فعل وعمل في القرآن المكرم

 


فعل وعمل في القرآن المكرم

عجزت التفاسير والمعاجم عن سبر جذري عمل وفعل، وقد بحثت فلم أجد بحثاً ذا فائدة حسب علمي القليل، ولكن الباحث نايل ممدوح أبو زيد ([1])  بذل جهداً حول هذا الموضوع وإن لم يخرج بنتيجة صلبة، رغم المجهود الكبير الذي بذله ونشكره عليه، فقد ذهب نايل إلى أن الفعل عن غير قصد، على عكس العمل، وهذا رأي ضعيف كما سيتبين لنا، ثم لاحظ أن العمل يمتد زمانه، وهذا صحيح، ولكن لم يتبين له السبب، ثم رأى أن العمل ضابط الجزاء يوم القيامة، وهذا صحيح نسبياً، لكنه ليس دائماً، فهناك آيات تتوعد الفعلة، كما لم يبين السبب. وهناك غيره من يرى أن العمل لا يكون إلا فيما كان عن فكر وروية ([2])  وليس الأمر كذلك فحتى الفعل يكون عن فكر وروية.

ولهذا سيتبين لنا في هذه الدراسة الفرق الواضح والجلي بين الفعل والعمل وأهمية ذلك في فهم القرآن وحتى الأحكام.

فعل لغة:

أصل واحد صحيح يدل على قيام شيء أو شخص بأثر على شيء آخر. والفعل عكس الكلام فهو تحمل مشقة أو تأثير ويتطلب حركة وجهد. والفعال نِصاب الفأس والقدوم والمطرقة. والفعلة هم عمال الطين والحفر والنجارين ([3])

الفعل في القرآن المكرم:

الفعل في القرآن يشير إلى قيام أمر ما، أول مرة دون أن يسبقه تكرار، فإن تكرر صار عملاً والآيات التي وردت في الجذر فعل ومشتقاته كثيرة تصل إلى العدد 102 آية، لهذا سنختار الآيات التي قد تكون غير واضحة.

فمن ذلك أمر موسى بذبح بقرة، ورغم أن الذبح تكرر منهم دائماً، إلا أن هذا الذبح مختلف، فغرضه جديد ومقصده كشف القاتل. لهذا استخدم لفظة فعل وليس عمل، والجديد أنهم يفعلون ما يؤمرون أي يذبحون البقرة بناء على أمر من الله وليس ذبحاً عادياً. ولو قال لهم اعملوا ما تؤمرون لذبحوا ملايين الأبقار لأنه صار عمل دائم.

{ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ }  [البقرة: 68].

{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}  [البقرة: 71].

وعندما تحدى القرآن الكفار أن يصنعوا سورة مثل سور القرآن، استخدم الجذر فعل، ذلك لأنهم لم يقوموا بهذا الفعل سابقاً، فلو قال ولن تعملوا فهذا يعني أنهم قد فعلوها قبل ذلك.

{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ}  [البقرة: 24].

وفي الحج بين لهم بعض الأعمال التي يجب أن يقوموا بها، فلا رفث ولا فسوق، ولكن إن صار وقاموا بفعل آخر من عند أنفسهم فالله يعلمه، لهذا قال وما تفعلوا من خير...لأنه جديد ولم يُعمل من قبل، فهو ليس من تكاليف الحج.

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }  [البقرة: 197].

وإذا فعل الإنسان الفاحشة أو الظلم، فإن الله قد يغفرها إذا لم يصر على ذلك الفعل واستغفر، أما لو تحول إلى عمل فلن يغفر الله له، لإن التكرار يعني الإصرار. إلا إن كانت من السيئات التي ليس فيها ظلم على الآخرين.

{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }  [آل عمران: 135].

وهذا ما فعله موسى فقد قتل ذلك الشخص، لا عن تخطيط وترصد، بل جاء الأمر لحظة غضب، نعم أراد قتله، ولكن كان الأمر في تلك اللحظة الغاضبة، وهي أول قتلة له ولم يقتل بعدها لهذا قال له فرعون:

{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَٰفِرِينَ }  [الشعراء: 19].

{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ }  [الشعراء: 20].

وعندما تكلم القرآن عن تدمير الأقوام الضالة لم يقل إن الله عملها ضدهم، بل فعلها، ذلك لأن الله فعلها معهم مرة واحدة فلم يتكرر الهلاك عليهم  وكيف يتكرر وهم موتى؟ فاستخدم الجذر المناسب.

{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ }  [الفجر: 6].

{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَٰبِ الْفِيلِ }  [الفيل: 1].

وعندما أراد إبراهيم قتل إسماعيل لم يقل إسماعيل أعمل ما تؤمر بل قال أفعل لأنه سيفعلها أول مرة.

{قَالَ يَٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}  [الصافات: 102].

وعندما وبخ المولى الذين آمنوا في عدم الأداء لم يقل لمَ تقولون ما لا تعملون، فلو قال ذلك لكان يقر بأنهم فعلوها ولو لمرة واحدة، ولكن القوم لم يفعلوها مطلقا لهذا استخدم الجذر فعل وليس عمل.

{ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ }  [الصف: 2].

وتدمير الأصنام من قبل إبراهيم كان لأول مرة، لهذا استخدم قومه الجذر فعل ولم يقولوا من عمل هذا، فلو قالوها لتبين لنا أن تدمير تلك الأصنام حدث عدة مرات.

{ قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِءَالِهَتِنَا }  [الأنبياء: 59].

وفي الآية التالية يبين أن بعض أهل الكتاب لا يستنكرون الفعل الجديد، ويتغاضون عنه، فالنص لم يقل لا يتناهون عن منكر عملوه، فلو قال ذلك لما كان منكراً لأن الأنفس اعتادته وقبلته وصار معروفاً مقبولاً، فهذا فعل يحدث لأول مرة، وهذا يبين مدى فسقهم وفجورهم لأنهم يتقبلون كل منكر حتى لو كان جديداً.

{ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }  [المائدة: 79].

الفعل لا يوجب الجنة أو النار:

في عدد من النصوص يذكر الله بعض الأخطاء والتصرفات، ثم يتحدث عن الأفعال المنفردة، ولم يُبن عقابها أو أنها ستسبب دخول النار، أو حتى الجنة. فمن ذلك ثلاثة نصوص يذكر بعض الأفعال السيئة، ولم يبين أن فاعلها في النار.

{وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَٰمَىٰ بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا}  [النساء: 127].

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}  [البقرة: 197].

{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّءَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }  [الشورى: 25].

وفي آية يتكلم النص عن اليهود الطيبين، وأن أي فعل فعلوه فلن يذهب هباء وسيتم ترضيتهم، ولكن لم يتحدث النص عن الجنة لأنه فعل لم يتكرر، فلو تكرر وصار عملاً لاستحقوا الأجر الأكيد.

{ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ }  [آل عمران: 115].

وفي آية تكلم النص على الحث على التعاون كالصدقة أو المعروف أو الإصلاح، فإن فعل أحدهم ذلك فله أجر عظيم، ولكن لم يحدد النص أن أجرهم الجنة.

{ لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }  [النساء: 114].

وحتى فعل الفاحشة لمرة واحدة يمكن النجاة منه بالاستغفار طالما ليس هناك إصرار، أما لو تحول إلى عمل فقد وجبت النار

{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }  [آل عمران: 135].

وهذا النبي الكريم موسى يتشفع عند الله لما فعله بعض قومه وأنه فعل وليس عمل ومن سفهاء

{ وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَٰتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}  [الأعراف: 155].

والتفرق المذهبي هو فعل وليس عمل، فالقوم يفعلونه لمرة واحدة، ولم يذكر النص أن هؤلاء سيدخلون النار حتماً طالما لم يحدث قتل أو ظلم شديد

{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }  [الأنعام: 159].

ويحذر الله الفئة المترددة بالمدينة من التودد للأعداء، بسبب القرابة، ثم بين أن من يفعل ذلك فقد ضل، ولم يقل فقد وجبت له النار، إلا لو تكرر الأمر وفاحت رائحة النفاق منه، فقد صار عملاً أي عادة.

{ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }  [الممتحنة: 1].

ويشير القرآن إلى ضرورة كتابة العقود وتوثيقها، وألا يتعرض الكاتب والشهيد إلى ضرر، فإن فعلتم ذلك وقعتم في الفسوق. ولم يوضح النص مصير هؤلاء يوم القيامة، طالما هو فعل لمرة واحدة وليس عمل دائم.

{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }  [البقرة: 282].

وفي آية واضحة يبين أن الموافاة ستكون للأعمال وليس للأفعال، ولكن الله يعلم ما فعلوا من أفعال منفردة لم تتكرر

{ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ }  [الزمر: 70].

القاتل في النار:

أما القتل فيخلد صاحبه في النار، حتى لو فعلها لمرة واحدة، طالما فعلها متعمداً، أي بترصد وتخطيط ورغبة دائمة، أما من يقتل نتيجة عراك لحظي غير مقصود، فليس مشمولاً هنا، كما صار مع موسى. وقد حددت الآيات بوضوح أن الفاعل سيدخل النار يوم القيامة فمن ذلك

{ ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمْ تَظَٰهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }  [البقرة: 85].

وفي نص آخر

ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنٗا وَظُلۡمٗا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا ﵞ [النساء: 29-30] 

ثم يؤكد في آخر السورة نفسها بخلود القاتل في النار، رغم أنه قتل تلك النفس مرة واحدة أي هو فعل وليس عمل.

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }  [النساء: 93].

الله يفعل ولا يعمل:

وعند استقراء القرآن كاملاً، سنجد أن الله يفعل ولا يعمل، أي لم يقل إنه يعمل مطلقاً في القرآن، ولكن قال في عدة آيات أنه يفعل. مثل:

{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }  [آل عمران: 40].

ويبدو أن المولى يفعل المعجزات، فحتى تدمير الأقوام وهلاكهم لم يكن في سجل الطبيعة، أي لم يكن من ضمن الاحتمالات الممكنة، ولكن الله دمر الله هؤلاء بفعل منه العزيز المتعال، كحدث غير طبيعي، فهو لا يعمل، ولكن يفعل، وإذا فعل، فعل المعجزة أو ما يقاربها، وهي فعل لأول مرة، ولم يتكرر من قبل.

{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }  [الروم: 40].

وحتى اقتتال أصحاب المذاهب الدينية كان من المفروض أن يقع كل حين، لكن الله قد يشاء ويتدخل فيمنع الاقتتال، فالله يفعل ما يريد.

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }  [البقرة: 253].

والسموات والأرض كان يفترض أن تزول بعد حين، ولكن الله يفعل فعله فيجعلها تخلد، لأجل أن تخلد الجنة والنار، لأن الجنة والنار على هذه الأرض كما شرحنا، وهو فعل معجز، يخالف قوانين الكواكب والنجوم.

{ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }  [هود: 107].

وفي النص التالي يتحدث قبلها عن مصير المنافقين وأنهم في الدرك الأسفل من النار، ثم يبين أن تعذيبهم في النار هو فعل وليس عمل، لأنه لم يحدث سابقاً، فهم سيدخلون النار لأول مرة، فلم يدخلوها قبل ذلك.

{ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا }  [النساء: 147].

الخلاصة:

لا يستخدم القرآن الجذر فعل إلا إذا كان الفعل جديداً تماماً، فتدمير قوم نوحٍ مثلاً هو فعل ولم يتكرر، وكل فعل من الله لم يتكرر ولن يتكرر، وهو يشبه المعجزة، فمسخ أهل السبت إلى قردة هو فعل معجز، وتدمير قوم عاد أصابهم لمرة واحدة هو أيضاً فعل معجز يخالف الطبيعة، وما قُرر في الناموس عن عمل الأرض وحركتها، فجاء ما يخالفها، فهو فعل جديد لهذا هو معجز. ونفس الشيء ما فعل المولى مع زكريا فزوجته كانت عاقر، ولكن الله فعلها لأول مرة له ولزوجه بفعل معجز. 

العمل في القرآن

العمل لغة:

أصل واحد وهو عام في كل فعل يُفعل. والعِمالة أجر ما عُمل. والمُعاملة مصدر من قولك أنا أعامله معاملة. والعَمَلَةُ هم القوم يعملون. وعامل الرُمح هو ما دون الثعلب. والرجل يعتمل لنفسه أو لقومه أو يستعمل غيره أو يُعمل رأيه أو كلامه. واليعملات هم الأنثى من الإبل. وشراب معمل أي فيه لبن وعسل وثلج. وعوامل الدابة قوائمها. والعوامل بقر الحرث والدياسة ([4])

عمل في القرآن

ابتداءً، لاحظنا في أن الفعل جديد ولا يقوم إلا مرة واحدة، أما العمل، سنجد أن هناك آيات تؤكد أنه الفعل المتكرر الدائم حتى لو كان عدد تكرار الفعل مرتين فقط

والعمل ورد (360) مرة بمشتقاته ولكن سننتقي بعض الآيات حتى لا نطيل على القارئ.

فالمنافقون مثلاً قاموا بردة فعل كلما حدثت فتنة، وكرروا الفعل نفسه كلما عادت الفتنة، فلهذا قال أنه بصير بما يعملون وليس بما يفعلون.

{ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }  [المائدة: 71].

وهذا إبليس يكرر الفعل عدة مرات وهو وسوسته للبشر فيدفعهم إلى تزيين الخمر والميسر والأنصاب في أعينهم، فلهذا كان عملاً وليس فعلاً لمرة واحدة.

{ يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَٰنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }  [المائدة: 90].

وقوم سبأ اعتادوا على بعض الأعمال السيئة والتي سببت في ضلالهم الدائم، ولو كان فعلاً واحداً منهم لما وصلوا لهذه المرحلة من الخنوع للشيطان. فالتكرار جعلهم يستمرؤون أعمالهم.  

{ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ أَعْمَٰلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ }  [النمل: 24].

وهذا نوحٍ يلح ويكرر الدعاء في انقاذ ابنه الكافر، فحذره القرآن من هذا العمل ولم يقل هذا الفعل، لأنه كرر الدعاء عدة مرات في عدة مناسبات. فالعمل في الآية هو عمل نوح وليس عمل ابنه الضال، وهو محاباة الأقارب وطلب نجاتهم رغم إجرامهم. والنبي الكريم نوح لم يفعل هذا إلا بعد أن ظن أن ابنه من أهله، أي ممن يتكفل برعايته والعناية به وتبادل العطف والاهتمام، وقد وعده الله بإنقاذ أهله، فبين له المولى أنه ليس من أهله فقد استقل عنه.

{ قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٍ}  [هود: 46].

وأهل السفينة لم يقل النص أنهم يفعلون في البحر، بل قال يعملون لأنه فعل متكرر دائم، فهم في كل يوم يبحرون.

{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَٰكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}  [الكهف: 79].

وقوم لوط اعتادوا فعل الخبائث فأطلق عليهم النص عمل الخبائث لتكرارها.

{وَنَجَّيْنَٰهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَٰئِثَ}  [الأنبياء: 74].

وقد استخدم سليمان الجن للغوص في البحار، وفعلوا ذلك عدة مرات ولهذا قال النص أنه عملٌ وليس فعلاً.

{ وَمِنَ الشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَٰفِظِينَ }  [الأنبياء: 82].

ومن يتولى الصدقات أي يفعلها دائماً كوظيفة، سماه النص عامل عليها ولم يقل فاعل، فمن يقم على الصدقات لمرة واحدة لا حق له فيها، ولكن من صارت له وظيفة فله حق.

{ إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا}  [التوبة: 60].

الحساب على العمل وليس الفعل

وهكذا يتبين لنا أن العمل هو الفعل المتكرر الدائم. وقد يقول قائل: ما فائدة هذا التفريق بين الفعل والعمل؟ سنجد الجواب ببساطة أن المولى سيحاسب على العمل لا الفعل، إلا فعل واحدٌ قد شرحناه بالأعلى وهل القتل.

{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ}  [البقرة: 25].

{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَٰرَىٰ وَالصَّٰبِءِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ}  [البقرة: 62].

 { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا }  [النساء: 124].

{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّٰلِحَٰتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }  [البقرة: 82].

{ وَأَقِيمُوا الصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا الزَّكَوٰةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }  [البقرة: 110].

{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْءَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }  [البقرة: 134]

{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَٰلَهُمْ حَسَرَٰتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ النَّارِ }  [البقرة: 167].

{ وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ }  [آل عمران: 57].

{ أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَٰمِلِينَ }  [آل عمران: 136].

الله وأعمال الناس وأفعالهم:

نجد في القرآن أنه يميز بين الفعل والعمل في رؤية الله فالله عليم بالفعل وعالم به وخبير بالعمل

{ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا}  [النساء: 127].

{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }  [البقرة: 197].

{وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}  [الشورى: 25].

بينما العمل فإن الله به بصير وبه خبير وبه محيط، لكن ما يهمنا في بحثنا هو الخبير لأنه المناظر للعليم ولكن هذا يحتاج إلى بحث مطول عن معنى خبير وعليم وعالم، فلنتركه إلى حين الكتابة عنه

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }  [آل عمران: 180].

{ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }  [المائدة: 8].

الخلاصة:

نستخلص من هذا أن الفعل يكون جديداً لم يُفعل من قبل، بينما العمل فهو الفعل المتكرر، والحساب يكون على الأعمال وليس الأفعال، لأن تكرار الفعل الذي هو العمل يؤكد على إصرارنا على صنع السوء.

وأن التوبة مفتوحة حتى للذين يعملون السوء شرط الإقلاع عن العمل قبل حضور الموت، وطلب المغفرة. وهناك أفعال لا تُغفر مثل القتل حتى لو حدث لمرة واحدة، إذا كان القاتل مصراً ومخططاً لفعلته.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني



([1]) نايل ممدوح أبو زيد، الفعل والعمل في القرآن الكريم، مؤتة للبحوث والدراسات المجلد السابع عشر العدد السادس  2002 . ص 140

([2]) «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (3/ 1526)

([3]) «مقاييس اللغة» (4/ 511) «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (3/ 1692)

([4]) «مقاييس اللغة» (4/ 145) «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (3/ 1526)

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -