهذا ما قررته الشريعة بعد ذلك، فمنعت الكفار من بقاء الزوجة المؤمنة في عصمتهم.

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَٰتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}  [الممتحنة: 10].

وسوف نتحدث بتفصيل عن هجرة الرسول وكيف كانت في مقال مستقل.

أجر الهجرة

والهجرة أجرها عظيم جداً، فالشخص يترك بلاده التي ولد فيها وعشيرته وأهله ويناصبهم العداء من أجل عقيدته، فيرحل إلى بلاد غريبة ويتحول من شخص غني إلى فقير، إذا منعه قومه من حمل ماله معه، بل صار للمهاجر حق في الصدقة مثل الفقير والمسكين.

{ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ }  [الحشر: 8].

{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100].

{ وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَٰكِينَ وَالْمُهَٰجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }  [النور: 22].

الخلاصة

إن الهجرة ليست سفراً، أو انتقالاً، أو اعتزالاً، أو تركاً، رجماً، بل هي ما يشبه الطرد، مع نهب مال المهاجر، وظهور البغضاء والشحناء بين المهاجر وقومه، فيضطر للهجرة فراراً بدينه، وهو ليس رجماً لأن المرجوم قومه طردوه، بينما المهاجر خرج من ذات نفسه.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني



([1]) «مقاييس اللغة» (6/ 34) «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (4/ 2289)


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -