الإفك في القرآن المكرم

 



الإفك في القرآن المكرم

أفك لغة:

أصل واحد يدل على قلب الشيء وصرفه عن جهته. وأفك الرجل أي كذب. والإفك الكذب. وأفكت الرجل عن الشيء أي صرفته عنه. والمؤتفكات الرياح التي تختلف مهابها. وأرض مأفوكة أي لم يصبها المطر فأمحلت. وائتفكت الأرض أي احترقت من الجدب ([1]) 

الإفك في القرآن

الإفك في القرآن هو قلب الحقيقة وعكسها، أو قلب أي شيء، فمن ذلك:

قصة السيدة التي وردت في سورة النور، فتلك الصحابية المكرمة التي اتهمت في شرفها (وهي ليست أمنا عائشة كما تزعم المرويات) يبرأها القرآن ويؤكد أنها عكس ذلك تماماً فهي طاهرة بريئة عفيفة، ولهذا استخدم النص لفظة إفك أي أن الذين رموها بالفاحشة قد قلبوا الحقيقة ظهراً على عقب، رغم أنهم يعلمون حقيقة طهرها.

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}  [النور: 11].

بل كانت من المؤمنات اللاتي يفعلن الخير، فقد تجاوزت إلى مرحلة الإحسان فكان جزاء عملها هذا اتهامها في شرفها من قبل شرذمة توعدهم الله بالنار.

{ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ }  [النور: 12].

وفي الآيات التاليات

{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَىٰهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَاءُو ظُلْمًا وَزُورًا }  [الفرقان: 4].

   { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ }  [سبأ: 43].

زعم الكفار أن الرسول قد قلب الحقائق وعكسها أي قام بالإفك، لأنه زعم أن الملائكة الأصنام لا تنفع، ولا تضر ولا تخلق ولا تميت، وهذا قلب وعكس للحقيقة التي يعتقدونها وصارت من المسلمات. أنظر للآيات التي قبلها لترى.

بينما إبراهيم فقد واجه قومه قلب عليهم حقيقة الأصنام التي يعبدونها فهي لا تضر ولا تنفع وهي مجرد حجارة لا قيمة لها وهذا هو إفكهم، فقد جعلوا تلك الحجارة المخلوقة الضعيفة جداً والعاجزة آلهة ترزق وتميت وتحيي.

{ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَٰنًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا }  [العنكبوت: 17].

{ أَئِفْكًا ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ }  [الصافات: 86].

كذلك قوم عاد قالوا لنبيهم مثل هذا

{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا}  [الأحقاف: 22].

فإذا جاء الإفك كنائب فاعل مثل يُؤفك أو يُؤفكون أو تُؤفكون، فهو يقصد الرد على الخصوم، الذين يزعمون كيت وكيت من العقائد والأفكار، فجاء القرآن بأدلة وحجج على عكس معتقدهم، وبين لهم أنه ليس إفك أي ليس قلباً للحقائق، وكأنه يقول لهم: كيف يقلب الشياطين لكم الحقائق وها هي الأدلة أمامكم؟

والذي يأفكهم هو الشيطان ومعه شياطين الإنس والجن، فالقرآن يتعجب منهم فمع كل هذه الحقائق يأفكهم الشيطان أي يخدعهم ويقلب لهم الحقيقة لتصبح باطلاً عندهم.

{ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْءَايَٰتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ }  [المائدة: 75].

{ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ }  [الأنعام: 95].

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَٰرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَٰهِهِمْ يُضَٰهِءُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَٰتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ }  [التوبة: 30].

{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ }  [يونس: 34].

{ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَٰلِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ }  [فاطر: 3].

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ }  [العنكبوت: 61].

{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ }  [الروم: 55].

{ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ }  [غافر: 62].

{ كَذَٰلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِءَايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }  [غافر: 63].

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ }  [الزخرف: 87].

إما السحرة فقد استطاعوا إيهام المبصر أن عصيهم تسعى. ولا ندري هل كان يراها الناظر ثعابين تسعى أم مجرد عصيٍّ تسعى، ولكن المهم هو أنهم قلبوا الحقيقة وهي أنها عصي لا تتحرك فبدت للناظر أنها تتحرك وهذا هو الإفك وقلب الحقيقة، فمن أعظم الخصائص المميزة للعصا أنها ثابتة صلبة لا تتحرك مطلقاً بدون مُحرك، وحدد نوع الحركة وهي السعي، أي كأنها تتجه نحو موسى، ولهذا نرجح أنها لازلت عصياً ولم تتحول إلى ثعابين.

{ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }  [الأعراف: 117].

{ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ }  [طه: 66].

{ فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }  [الشعراء: 45].

أما المؤتفكات فهي قرى مثل مدين، ويرى بعضهم أن المؤتفكة هي ديار قوم لوط وجمعها هو المؤتفكات لأنها عدة قرى متجاورة. وهذا معقول لأن الإفك هو القلب وديار قوم لوط قد قلبت ظهراً على عقب.

{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ وَأَصْحَٰبِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَٰتِ }  [التوبة: 70].

{ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَٰتُ بِالْخَاطِئَةِ }  [الحاقة: 9]

{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ }  [النجم: 53].

{ فَجَعَلْنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ }  [الحجر: 74].

والشياطين تتنزل على كل أفاك يقلب الحقائق رأساً على عقب، فقد بلغ من الكفر مبلغه وجاوز المدى في العناد والجحد حتى أنه صار يزعم أن الباطل هو الحقيقة فلهذا تتنزل عليه الشياطين.

{ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }  [الشعراء: 222].

{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }  [الجاثية: 7].

 الخلاصة

أن الإفك نوع من أنواع الكذب، ولكنه يقلب الحقيقة إلى باطل، فلا يكتفي باختلاق باطل جديد وهو الافتراء، بل يخلق باطلاً مناقضاً تماماً للحق فكأنه قلب الحق إلى باطل، وجاء بعكسه تماماً، فتلك الصحابية الطاهرة العفيفة قلبوا صورتها وصورها بأنها عاهرة، والكفار قلبوا حقيقة الأصنام الحجرية الصماء البكماء إلى آلهة تحي وتميت.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني

 

 

 



([1]) «مقاييس اللغة» (1/ 118) «المعجم الاشتقاقي المؤصل» (3/ 1705)


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -